انه خبر عز على الاذن مسمعه، واثر في القلب موقعه نعي من لا اسميه اكبارا، ولا اكنيه اعظاماً لقد كسفت شمس المعرفة، وكسدت سوق الادب، ووقف فلك الكرم، وانثلم حد السيف والقلم.
قد رزئنا من الطنطاوي عالماً في شخص، وامة في نفس، مضى والمعالي تبكيه.
ولكن الله سبحانه وتعالى سوى بين البرية، في ورد حوض المنية وانما تقدم ايام وتأخر اعوام.
لكن ما الحيلة وقد حل القضاء، لا تسخط لقدر الله وهو عدل ولا نكره قضاءه وهو فصل فانا لله وانا اليه راجعون تسليماً لما امضاه ورضا بما قضاه.
والله يحيي ما كانت الحياة انفع ويميت اذا كان الممات اصلح نعم الله فيه عظيمة وقد جبر الكسر واقيم الظهر واوجب الصبر ولكن لا مصيبة مع الايمان ولا معزي كالقرآن.
ورضي الله عن الطنطاوي وارضاه، وجعل الجنة مأواه، وغفر له ذنبه وخفف عليه حسابه، وجعل آخرته خيراً من اولاه، اكرم الله مرجعه وبرد مضجعه.
لقد زرت الشيخ علي بن مصطفى الطنطاوي رحمه الله في مدينة جدة وذلك في 5/5/1419ه وتذاكرت معه كتاباته وذكرياته وقد قرأتها جميعاً فكان مما دار في المجلس آنذاك ان سألته عن بعض الشخصيات الاسلامية والاساليب الادبية.
سالته عن الرافعي فقال ميزة الرافعي في توليده فمن حاول تقليده وقع في تعقيده وعجز عن توليده .
وسألته عن المتنبي فقال الأحامد ثلاثة احمد بن الحسين المتنبي، واحمد المعري، واحمد شوقي واشعرهم عندي شوقي .
وسألته عن سيد قطب فقال: يكفيه ميزة انه مات شهيدا,, وانه درس معه في دار العلوم.
وقال رحمه الله: الدجاجلة ثلاثة الاول الجنرال غورو والثاني موشي ديان والثالث المسيح الدجال الذي يظهر قبل يوم القيامة.
ثم قال رحمه الله: ان شعراء دمشق اربعة 1- الزركلي المشهور 2- خليل مردم بك 3- شفيق جبري 4- محمد البزم.
وسألته عن بعض المواضيع في كتابه الذكريات فمنها عن اعظم كتّاب اللغة العربية فقال هم خمسة الجاحظ وابو حيان التوحيدي والغزالي وابن خلدون وابن عربي واشاد بكتاب حفني ناصف قواعد اللغة العربية وقال عنه: وهذا الكتاب يغني عن النظر في غيره وهواعجوبة في جمعه وترتيبه، وايجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد وهو اصح واوضح من شذور الذهب ومن ابن عقيل، وقال لي ان اول كتاب قرأته هو كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري وقال ان اوثق واوسع كتاب اعرفه في قواعد الكتابة كتاب المطالع النصرية للشيخ نصر الهوريني ثم اجمع كتاب بعده ادب المملي .
ومن خلال قراءتي للذكريات رأيت فيها كل فن، رأيت فيها الحكم الفقهي من جهة كحكم تطبيب الرجال للنساء في الولادة (1) وكذلك الاحتفال بالمولد النبوي ورأيت فيها الراية الادبية خفاقة في صفحات الذكريات من جهة اخرى تكلم عن الاسلوب الادبي واساليب الكتاب الاقدمين وانها على اربعة اضرب:
الاول: اسلوب يحاول صاحبه ان ينقل الى نفسك مافي نفسه هو بأصح عبارة يقدر عليها كابن المقفع وعلى طريقه مش كرد علي، وشكيب ارسلان ومحب الدين الخطيب، واحمد امين.
الثاني: اسلوب يجمل العبارة التجمل المقبول، ويأتي معها بما يقاربها وما يناسبها من طريق السير وغريب الخبر وربما ابتعد بهذا الاستطراد عن المعنى المراد فضل عنه او نسيه او رجع اليه بعدما ابتعدعنه وهو يخرج بك من معنى الى معنى ومن فكرة الى فكرة حتى لا تدري ماذا كان عنوان المقال ولكنك لا تمل وهذا اسلوب الجاحظ.
الثالث: اسلوب يعتني بالعبارة مثل عنايته بالفكرة بل ربما زاد عليها فاضاع المعنى لتجميل المبنى يقرن بالكلمة اختها او بنت عمها ويحشر معها من الابيات ما يؤيدها فيختلط الشعر بالنثر وهو اسلوب ابن العميد,.
الرابع: اسلوب يجعل العبارة وحدها هي المقصودة يصف صاحبها كلاما حلواً ولو كان خلواً من المعاني، مسخت فيه الافكار الفاظاً، والصور كلمات وهذا هو اسلوب ابن العميد (2) .
ورأيت في الذكريات ذكر الشخصيات الاسلامية كما ذكرت آنفا فحيناً تحدث عن العقاد والمازني والرافعي وطه حسين وفصل في كل واحد رأيه (3) وحينا عن محمد زاهد الكوثري وعن علي عبدالرازق (4) وتكلم عن حسن البنا وسيد قطب (5) .
وتكلم عن الحياة الأدبية عموما في العالم الاسلامي العربي فذكر الحياة الأدبية في فلسطين والانتاج الأدبي في المغرب والأدب في الحجاز وادب الحضر والبدو في الاردن والحياة الأدبية في تونس, (6)
وتكلم عن الشعراء وشعرهم ورأيه فيهم وتحدث عن بشار بن برد وعن ابي نواس وتحدث عن احمد شوقي وعن حافظ ابراهيم ومرثياته والفرق بين شاعرية عمر ابو ريشة وانور العطار وتحدث عن الاسلوب العلمي والاسلوب الادبي وان الاسلوب العلمي يعتمد على الافكار والاسلوب الادبي يعتمد على الصور,.
وتحدث عن وصف الطبيعة عند الشعراء وانها على ثلاثة اضرب وهو كلام جميل جدا (7)
وتكلم عن المعلمين وانهم قسمان:
القسم الاول: المعلم الذي فهم المسألة، وهضمها، حتى صارت ملكاً له يستطيع ان يفهمها من شاء، يقلب العبارات، ويبدل الاساليب، حتى يصل الى العبارة المبينة والاسلوب المناسب.
القسم الثاني: معلم يشرح الدروس فلا يفهم عنه ويعيد الشرح فلا يصل الى الافهام وهنا هو لم يفهم الدرس وانما حفظه فهو يكرره كما حفظه لا يستطيع ان يخرج عنه.
ويصف الطنطاوي الكاتب بأنه هو الذي يخرج لك مكنون نفسه حتى تراه ظاهراً لعينك ويصف لك المشهد الغائب عنك حتى تبصره امامك، ويملك الفكرة فيتصرف بها تصرف المالك، حتى يدخلها ذهن الشاك او المنكر او المعارض كما يدخلها ذهن الموافق او الخلي, هوالذي يملك عيناً كعين المصورة الكاميرا تسجل كل جميل في الكون او قبيح، وكل محبوب في النفس او مكروه تسجيلاً يخلده ويبقيه.
ثم ان الطنطاوي يفضل تعليم الابتدائي وقد قال اقول لكم الحق: لقد وجدت انه ليس ابرك ولا انفع ولا اجلى للصواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية لان المعلم الابتدائي هو الاساس,.
ولو كان في يدي شيء من الامر، او كان لرأيي قليل من الوزن، لاقترحت ان يشترط في تعليم الابتدائي ان يكون المعلم حاملاً الشهادة الجامعية وفوقها دورة في التربية وتعليم الصغار وان يعطى مثل راتب الشهادة الثانوية نطالبه بالكثير بعد ان نعطيه الكثير.
ان ضعف معلم الابتدائي لا تصلحه قوة مدرس الثانوي ولا استاذ الجامعة ثم قال:
فلولا المنغصات في التعليم الابتدائي ولولا رعونة بعض المديرين وسخافة عقولهم، واهتمامهم بالصغائر، ولولا انتفاخ بعض المفتشين ولولا ان من الانظمة والقوانين ما وضعه اناس غرباء عن التعليم لكان التعليم الابتدائي نعمة من النعم,رحم الله الطنطاوي رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.
هوامش:
(1) 1/131
(2) 2/25
(3) 3/26
(4) 4/34، 36
(5) 5/121، 141
(6) 5/17، 19، 20، 22، 25
(7) 3/312