Sunday 27th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 13 ربيع الاول


فضاءات الكتابة
مداخلة في (نص,,) المبدع ناصر سالم الجاسم 1-2
من سراديب الكلام والجنون,, إلى شفافية اللغة ودلالة المكان المعلوم
احمد الدويحي

قلبت مرار بين يدي المجموعة القصصية (النوم في الماء) بحذر امعن النظر في لوحة غلافها (كولاج), وسيرة كاتبها الذاتية و(الموت على الماء) للمبدع عبدالعزيز مشري تتبادر الى ذهني, والربط والتداعي العفوي بين الموت والنوم, اقلب على عجل صفحاتها ادلف متأملا مقاطع من نصوص المجموعة ادرك اني امام نص يحتاج للتهيئة ووقت كاف يليق للاحتفاء به ومتعة قراءتها لفرادتها وتميزها وجدة نصوصها وعمقها والاثارة التي تلمح بانه واحد من اسرة المحراث النجباء,, وبدون حدود نحيته شهورا دون رغبة واضحة الاقتراب منه.
وظل هذا النص يشاغلني عن اهتمامات ثقافية اخرى وغير ثقافية وظل الحذر يلازمني فيها وكأن شخوصها (جن) يطلون برؤوسهم ويشاغبون,, بكل الحيل حتى قبل قراءتها,.
وتلك وربي سمة وديدن النضج والبهاء الفني الادبي اقتربت منها وزداد نبضي وخوفي,, سأنام في الماء الى جوار صاحب التجربة ناصر سالم الجاسم وشخوصه بدون ادوات واسلحة وحيل المواجهة مع نص يرفض القوالب الجاهزة والاساليب الرتيبة واللغة السائبة والرؤية الناقصة,.
نص قصصي مغامر متفرد غرائبي حد الدهشة,, والسؤال, في نفسي وقد اضمرت بان لابد من تطويقه بعناصر القصة الضرورية، ذي رغبة تقصي الدلالة الجمالية ليفضي كل عنصر بيقين (المكان - الشخوص - اللغة - الحدث - الزمان - ومستوى القص,,) فأولا المكان: في القصة الاولى (موت القصائد) نعلم بلغة (الراوي) بأن الرسام الذي اكتشف بصمة حذاء انثى مطبوعة على لحم صدره وحملت (بصمة) الحذاء اسم البلد الذي صنع فيه,, كان يرسم (على ربوه امامه وجماعة النمل تجر هيكل يعسوب جميل الجناحين الى جحورها الضائعة بين الاعشاب الرطبة, مهرة تسوط بذيلها حشرات تتغذى من روث اخضر صبغ ردفيها,,) ص11 ,, وتذكر موعدا في النبع مع صديقه الشاعر، وانطلق اليه بسيارته التي اوقفها على (حافة النبع ففر جميع السابحين - هلعين - ما بين عار ومستور الا صديقي الشاعر.
ظل كعاته يكتب قصائده على الماء,, اليستخرج من قاع النهر حذاء الانثي التي بصمت على صدره فيما كان صديقه الشاعر يمسح قصيدة من على الماء,, وفي قصة (ثلاث مسالك لمعلمه السعي) تتضح بصمة المكان في النص الابداعي المشبع برائحة الارض (انزلتها من على ذراعي,, انطرحت امامي ثلاث دعوات للسفر,,)
وبعد سيل هائل من الشتائم والمفردات التي يغرف منها المبدع ناصر سالم الجاسم يأخذنا لنقرأ وجه تضاريس الارض فد اذعن (الراوي) لنفسي المذبوحة بالسفر ليستحم الشارع المشحونة ذاكراته بتواريخ الموت والاعاقة بدموع حزني المرقمة ومجنون يتخذ من الشارع مرسما ثبت القترة ليرسم راحلته عنزة ميتة تعد كنزا لجيل فضاء ستحتل من تدور بين شمس والقمر,, يرسمها وهي ترعى عشبا اخضر,, ووقع عليها (دفاتر العلماء ناقصة واوراق الشعراء مزيفة,, عليكم بالحرث فوراءه تنجلي الحقيقة) (النساء لا يعرفن التنبؤ الا بما في بطونهن - اتركوهن للحمل والولادة) (ستأكلون التراث اذا شح الماء),, وفي هذا خطاب ابداعي لمجتمع يحظى بخاصية المكان,, وسجل يومي لحالات السفر والغياب,, والارتباط بالارض المعطاء,, وعفوية الحياة جمالها فالطبيعة الجميلة تترك بصمتها في ابنائها,, والحيلة في التعامل مع قانونها بين الرجل والمرأة والارض والماء,, وفي قصة (تغريدة الوهج) يختصر الكاتب الزمان بتكثيف لغوي سردي فدحط في ذلك الصباح الممطر الصاخب شبيهه على اذنيه وعينية في فراشه,, وبذاكرة جماعية لحوادث الليل ودماء الموتى التي لم تكنس اوساخها بعد من الطريق مرورا وحوار (المذيعة),, ودحر خوائها (الجبال راسية على الارض وفي قاع المحيطات),, ويردد شبيهة بذات الافعال والاقوال من دفاع عنه,, ولحس النار والابتسام, وزيارة المقبرة حتى كركر جهاز اللاسلكي في فم قائد الدورية (حول السيارة البيضاء رقم,, موديل وجدت عند المقبرة التي لم يكتمل بناؤها,,) ص22 نص يمتد الحياة من الحلم,, كما هو ممتد من الحياة كحلم ومن الحلم الى حيوات اخرى ومرابا عدميه هلامية,.
الشخوص من الواقع واللغة غارقة فهل تستنبتهم من العدم, اذا كانت طبيعة الابداع الصدق فان النص ممتد حتى تباين الشخوص وظلها وزواحفها من بشر ومدر وشجر,, وكل دواب الارض,, وان خيطا رفيعا يظل هاجسا صاخبا يتلمظ بين ثنايا النص,, يفصح عن ذات ومكونات النص,, وكأنه امتداد لحالة في ما قبله,, لندع الربط,, وما الحالة في قصة الحامل (الملف السري لرصاصه) الا تنام واع لنص سابق, شكل ارضية الاحتشاد والاحتقان والتجربة في هذا النص,, من حقائب السفر, والارصفة تتحرك تحت قدميه,, الى مدن الموت التي تشتهي مدنا اخرى,, والميتين الذين يعانقون ميتين,, كلها اجواء مهد لها الكاتب بدراية تامة في شخوص اخرى بذات الاجواء.
(كنت اكتب بصوت مسموع,,, واطوي الصفحات بسرعة,, واحس بالرصاصات تثقب الورق وتقتل علامات الاستفهام والتعجب,, واتلفت ورائي,, اقوم من كرسي الكتابة وأتأكد من احكامي غلق الباب,,) ص24, في هذا التحول المبدع والتجول بين الفرد والجماعة والخاص والعام يرفعنا النص الى مستوى (عندما تضيق العبارة تتسع الرؤية,,) هل قلبتها ربما, والصحيح كذلك بدائه ودوائه,, اذا اردنا ان نستمتع بنص فني ادبي ذي مستوى, ام متلقي يفتح ملفا ويغلقه,!! واحسب ان الابداع ورطة جميلة لا مناص منها ولا فكاك,, قد تتغير معالم ومسميات أمكنة,, وقد تتشابه, وفي كل الاحوال لا تخفى دلالتها (بدأت اكتبها الرقم ومؤشر اللحظة يقول انني سأسقط على المرحاض,, عدت اجلس تحت الماء أبكي واعد,, الرقم الذي انتهيت اليه يغطي شفتي السفلي مساحة,,) ص26 وهي ذاتها تلك طريقة (عنون) واحد من شخوص النص في ارضه,, يفتح قناة الري وينام في ارضه حتى يصل الماء الى فمه وانفه لان حشرة الخوف التي في دمه اصغر,, وبذات السوداوية والسادية نتخبط في قصة (احتفالات نمل الجبل والغربان) وقل ان شئت والذئاب والعقارب والذبان كالعادة رغبة في الخلاص فذكور الغربات تقدم الجيف مهرا لاناثها,, من اجل ذلك رضيت بالنوم والموت في الماء تحت الجبل,, وهو في هذا الرأي الكاتب الغريز يؤكد ما اشرت اليه في ملاحظة اولى من قبل حول استحضار حالة كذات الانثى في قصة (موت القصائد),, وحتى يرى شكل موتي, اذا كانت هذه جاءت في صورة اشد قسوة,, وهو الموت,, فلانها على الارض وليست الانثى الاسطورة,, انثى الماء منتفخة البطن زرقاء الجبين مفتوحة العينين,, وصورة الانثى التي اتعبت رائحتها (ذعار) في قصة (يباب البيدر الاخر,,) وجعلته يموت مرات كثيرة من اجل انثى معطرة ويكتب قصائد الموت في المطارات والفنادق الكئيبة وحيدا,, وقد اختار السفر دون ان يجد بيدرا يقاسمه الموت و(بيدر لم يذق طعم الماء يا ذعار احسن حالا من بيدر شرب السم مع الماء,,)ص34 ولابد - هنا - من الاشارة الدقيقة بان النموذج (الرمز) الانثوي سوريالي يرسم للتعبير وبناء الاسلوب وتدرك قيمته بالحدس,, وهذه واحدة من جماليات النص,, والتي ستأخذ جانبا مهما من اهتمامي بقراءة هذا الابداع المتفرد, وهذا يتضح ايضا في القصة التالية من حيث امتداد النص والروح (لم تمهلني الريح لحظة امسح فيها العفر اللاصق بشفتي او انفض رأسي او اجرب فيها اللهاث واقفا) ص37 لان الانثى التي يحلم بها مازالت تحلم بدورها,, نائمة قبل ان تقتلعها الريح بمطرها الى الجنوب,, وقصة (العفر) حالة مفرعة بالتهمش والتشيؤ لا يثبت عمقها تنادي بالمطر والوحل والعفر,, والخوف لا يموت,, ما دام في الوجود انثى وعشب اخضر,, وما تأتأة وخفقان قلب (مالك) في نص (تأتأة الحقيقة) بسبب قصيدة غزل تلاها معلم اللغة العربية لطلابه وهو يبكي ويكتب وصيته (انثى المعلم التي لم تحمل تمشي بكعبها على العشب الاخضر,,) والخفقان خالد خلود الانسان وميت بموته,, والموت الذي يظن كل الراقدين في مستشفى انه يحبو تحت اسرتهم جعل بطل قصة (التكسرات) في صورة اخرى متجددة من الموت للابطال السابقين,, يسائل انثاه بحقنة توقف تكسر القوافي على اوراقه (هل كتبوا في ملفي انه يعاني من تكسر في الدم والشعر والخط والحب,,؟! ان لم يكتبوا كل ذلك اكتبي عنهم واكتبي تاريخ لقائي بك في عنبر الموت,,) ص47,, فالموت والسوداوية والنشيج وتكسر الخط والحب والقوافي,, وما دمت في الحديث عن المكان سأدع هذه الحالة للحديث عنها في مكانها وزمانها, وانصرف الى ما انا معني به,, وهو تتبع الدلالة الجمالية للمكان في قصص المبدع ناصر سالم الجاسم وقد فاجأني بشيء اكاد ألمسه في نص (اهتزار العطر) من الواقعية, والذي سيظل نصا مطرزا بتهويمات ساحرة (!!) لابد ان تكون من ابداع هذا المتفرد الغارق في الماء الراصد لكل الاتجاهات والهمسات والاشارات القابصة على حكمته كجمرة له وجده,, وفي نص (اهتزاز العطر) يفصح عن رؤيته وحكمته ولغته وانثاه,, وقد سمع من الاباء حكمتهم (اذا رقصت العذراء خطبت واذا رقصت المطلقة لعنت,,), ولانه يريد ان يختط ذاته وعالمه,, ولا يريد التشبه بالنساء ولن يتمكن من دخول بيت الرقص كرجل متخف والانثى الاسطورة (الرمز) التي تخرج من الماء ومن تهويمات النص نجدها الان حبيسة جدران,, ورجلها لا يستطيع حمل سيف الرقص ولا العصا العمانية وليس برجل حرب ولم يعد الا للحب والكرم,, لذا فان رقص انثاه العذراء يوجعه وهي ترقص في داخل بيت الرقص وتخض دمه في الخارج,, وتنهك قواه ورجيليه التي تفرغ الخوف على الاسفلت (ارحمي أكف حاملات الدف من رقصك فأياديهن ساخنة سخونة اجساد المرضي,,)ص 49 وقد يكون تشيؤ الانثى حيلة والعاب لغوية غاية في الخداع ليوهمنا النص بمسارات اخرى وليس للتضليل، ونص يتمواج بين الحلم والحلم اعلى بكثير من قدرة استيعاب متلق عاد,, مع ان لهذه الحيل ضرورات فنية وليس مجرد استعراض لغوي صرف يطوعه القاص ليضعنا امام حالة بذاتها,, وضرورة الفن علمتنا كيفية توظيف الحالة او اي عنصر آخر لخدمة النص والاتكاء على حالات القبح والقسوة كحالة حسين وصفية ضرورة فنية تمليها (مابي اعود الى ما احب,, وقد اجلت الحديث عنها,, وآليت حتى نستشعر بوطأتها وتجتاحنا قسوتها ونصبح في اجوائها, والكاتب بارع في التوطئة والتدجين الى حد الوله والخوف والحذر,.
خصوصا اذا ايقنا ان النص فوق تجزئته ليستوعب نبض اكثر من حالة ممتدة وحدث نام.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
ساحة الرأي
الرياضية
تحقيق
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved