Thursday 1st July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 17 ربيع الاول


قضية للنقاش
العولمة استعمار جماعي للأرض
رضا محمد لاري

يذهب جمهرة المفكرين الاقتصاديين في دول العالم الثالث إلى أن الجات والعولمة اللتين تنادي بهما الدول الصناعية الغنية، هما استعمار جماعي يقوم به الأغنياء من الدول ضد الفقراء من الدول على مستوى الكوكب الأرضي.
ولما كانت دول العالم الثالث قد عانت من الاستعمار الغربي طوال مراحل التاريخ الحديث، أصبح من حقها أن تبدي رأيها في ما يخطط ضدها ويرمي إلى اخضاعها لنفوذ لا تستطيع التخلص منه بالكفاح المسلح كما فعلت مع الاستعمار العسكري أو بالتمرد الاقتصادي ضد التسلط الاقتصادي عليها، لأن الاستعمار بتصغير الدنيا، سيحول الدول إلى مجرد أقاليم في دولة واحدة، تكون السيادة فيها للقوي الذي يفرض الخضوع على الضعيف.
المسألة أكبر بكثير من حسن استغلال الموارد الطبيعية للدول ·الأقاليم عند الحجم الأمثل لها، لمواكبة الحياة الدولية القادمة لاكتساب القوة بها، لأن الحقيقة متوقفة على الحضور أو الغياب العلمي.
إن التخطيط العالمي قد صيغ بصورة تعطي التفوق للدول ذات الحضور العلمي بكل ما يترتب على ذلك من سلطة وحكم، ويفرض التخلف على الدول ذات الغياب العلمي بكل ما يترتب على ذلك من خضوع وتبعية في ظل هذا التخطيط الدولي المحكم لن يعني الاستقلال السياسي التمتع بالسيادة وحرية اتخاذ القرار لأن النفوذ الاقتصادي الدولي القوي الذي سيحكم المصالح سيفرض على الضعفاء تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من الأقوياء.
الحديث عن لعبة المصالح في العلاقات الدولية بالغد ستختلف عن أدوارها في العلاقات الدولية القائمة اليوم، لأنها في المستقبل القريب ستعطي الأولوية لمصالح الأقوياء من أصحاب النفوذ، وتجعل مصالح الضعفاء تخضع بدون ارادتهم إلى الدوران في افلاك مصالح الأقوياء بعد تسميتها بالمصلحة الدولية العامة.
إن صورة ما يحدث أو ما سيحدث في عالمنا المعاصر كما يراها مفكرو دول العالم الثالث يمثل تحول خطير للغاية في الحياة الإنسانية لأنها ستجبر أمماً كثيرة على الدخول في الغيبوبة الاجتماعية بتأثير مخدر النظام الدولي الجديد الذي يفقدهم كينونتهم الثقافية وخصوصيتهم الذاتية، واجبارهم في ظل غياب الوعي الدائم على الانتماء إلى ثقافة غريبة عنهم ويدفعهم على التحرك في اتجاهات تخدم مصالح غيرهم بتفضيلها على مصالحهم الحقيقية بعد ان يفقدوا حسهم فلايدركون مغبة ما يفعلون.
يؤيد هذا الفكر الصادر من العالم الثالث كتاب ·التفوق وشجرة الزيتون لكاتبه الأمريكي نوماس فريدمان، الكاتب السياسي بجريدة النيويورك تايمز، والذي يحتاج لتأليف كتابه القيام برحلات متصلة إلى الأركان الأربعة من العالم.
يمكن تلخيص ما جاء في كتاب ·التفوق وشجرة الزيتون أن العولمة ليست توجهاً اقتصادياً وليست مجرد طريق مرور مفتوح بين دول العالم ولكنها نظام دولي متكامل يحاول الأقوياء فرضه على الدنيا بدون مراعاة لظروف الضعفاء, ويؤكد توماس فريدمان بوضوح أن العولمة وضعت لتحل محل الحرب العالمية الباردة التي وضعت أوزارها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لتفرض التوازن الدولي بين الكبار من الدول بتحريك جيوش الأموال والتكنولوجيا والمعلومات بدون الاصطدام بالعوائق التي تفرضها الحواجز القائمة بين الأوطان بهدف اقامة سوق عالمي واحد بعد تحويل العالم إلى قرية كونية يمتص التنافس التجاري فيها دوافع الغضب والصدام بين الدول الكبرى.
العولمة بهذا المعنى تصبح ميدانا للحرب الباردة الاقتصادية يقوم فيها الصراع دون الانزلاق في القتال لأن الصراع في كلياته وجزئياته يدور حول اتقان صناعة السلعة ورخص ثمنها مع توفير الفرص المتاحة والمتساوية لكل القادرين على اللعب في السوق الدولية الواحدة, بدون الفهم المتكامل للعولمة النظام الدولي الجديد سيصعب على الإنسان فهم أخبار الصباح أو معرفة أفضل السبل لاستثمار الأموال أو سلامة التفكير في الدنيا والاتجاهات التي تسير فيها.
ان فهم العولمة بادراك متكامل يجعلنا نقرر أننا على أبواب حقبة تاريخية للإنسان تستهدف السيطرة على سياسات الأقاليم والتحكم المباشر وغير المباشر في كل العلاقات الدولية في جوانبها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية.
ببساطة متناهية يقول كتاب ·التقدم وشجرة الزيتون لو فهم الإنسان المعاصر ما يخطط له من مسالك بعد تبديل معالم الحياة على الأرض، لنفر من الدنيا دون أن يجد لنفسه مفراً منها، بعد أن تصبح في نظره قاتمة السواد فيعجز في ظلمها وظلماتها عن العودة إلى نظرته التفاؤلية لهذه الدنيا بكل ما يرتبط بها من طموحات لازمت الإنسان في مشوار حياته على الأرض وكانت سبباً في تقدمه فوق مدارج التطور والرقي الذي تنعم به الإنسانية اليوم.
إن توماس فريدمان يحدثنا بصراحة واضحة عن التصادم العنيف بين التفوق السائد في الغرب وبين التخلف القائم تحت ظلال شجرة الزيتون، بكل ما يؤدي اليه ذلك التصادم من اغتيال للمشاعر الإنسانية المرتبطة بالأرض والمتعاطفة مع القيم والمثل السائدة عليها، فتخرج الحياة عن مقوماتها الطبيعية، وتدخل الإنسان في نظام عالمي العولمة بعيداً عن الروابط الثقافية التي تجمع الناس أو الانتماء الجغرافي الذي يربط الإنسان بالارض، أو الالتزام بالمثل والقيم والعادات التي تميز الناس بعضهم عن بعض أو التمتع بحرية الاختيار لسبل الحياة التي تتفق مع قدراته وامكاناته.
ان الحياة بالعولمة في مطلع القرن الواحد والعشرين هي في واقع الأمر تكرار أكثر تعقيداً للحياة الاقتصادية التي قامت في مطلع القرن التاسع عشر وعومل فيها الإنسان على مبدأ دعه يعمل دعه يمر,, وقد حقق له ذلك مكاسب مادية باتساع فرص العمل أمامه، ولكنه سلبه حريته ومبادئه وثقافته وكينونته الذاتية فشلت قدرته على التفكير، فخسر نفسه في مقابل اتساع رزقه.
فقدان الذات المستقلة باغراءات المال خلخل الحياة الاجتماعية وجعل الذين يمتلكون اكثر قسوة على الذين لا يمتلكون فقامت في ظل هذا الفساد الرأس مالي نظرية اقتصادية قدمها كارل ماركس في كتابه رأس المال، وكانت أكثر فساداً في رؤيتها ومعالجتها للحياة بسعيها إلى تقديم الحماية للعمال وتضرب أرباب العمل، هجرت بالمساومة من موطنها الأوروبي وطبقت في روسيا القيصرية بمسمى الشيوعية التي مثلت أشرس مظاهر الظلم الذي عرفه التاريخ البشري على الإنسان.
معضلة العولمة التي يسعى الغرب إلى فرضها عنوة على الدنيا بأسرها، بغض النظر عن الظروف الاقليمية التي يعيش فيها الإنسان، والاختلاف الثقافي الذي يحكم تفكيره، والمُثل والمبادىء التي تحدد مسارات حياته.
كل هذه التناقضات القائمة بين أقاليم الأرض المختلفة تفرض علينا الخوف من نكبة اقتصادية جديدة تدخل العالم في متاهات يصعب الخروج منها، خصوصاً في ظل الحواجز النفسية، والعداءات القائمة التي ظهرت بوضوح على سطح المسرح السياسي الدولي، التي تفصل الدول الغنية عن الدول الفقيرة ولجوئها دون شك تحت وطأة الظلم الواقع عليها إلى التمرد، فتثور على العولمة وواضعيها وتختار لنفسها مبادىء جديدة تحيطها بسياج حديد يحجب الرؤية الإنسانية عن ما يحدث للإنسان وراء تلك الأسوار.
إن رجال الفكر السياسي الغربي وعلى رأسهم توماس فريدمان يبحثون عن وسيلة تفرض التوازن بين التقدم السائد في الغرب، وبين التخلف القائم تحت ظلال شجرة الزيتون في الشرق,, انها معضلة حقبة العولمة القادمة التي تحتم على الباحثين ايجاد معادلة تضبط صورة الحياة على الارض، وصعوبة الوصول إلى هذه المعادلة على الرغم من أهميتها والحاحها يفقد العالم المتقدم صاحب نظرية العولمة، والعالم المتخلف الرافض لهذه النظرية، القدرة على تحديد المعالم التي ستكون عليها الحياة فوق وجه الأرض.
يزيد هذه المشكلة تعقيداً أن الخطاب السياسي في الدول الغربية يعلن بصوت مرتفع عن اصراره على ضرورة توحيد العالم ليكون وطناً واحداً لكل أبناء الإنسانية، بينما نجد غياب الخطاب السياسي في دول العالم الثالث الصامتة على الغبن من مواطن ضعفها، وتتسابق جميعها إلى اكتساب عضوية منظمة التجارة العالمية لتعصمها من ماء طوفان العولمة الذي يهددها بالموت.
لاعاصم من ماء طوفان العولمة اليوم إلا ركوب سفينة العلم ولا يتم الوصول اليها بين عشية وضحاها، ولكن ذلك لا يمنع أن نسلك الطريق الصحيح لها ونحث أنفسنا على السير السريع والمتواصل فيه حتى نصل اليها لانقاذ أنفسنا من خطر الموت الاقتصادي الذي يتربص بنا,, إذا لم نسرع في اتخاذ طريق العلم لإنقاذ أنفسنا ستفرض علينا العولمة الموت المؤلم البطيء.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved