مساحات بيضاء حرق الدم بالمجان,,! ريمة الخميس |
نهض الفنان الحالم، الذي اغدقت عليه مقدمة البرنامج - فارغة الدماغ - كل صفات الروعة والعظمة والابهار والاعجاز في تقديمها له حتى اغرقته, وامسك بفرشاة كان قد احضرها معه ومعها لوحة بيضاء وألوان، ربما وفي ذهنه ان يشرح للمشاهدين المتعطشين الى معرفة اسرار الاعجاز فيما خصه به الله وحده، وتحرك بخطوات محسوبة تم تدريبه عليها، خطوات حددت اطوالها وايقاعاتها اصول الرقة والدلال لكي تحرك في الصدور قلوبا تواقة,, حرك يده بالفرشاة كعازف كمان يرفع القوس كي يجرح به الأوتار، واقترب من اللوحة ليجيب مقدمة البرنامج عمليا على سؤالها المتخصص العبقري، كأنها تقرأ ضمائر المشاهدين وهم يتحرقون على قلق وتوتر شوقا الى ان يعرفوا كيف فأرجأت سؤالها الخطير الى نهاية اللقاء,, يا لها من ذكية رغم كل تفاهتها,, ها هي قد سألته اخيرا: الفنان الرائع العظيم، كيف ترسم لوحاتك الجميلة، المليئة بالرومانسية والحساسية، كلها سحر بشكل غير معقول؟ ابتسم الفنان بحساب، ويبدو انه كان كالمشاهدين بانتظار السؤال فأسرع الى الوقوف ليبدأ شرحه العملي، وأجدني مضطرة الى نقل جزء صغير من ذلك التطبيق العملي, كان يقول: المسألة اساسا موهبة من عند الله سبحانه وتعالى، وبالنسبة لي لا اجد أي مشكلة، يعني استطيع ان ارسم عشر لوحات واحدة بعد اخرى، وان اقضي اليوم كله في الرسم,, عادي جدا، لاني لا احتاج الى موضوع او الى تصميم معين، ولا افكر كثيرا في مسألة اختيار الالوان,, مثلا ممكن اعمل خطاً هكذا (كان الخط باللون الاحمر وفي اعلى اللوحة، ولغيرتي من ذكاء الفنان ومقدمته، اردت ان استعمل دماغي، فاستنتجت انه لن يرسم منظرا طبيعيا اذ ليس هناك سماء حمراء) وممكن ايضا اضع خطا آخر هنا، باللون الاخضر او الاصفر، هكذا، جاء اللون بنياً لكن ليس هناك مشكلة استمر الفنان هكذا حتى امتلأت اللوحة بخطوط كتلك التي يخرب بها طفل صغير دفتر اخيه الدراسي او جدار غرفته، وحين همَّ بأن يعود ادراجه وقد اشبع فضول المشاهدين ورحم شوقهم, ألقى نظرة سريعة على عمله، وقال متداركا: أه ، لدينا جزء صغير هنا لم يزل فارغا، ممكن ارسم فيه طائراً هكذا وقلت لنفسي اخيرا هذا شكل يقول الفنان انه طائر، لأحاول ان اعرف كيف يمكن ان يكون هذا طائرا، من هذه الناحية او تلك معدولاأو مقلوبا، بكل الافتراضات والاحتمالات فشلت، مثلما فشلت في ايجاد تبرير لوجود طائر يسبح في سماء حمراء، ومقدمة البرنامج خذلتني، فلم تعلق على شرح الفنان الا بثلاثة تعقيبات راحت تناوب بينها طوال الوقت: الله,, رائع,, غير معقول! كان من المفروض ان تنهي اللقاء هنا، ولكنها اكتشفت - كالفنان - ان هناك مساحة بيضاء ما تزال في وقت البرنامج، ملأتها بسؤالين: أي مدرسة هذه؟ ورد الفنان الموهوب: انا مدرسة وحدي، ممكن يكون هنا شيء سريالي، وهنا واقعي ، وهنا تجريد، وهذه رومانتيكية، وهنا ملحمية، اعني اساسا هناك مشاعر، اعطيها للوحة او تعطيها هي لي، وهنا قيمة الفن العظيم، اعني هذا الحوار بيني وبين الفن وليس من المهم ان يكون للواقع علاقة بذلك,.
- رائع، بماذا تسمي هذه اللوحة التي رسمتها الآن؟
- ممكن انت تسمينها بهجة أو فرحاً او الماً او حزناً مثلا,, انا لا اسمي لوحاتي عادة لانه كما رأيت لايكون لدي موضوع محدد,.
- كنا نتمنى ان يتسع الليل كله لهذا اللقاء، لكن مهما امتد الوقت نبقى متعطشين دائما لمزيد,.
اللقاء مربك بلاشك فالفنان هو فاروق حسني الذي يشغل منصبا رفيعا في بلاده كوزير للثقافة، ولابد ان الرجل الذي يدير حياة ثقافية في بلد عريق كمصر ان يكون رفيع الثقافة قبل ان يكون رفيع المنصب، ولو حاته باهظة السعر الى حد ان احدا لا يشتريها، فقط قد تكون في متناول الجهات الحكومية وحدها، ولابد انه فنان غير عادي يواجه فينا جهلنا في ثقافتنا التشكيلية ومعارفنا، وهو امر يحتم، ضرورة المراجعة,, هناك مدرسة فنية قريبة مما يفعله هذا الرجل كان يرددها فنان مثل براك، التصوير العفوي أو التلقائي، أو الاوتوماتية كما تسمى، غير ان براك واتباعه قد كانوا يؤسسون اعمالهم على رؤية فلسفية تعكس وعيا مخيفا بالظرف والعصر وسياق الحياة، قدر ما تكشف عن ثقافة ووعي، وعن استاذية في امتلاك القناعة الفنية لا يخلطون بين مدارس الفن واتجاهات المسرح.
انتهى البحث والتقصي الى مقال مطول كتبه الشاعر المرموق احمد عبدالمعطي حجازي في عدد قديم من ابداع لم تسبق لحجازي الكتابة عن الفن وغالبا هو قد اراد ان يكون مقاله عن فنان الفضاء هو الاستثناء الوحيد مثلما ان الفنان استثناء وحيد، وبالتالي فالدراسة تملؤنا بيقين ان العالم والتاريخ لا يعرفان الفن قبل هذا الرجل، ولا ندري ما يفعلان بعده! وحين تبين ان الشاعر - كرئيس لتحرير ابداع هو احد المرؤوسين لفاروق حسني الذي تصدر المجلة عن وزارته سقطا معاً من العين، فقد كان الكاتب اشد ابتذالا من مقدمة البرنامج فارغة الدماغ.
لشهور منذ تلك المقابلة يراودني سؤال مخيف: هل كان الفن هو ما اهَّل هذا الرجل لمنصبه الرفيع؟ ام ان منصبه الرسمي هو الذي فرض بنفاذ القرارات ان يعتبر فنانا؟,, ومنذ ايام عرضت علينا صحيفة اخبار الادب صورة لمذبحة سلخ فيها المثقفون جلد ذلك الفنان وأوسعوه جلداً، بلارحمة، لان ادعاءه هذه المرة قد كان اشد اجتراء من ادعاء الفن وهو يقول انه جاء في عصر مظلم للثقافة في مصر، وانه صانع عصر التنوير، وان الفضل يعود الى ايقاظه لروح الثقافة من جديد، وتساءل حين طرحت اسماء بعض الرموز الثقافية في مصر: من يكون هؤلاء؟! ورغم ان الامر كله لا يعنينا مباشرة فلم تأخذنا بالرجل المجلود أدنى شفقة.
امتلأت مساحاتنا البيضاء بالكلام، لكن مساحة صغيرة بقيت بيضا نملؤها بإشارة الى اكتشاف فائدة اضافية هامة للقنوات الفضائية,, اعني قدرتها - بمثل هذه اللقاءات - على رفع الضغط للذين يعانون انخفاضا في ضغط الدم بالمجان، ومفسداً ايضا لاصحاب الضغط المرتفع، فإما ان يموتوا كمدا، او يساهموا في زيادة الدخل لشركات الادوية ومنتجي المسكنات والمهدئات والاطباء.
|
|
|