اطلعت على النقد الأدبي الذي دبجته يد الأخ نزار رفيق بشير في العدد ذي الرقم 9761 يوم الاحد الموافق السادس من شهر ربيع الاول 1420ه ولن أقف هاهنا أمام العوانس وصرخاتهن، لأن عالمهن كفضاء الأرض لا نهاية له، ولست موكلا بفضاء الأرض أذرعه، كما لن اقف امام النقد الادبي لأنه بحر لا أملك قارباً أمخر به عبابه، لكنني سأقف عند قول الاخ نزار عن قول الشاعر عبيد الشحادة:
أنا لهفة الطير المسافر لاهثاً خلف السراب يظنّه ماءً فرات |
قال نزار: ثم (يظنه ماءً فرات) التسكين هنا لا تجيزه الضرورة الشعرية، وبتصرف يسير تجعل (ماءٌ فرات) بدلاً (فراتاً) تجعله: لعلّه ماءٌ فرات)، فيصحّ، فتسكن المرفوع، وهو جائزٌ .
وأقول : بدا لي أن الناقد يرى عدم جواز الوقف على المنصوب المنوّن بالسكون في ضرورة الشعر، وتبعا لذلك يرى عدم جوازه في غير الضرورة الشعرية، وهذا خطأ منه، بل هو جائز في النثر والشعر، وإليكم تفصيل ذلك:
الوقف عند جمهور العرب على المنصوب المنوّن يكون بإلحاقه ألفاً، وقد علّل إمام النحاة سيبويه - رحمه الله - ذلك، فقال: كراهية أن يكون التنوين بمنزلة النون اللازمة للحرف منه، أو زيادة فيه لم تجئ علامةً للمنصرف، فأرادوا أن يفرّقوا بين التنوين والنون .
وقد ورد في أشعار العرب الوقف عليه بلا ألفٍ، بل بالسكون، وقد جعلها بعض العلماء لغةً، وعزاها إلى (ربيعة).
ومن ذلك قول بشر بن أبي خازم:
كفى بالنأي من أسماءَ كافي وليس لحبّها ما عشتُ شافي |
أراد : (كافيا).
وقول عديّ بن زيد العباديّ:
قد كنت بحراً كالفرات تمير الناس منه درمكا وحُلل |
أراد : (وحللا).
وقوله :
هل ترى من ظعنٍ باكرةٍ يتطلّعنَ من النجد أُسُر |
أراد : (أسرا)
وقول طرفة بن العبد:
أيها الفتيانُ في مجلسنا جرّدوا منها وراداً وشُقُر |
أراد : (وشقرا).
ومن قول المثقِّب العبديّ:
كلّ يومٍ عنّا جللاً غير يومِ الحنو من يقطع قَطَر |
أراد : (قطرا).
وقول الآخر :
ألا حبّذا غنمٌ وحسنُ حديثها لقد تركت قلبي بها هائماً دَنِف |
أراد : (دنفا).
وقول الآخر :
بئس قوم الله قومٌ طرقوا فقروا جارهمُ لحماً وحِر |
أراد : (وحرا).
ومنه قول عبيد بن ماويّة الطائي:
وجاءتِ الخيلُ أثافيّ زُمَر
أراد : (زمرا).
ومثله قول مسلم بن عطيّة:
لما رأت في ظهريَ انحناء والمشيَ بعد قعسِ إحناء أجلت وكان حبُّها إجلاء وجعلت نصفَ غبوقي ماء تمذقُ لي من بغضي السقاء ثمّ تقولُ من بعيدٍ هاء دحرجةً إن شئتَ أو إلقاء ثمّ تمنّى أن يكون داء لا يجعل الله له شفاء |
حقه أن يقول: (انحناءً، إحناءً، إجلاءً، ماءً، هاءً، إلقاءً، داءً، شفاءً).
وقول الراجز:
أعددتُ للوِردِ إذا الوردُ حَفَز غَرباً جروراً وجُلالاً خُزَخِز |
أراد : (خزخزا).
وقال أبو الطيب المتنبي:
وما لا قني بلدٌ بعدكم ولا اعتضتُ من ربِّ نعماي رب |
قال ابن جنّي في شرحه لديوان المتنبي المعروف ب(الفسر): ,,, ووقف على الباء في موضع النصب، لأجل القافية، وحكى لنا أبو عليّ عن أبي عبيدة وغيره أنه حكى: (ضربتُ فرج كما ترى).
وأنشدنا للأعشى:
إلى المرءِ قيسٍ أطيلُ السُّرى وآخذُ من كلِّ حيٍّ عُصُم |
ولم يقل : (عصماً).
وقال الآخر - وهو عديّ بن زيد العباديّ-:
شَئزٌ جنبي كأنّي مُهدأ جعلَ القينُ على الدفّ إبر |
(مهدأ) من قولهم: أهدأتُ الصبي في المهد، إذا سكّنته، وهو كثيرٌ في الشعر.
وقال أبو الطيّب:
ليس كما ظن غشيةٌ لحقت فجئتني في خلالها قاصد وقال إن كان قد قضى أرباً منّا فما بال شوقه زائد لا أجحدُ الفضل ربّما فَعَلَت ما لم يكن فاعلاً ولا واعد أبلجَ لو عاذتِ الحَمامُ به ما خشيتُ رامياً ولا صائد ماذا على مَن أتى يحاربكم فَذَمَّ ما اختارَ لو أتى وافد بلا سلاحٍ سوى رجائكم ففاز بالنصر وانثنى راشد وليت يومَي فناءِ عسكره ولم تكن دانياً ولا شاهد إذا درى الحصنُ مَن رماه بها خرَّ لها في أساسه ساجد تسألُ أهلَ القلاع عن ملكٍ قد مسخته نعامةٌ شارد لا يُبَل قاتلٌ أعاديَهُ أقائماً نال ذاك أم قاعد |
قال ابن جنّي: ,,, و(قاصد) في موضع نصب على الحال من الضمير الفاعل في (جئتني)، وكان ينبغي أن يقول: (قاصداً)، إلا أنّ الذي قاله جائزٌ، وقد جاء مثله للضرورة .
ومثله: (زائد، وواعد، وصائد، ووافد، وراشد، وشاهد، وساجد، وشارد، وقاعد) في الأبيات السابقة.
وقال أبو الطيّب:
ألا أذّن فما ذكّرتَ ناسي ولا ليّنت قلباً وهو قاسي |
قال ابن جنّي: أراد (ناسياً)، فإمّا أن يكون جاء به على قول من قال: رأيتُ قاض، فأجراه في النصب مجراه في الرفع والجرّ،
وإمّا أن يكون على قول الأعشى:
وآخذ من كلّ حيٍّ عُصُم
وكلاهما وجهٌ .
وقال أبو الطيب:
أسائل عنك بعدك كلَّ مجدٍ وما عهدي بمجدٍ منك خالي |
قال ابن جنّي: كان الوجه أن يقول: (خاليا) فينصب على الحال، كما تقول: عهدي بك شجاعاً كريماً،
وشربي السويق ملتوتاً، إلا أنّه جاء به على قول من قال: رأيت قاض، ويجوز أن يكون أسكنه للوقف عليه .
د, صالح بن حسين العايد