Thursday 1st July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 17 ربيع الاول


ضحى الغد
الدعاء لي، والمقالات لكتّابها

* مات الشيخ: علي الطنطاوي - رحمه الله,, وغادر دنيانا الفانية بعد ان أثَّر في المئة سنة الماضية تأثيراً عميقاً 1327ه - 1420ه، بما منحه الله من علم شرعي، وموهبة أدبية، وملكة فكرية، وقدرات أصيلة على الكتابة والخطابة والحديث, ولقد صفَّى لنا تجاربه، وقدم لنا خبراته ونصائحه بروح المؤمن وإخلاص الصادق، ويقين المقبل على الله!
لقد اثرى الساحة الإعلامية على مدى العقود الماضية، واستثمر وسائط الإعلام على اختلاف أنواعها فأفتى وأصاب، ووعظ فأجاد، ولكم بكت عينه وخشع قلبه، وأثر على سامعيه ببليغ القول ونثير الأدب وطريف الشوارد والنوادر الشرعية والأدبية، والتجارب العلمية والعملية!
ولئن مات علي فإن علمه المحفوظ في القنوات الإعلامية على شتى أنواعها، ومنها مؤلفاته الكثيرة، هذا العلم حي باق إلى ان يشاء الله، إن فكر الشيخ الطنطاوي رحمه الله، فكر مأمون موثوق به صالح لكل أفراد الناس على مختلف أجناسهم وأعمارهم وتخصصاتهم وثقافاتهم ذلك لأنه يتجه إلى قلب الإنسان وإلى روحه وإلى أمله وألمه وماضيه ومستقبله! وهو فكر أصيل خالد - بإذن الله - ولعله - إن شاء الله - من العلم الذي يُنتفع به، والذي يكون ثوابه لصاحبه مابقي العمل وبقيت الحياة، ليوم ليس فيه إلا الحساب والجزاء, ولسنا نزكي على الله أحداً، لكننا نحسبه كذلك والله حسيبنا وحسيبه, لقد كان - رحمه الله - من أكثر العلماء جهادا بلسانه وقلمه وإخلاصاً لدينه، وصدقا مع ربه وزهداً بالدنيا، ورغبة في الآخرة، وكان لايحب الثناء والشهرة ويكره الرياء والسمعة، متواضعاً ساعيا لرفعة شأن أمته وتمكينها في الأرض.
ومن المؤلفات القيمة والرائعة الحافلة بذخائر الأدب وتجارب الحياة، كتابه من حديث النفس الذي صدرت طبعته الأولى عام 1379ه اي قبل أكثر من اربعين سنة، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات الصحفية التي نشرت له، والأحاديث الإذاعية التي أذاعها قبل عام 1379ه، وأسلوبه وأفكاره وأمانيه في هذا الكتاب في منتهى ألقها وقوتها وجزالتها، فهي في فترة عنفوانه الأدبي ونضجه الفكري، وتجد في هذا الكتاب موضوعات شتى ذات علاقة بالحياة الاجتماعية عموماً، ولقد اعتاد الطنطاوي ان يكتب مقالة تأملية عن حياته بعد مضي عقد من عمره، فكتب: على ابواب الثلاثين ، على عتبة الاربعين ، بعد الخمسين وهي من افكار المصارحة والمكاشفة مع النفس، ومن ميدان النفس اللوامة التي تحاسب صاحبها حسابا عسيراً على التفريط والتسويف!
وفي مقاله في لج البحر كتب عن حادثة غرق في البحر تعرض له، وتم إنقاذه بعد ان أشرف على الموت غرقاً، يقول مانصه: مات علي الطنطاوي,, وليس عجيبا ان يموت، والموت غاية كل حي، ولكن العجيب ان يرجع بعد ما مات، ليصف للقراء الموت الذي رآه! , ثم يقول واصفاً لحظات غرقه: ونظرت فإذا المقاييس كلها تتبدل ساعة الموت، وإذا كل ماكنت أحبه وأنازع عليه قد صار عدما! وإذا أنا لم آخذ معي شيئاً بنيت داراً فما حملت معي منها حجراً، واقتنيت مالاً فما كان لي منه إلا ما ظننت من قبل أني خسرته، وهو ما أخرجته لله، وكتبت آلافا من المقالات في عشرات من السنين، وكان لي من القراء والمستمعين ملايين وملايين فما نفعني إلا كلمة قلتها لوجه الله، واين هي؟ لقد تركني هؤلاء المعجبون (كما يقولون) بأدبي وبياني، أموت الآن وحدي ماجاء واحد منهم ليأخذ بيدي، وما أقبل واحد منهم يدفع الموت عني! .
ثم يقول في خاتمة هذا المقال: لقد خرجت بنفس جديدة، واتعظت موعظة أرجو ان تدوم لي وعرفت قيمة الحياة، وحقيقة الموت، ونحن لانعرف من الموت إلا ظاهره دون حقيقته، نراه عدماً، ونندب القريب والحبيب أن وضعناه في حفرة باردة، وخلفناه وحيدا، تأكله الدود، وليس حبيبك الذي أودعته الحفرة ولكن جسده، والجسد ثوب يُخلع بالموت، كما تخلع الحية ثوبها، فهل يبكي أحد على ثوب خلع؟ وما الموت إلا انتقال إلى حياة أرحب وأوسع، إلى النعيم الدائم أو الشقاء الطويل، وبعد فلا يهنئني احد بالسلامة من حادثة الغرق بل ليدع لنفسه ولي بحسن الخاتمة، فإني أخاف الله ألاَّ أجد ميتة أكون فيها حاضر القلب مع الله، مستشعراً التوبة، متصوراً الدار الآخرة، كما كنت هذه المرة ! وفي مقاله بعد الخمسين يقول في خاتمته : يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر وما ادخرت من الصالحات، ولقد دنا السفر وماتزودت ولا استعددت، لقد قرب الحصاد وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العبر، فما اتعظت ولا اعتبرت، وآن أوان التوبة فأجلت وسوّفت! اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت، فما يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم سترتني فيما مضى، فاسترني فيما بقي، ولا تفضحني يوم الحساب، ورحم الله قارئا، قال: آمين .
آمين يارب العالمين، أما مقدمة هذا الكتاب الذي نتحدث عنه، وعنوانه: من حديث النفس فقد قدّم له مؤلفه الشيخ الطنطاوي رحمه الله، مقدمة قال في نهايتها: أسأل الله ان يوفقني، وألا يحرمني الثواب على كل ما أكتب، وان يجعله من العلم النافع، والثواب هو وحده الذي يبقى، على حين يفنى الاعجاب، وتذهب الأموال، ويعود إلى التراب كل ما خرج من التراب، ولدعوة واحدة لي بعد موتي من قارىء حاضر القلب مع الله، أجدى علي من مائة مقالة في رثائي، ومائة حفلة في تأبيني، لأن هذه الدعوة لي، والمقالات والحفلات لكتابها وخطبائها، وليس للميت فيها شيء! واستغفر الله وأتوب إليه , انتهى.
اللهم اغفر له وارحمه، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
عبد الكريم بن صالح الطويان

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved