كان موضوع الحلقة السابقة حول التطور التاريخي لدور الذهب في النظام النقدي العالمي وما طرأ عليه من تغير حتى بداية هذا القرن، وذلك للتعرف على اسباب انخفاض سعر الذهب في الأشهر الأخيرة والتي لبعضها بعد تاريخي يتركز حول تراجع دور الذهب في النظام النقدي العالمي خلال هذا القرن, فقد كان النظام النقدي العالمي فيما سبق يرى في الذهب الاساس الذي بناء عليه تصدر العملات المختلفة اما بصورة مباشرة او غير مباشرة، وقد كون هذا معظم الطلب العالمي على الذهب فقد كان يطلب لسك وصناعة العملات ثم في فترة لاحقة اصبح يطلب لتغطية ما تصدره الحكومات من عملات ورقية والاحتفاظ به كاحتياطي, واستمر هذا الوضع الى بداية هذا القرن حينما بدأ الارتباط بين العملات الورقية والذهب في التراجع شيئاً فشيئاً.
وتعود بدايات انفصال الذهب عن العملات الورقية الى الفترة التي تلتها انتهاء الحرب العالمية الاولى مباشرة, فبعد انتهاء الحرب قررت معظم الدول الرجوع الى قاعدة الذهب مرة اخرى والتي توقف العمل بها عند نشوب الحرب ولكن بصورة مختلفة بعض الشيء عما كان معمولاً به في السابق, فقد حددت كثير من الدول اسعار صرف عملاتها المحلية بعملات دول اخرى تكون قد حددت اسعار صرف عملاتها بالذهب وتكون دول المجموعة الاولى على استعداد لتحويل عملاتها المحلية الى عملات الدول الثانية بناء على سعر الصرف الرسمي, فمثلاً حددت الهند سعر صرف الروبية بالجنيه الاسترليني والذي كان سعره محدداً بالذهب، وهذا يعني ان سعر الروبية محدد بالذهب بصورة غير مباشرة، وقد نتج عن هذا التحول ان الاحتياطيات التي تحتفظ بها هذه الفئة من الدول لا يلزم ان تكون جميعها من الذهب, ففي حالة الهند يفترض ان يكون الجزء الأكبر من احتياطها مكوناً من جنيهات استرلينية بالاضافة الى الذهب ان رغبت الحكومة الهندية في ذلك, ومنذ ذلك الوقت بدأت بعض العملات الورقية تحل محل الذهب في تكوين الاحتياطيات لدى المصارف المركزية في بعض الدول.
واستمر العمل بهذه الصورة من قاعدة الذهب الى بداية العقد الرابع من هذا القرن، حيث بدأت الدول بالتخلي مرة اخرى عن قاعدة الذهب, فأوقفت بريطانيا العمل بها في عام 1931م، وتزايد عدد الدول التي نهجت نفس الطريق حتى أوقف العمل بقاعدة الذهب تماماً في عام 1937م وربما يمكن ارجاع السبب في ايقاف العمل بقاعدة الذهب جزئياً الى مشكلة الكساد الكبير والذي شمل العالم فيما بين عامي 1929م و1933م فقد رأت الدول المتقدمة آنذاك الغاء او التخفيف من القيود المفروضة على التوسع في عرض النقود للخروج من هذه الأزمة ومن هذه القيود ربط اصدار النقود الورقية بكميات الذهب الموجودة لدى الحكومة يضاف الى هذا السبب العديد من الاسباب الاخرى التي لا يتسع المجال لذكرها والتي حتمت التخلي عن قاعدة الذهب.
ومن الجدير بالذكر هنا انه خلال الفترة التي سادت خلالها قاعدة الذهب كانت بريطانيا هي الدولة المؤثرة في النظام النقدي العالمي والموفرة لرؤوس الأموال قصيرة وطويلة الأجل، كما كانت لندن المركز المالي الرئيس في العالم ولعل هذا يعني برهانا على ان الهيمنة السياسية والاقتصادية تكسبان الدولة الهيمنة على النظام النقدي العالمي فقد انتقلت الهيمنة على هذا النظام من بريطانيا الى الولايات المتحدة الامريكية منذ منتصف القرن الحالي تقريباً الى الوقت الحاضر تبعاً لانتقال الهيمنة السياسية والاقتصادية.
وللتعرف بصورة اكبر على هذا التلازم نحن بحاجة الى العودة مرة اخرى الى قصة الذهب فبعد التخلي عن قاعدة الذهب سادت حالة من عدم الاستقرار وعدم امكانية تحويل بعض العملات الى اخرى مما اوجد اضطراباً اثر على العديد من المتغيرات الاقتصادية فوجدت بعض المحاولات الثنائية او الجماعية لاعادة صياغة النظام النقدي العالمي وبنائه على اسس وقواعد جديدة الا ان هذه المحاولات ذهبت مع الريح عندمانشبت الحرب العالمية الثانية عام 1939م واستمرت حتى عام 1945م وقبل نهاية الحرب بالتحديد في شهر يوليو 1944م بدأت ملامح النظام النقدي الجديد في الظهور والذي كان نقطة تحول هامة في تاريخ الذهب افقدته الكثير من بريقه وكانت الدولة الراعية لهذا النظام الجديد الولايات المتحدة الامريكية والتي ظهرت خلال وبعد الحرب العالمية الثانية كقوة عسكرية وسياسية واقتصادية عظمى الأمر الذي مكنها من فرض نفوذها وبسط سيطرتها على النظام الجديد.
قسم الاقتصاد الاسلامي/ جامعة الامام محمد بن سعود