في مجموعة الآنسة أولين للقاص فهد المصبح تتحايل السردية على الافلات من البنية التقليدية، فتفسح لرؤاها مساحة من الحلم والتصير الهاجس بالابتعاد عن العادي الى درامية المفاجأة المنسوجة بخفوت داخل النص، لا يلبث أن يرتفع في خاتمة القصة المتراكبة عبر جمل بسيطة، عميقة، عانقت اللامألوف تارة، مثلا قصةالقلم وقصة توقيعات الزمن الآتي ، كما أنها أتت جملا لم تفلت من الوصف والتفاصيل التي تشعبت الى:
1 - توصيفية وتفصيلية موظفة في مكانها المناسب، ومتغلغلة مع البنية، بحيث لم تطغ على المكونات الأخرى.
وهذا ما تجسده قصة الوجبة : أبي لا يجيب,, صمته هذا أعرفه آه ليته يجيب ليته يضحك لأرى أسنانه البواقي ص39 .
ولا يسير هذا التوظيف بريئا من الصياغات اللامألوفةملابسي آذنت بالرحيل منذ مات في لحمي الدفء,, ، بل، تتمدد حركة قصة حتى تصل مقصديتها، فتطعم الانسان للزمن، ثم تئدهما معا، تاركة الضغوطات سيدة الحياة,, مما يجعلنا نشعر بأن علائق القصة هي ذاك القبر الكبير الذي يتسع لموت الجميع.
2 - مقابل ذاك التوظيف، نجد النقيض الذي يحول قصةالمعجون الى قصة التفاصيل المملة، المرتكزة على الادهاش في خاتمة القصة.
وكذلك قصةالثوب التي سارت بشكل أفقي، تواترت فيه الأحداث وتتابعت مع الشخصية المنقسمة الى نصفينأيسر وأيمن الأول يبكي والثاني يضحك,.
هذا الثنائي الذي تنجبه الحياة يظل في حالة صراع مبعثرة بين لحظتين:
1 - صراع الذاتي والذاكراتي الذي يهرب من الحاضر الى الوراء والى الوصول في ذات الوقت.
مثلا قصة المهاجر التي أسقطت السفر على نوعين من الهجرة نفسية أفصحت عن بواطن بطلها وذاكرته، ومكانية ابتدأت مع فاتحة القصة بصعوبة بالغة حصل على تذكرة السفر ووصلت من خلال التشكك بالمغادرة الى وجهة الهجرة.
2- صراع الذاتي والوهمي الذي رصدته قصةطيف خبا وميضه المبنية على حس شفيف قبض على العنصر الخارجي بانصهار داخلي:لم يسمع جوابا,, الطيور والوحوش والرياح والشجر تمارس عملها الأبدي في ذرى العالم الكبير,, مر وقت طويل,, فاحت رائحة الجسد العاري متدثرا بالسماء يترقب بصبر لا يعرف كيف تسنى له,.
ص68 , ولهذا الصراع في المجموعة عدة وجوه.
ففي قصةالآنسة أولين يتم رصد الزيف والتصنع والتقليد الأعمى من قبل الشخصية المؤنثة التي تغيّر حتى اسمها.
وانبنى المرصود على سردية واصفة، ناقلة، لم تتفعل الا في حركتين:
أ - حركة انقسام الذات القاصة الى أنوين أنا راكضة وأنا توقفت عن الكتابة وهذا ما أعلنته بداية النص ونهايته.
ب - لحظة تأدية الصلاة التي أحالت الى توهم موت الزيف- العداء، واستمراره في الركض المصاحب لأنا الآخر الرمزية المنشقة عن الذات القاصة: كانت الشمس غائبة وجمع غفير يؤدون صلاة الجنازة على ميت غير موجود ص75 وهنا تكمن بؤرة التوتر المتجاذبة التي منحت رابطا لما دار في المجالأ واستقر في الأنا الثانية للذات المتخطية لحوارها مع العداء : لم يقل أيٌّ منا كلمة,, صمتنا أكثر,,، ثم عاد هو للعدو وتوقفت أنا عن الكتابة .
لكن، ماذا بالنسبة للضمائر والزمكانية والمخيلة,,؟.
نقتطف من حديثالمصبح المنشور في الجزيرة عدد 9670 رأيه في البطل: تقوم العلاقة بين الراوى والبطل على حميمية متأزمة وصراع ودود.
ولجوء المبدع الى النصوص القصيرة جدا ليس عجزا بقدر ما هو قفز فوق سدم وغيوم قاحلة في فضاء الراوى الحياتية تلزمه الى الشعرية بعبارتها المقتضبة والرمزية المحشوة بالكثير المتخفي بين السطور،،.
من هذا المنظور ينتج القاصفهد المصبح منظومته السردية القائمة على الاختزال المكاني والزماني عنوانا وبنية، مثلا قصة أمس وقصة غدا ، وهذه سمة تشمل باقي النصوص المومئة الى مجال الزمكانية أو المصرحة بها, فالزمكانية في المجموعة لم تعن بالموضعة الخارجية لهذين العنصرين، بل، انحبكت مع مسافة أبعد جعلت من الحلم والنفس زمكانية داخلية منفرجة الى الموضوع, مما ولد ذلك دلالة اضافية، شحنت النص بطاقة مبدعة قطعت عناصر البنية وركبتها بما يناسبها.
هذا ما يتبين في القصة القصيرة جدا هاجس المحمولة على مشهدية مكثفة تناغمت بين السحابة/ الطريق/ الحياة وبين المقبرة التي دفن فيهاعويس وذلك كإحالة على العامل البراني، متشاكلة مع الاحالة على العامل الجواني القارّ في نفوس الناس المحيطين بالشخصية، وما أنتجته مخيلتهم من تهيؤات حاذت موت عويس واخفاء حمارته.
وهذا المتوارى من تفكيرهم كان الفجوة التي قام عليها النص ناقلا حركة الضمائر من الأنا الى الذوات المختلفة السلوكات والتكوين.
فقصة الزلزال تجعل من ضمير الغائب هو مرتكزا للمزج بين الباطن الماضوي استرجاعات الذاكرة مع النبض الحاضر المتجسد في لحظة السرد المنطلقة من دخول البصر في حالة غبش تليها حالة اعتام: مسح نظارته للمرة السابعة,, عاود القراءة,, كانت الحروف متداخلة لا يكاد يتبين منها شيئا,, أخذ يفرك عينيه وهي تزداد اظلاما ,, لم يبق له من دليل الا حسه الداخلي,, وهذا البحر المظلم لا يمل من مطاردته,, ص20 .
تأتلف الزلزلة الداخلية مع رموزها الخارجية الجزيرة/ المجذاف/ البحر/ الملاّحون التلة وتطارد ماضي الشخصية منتجة بنية تطابقت هزاتها بين مجالين مكانيين: المكانية الواقعية الأرض والمكانية النفسية القلب .
وهكذا يتساوى البطل مع الراوي الذي يتخذ بُعداً أكبر من شخصيته في قصة أخرى: شموخ المسرودة عن طريق ضمير الغيابهو المعلوم بأدق تفاصيل الوصف والخبايا بالنسبة للأنا الراوية المتغلغلة حتى في طريقة تفكير الشخصية، التي دخل اليهاالمصبح عن طريق الواقع ليخرج منه بعد تعريته من خلال رمزه الشموخ المسقَط على فاعلية عنصرههو المجسد للرمز المتقابل مع عدم امكانية التعايش مع الواقع المرفوض، المذل، والذي هربت منه الشخصية الى دلالات الجري والابتعاد عن الذات المجتمعية المتسببة في الهرب حتى الاعياء.
وتتوتر حركة المخيلة في اللحظة اللاحقة لالصحوة حيث يستطيع البطل العيش مع حيوانات تحت الأرض محافظا على شموخه الذي أودى به الى الموت بسبب حيوان، والذي صوره القاص في الخاتمة: المهم أن رأسه كان شامخا طيلة هذه الفترة التي قضاها بينهم,, يحكم فيهم وهو مكتوف الحركة,, حاول حملهم على اعادته الى وضعه السابق لكنهم اندفعوا هاربين وهو يصيح فيهم,, أحس بثقل على رأسه,, رفعه بعناد,, فوجد قدم حيوان ضخم تخترق سطح الحجر وتغوص فيه - ص25 .
اذن، لا فكاك من البطش سواء في عالم الانسان أم في عالم الحيوان.
ولم يرتفع وقع الدلالة عن منحناه السابق الا في قصة ميلاد افاقة التي واحدت الوعي باللاوعي، وقطفت لحظة تحولها من عالمي الإنس والجان مما جعلها تنوس بين احالتين: احالة الموضوعي على التلاشي، واحالة الذاتي على الأعماق.
في هذه القصة كان الغيب شخصية تراءت للشخصية وللقارئ عبر النسيج التأويلي الذي عدد احتمالاته، وجعلها مدارا استدلاليا تصارع فيه القابل للانكشاف خطوتي القادمة هتك السر مع الزمن المستقبلي سأكون صهوة الآتي ولأن هذا الصراع لم يظهر في مواضع منقطعة، بمعنى أن القصة شكلت من بدايتها حتى نهايتها فجوة صراعية متكاملة، فانها تحركت بتفاعل تجاوز المكتوب واستحضر اللامكتوب عن طريق المخيلة المتراكمة في الجمل كحواس تتناوب الحاضر والغائب وتفصل حتى الشخصية الأساسية عن جسدها:كان كل شيء في غفلة، حتى جسدي أصبح خلف ظهري ولندلل على التوترية الدائرية للنص، فإننا نشير الى انطلاقة الحدث منذ دخول السردية الى اللحظة المدونة.
فبداية القصة تنبني على فعلين متناقضين أفقت من اغماءتي التي تكررت والاقاقة هي الصحوة أو العودة الى الأشياء بطبيعتها، الا أن سلوكات الافاقة تتضاد مدلوليا في النص وتتكون كمحور تشظت منه الحالة اللاواعية التي تنامت مع مطالع المضاد للافاقة أيدٍ كثيرة بلا وجوه تطوف حولي ومع خواتم الافاقة التي توقف عندها المكتوب ولم يتوقف معها المجال النفسي ودخلت في اغماءة,, صرت أعرف من الجاني، ولا أقدر على شيء سوى أن اخلع عني رأسي .
وبذلك تكون الاغماءة قد دارت حول افاقتها دورة كاملة تمشهدت باستمرار الخروج عن الواقع والذات.
اللافت في مجموعة الآنسة أولين قصة القلم وتوقيعات الزمن الآتي .
وذلك لما اختزنتاه من تحولات في البنية ارتكزت في قصة القلم على ابداع عوالم وطقوس تناسبت مع تقنية الترائي وتمزيق الحجب بين الكاتب وأبطاله الهاربين من ورقه الى أمكنتهم وأدوارهم الموضوعية.
حيث يتساقط الأبطال نتيجة المعاناة الهاربة بدورها الى النص من خلال شخصيات الكاتب التي يحاورها.
حول هذه العلاقة ينسج المصبح قصة أخرى داخل القصة الأولى التي استحضرت الشخوص وتناسلت معها الى قصة ثانية حركت دلالاتها بطريقة استرجاعية، عادت عبرها الى خلفيتها الى القصة الأولى المحمولة على الجسد والموارية للقصة الثانية .
وما هذه العودة، الا لتمارس الدلالة المكتوبة اضاءة للحظة الاستحضار,, وما بين الأضاءة والاستحضار تداخلات أنشأت لحظة فجوية لمعت فيها أحداث متعددة في نفس الوقت.
حملت الأحداث شخوصاً لم تقم بتصرفاتها الا لتكون معادلا لنص الواقعالشيخ/ الشاب/ الفتاة/ الجنين .
وبعدما تعبر القصتان بوتقة الفجوة، تتحولان الى ذاكرة للقاص منقسمة الى دواخله والى أبطاله والى الصياح المدون فيما سبق والى الصياح الحاضر المتوزع بين جدران الغرفة كمكان جرى فيه الانقسام مثلما جرت فيه معابر القصة المتناسلة في القصة، وبين خارج الغرفة كمكان لأصوات وصلت الى الشعور.
وفي لحظة التحام الوعي باللاوعي، أي الخروج من غرفةيونغ التي دارت فيها القصة الى الوعي الذي أيقظ القاص على أصوات من خارج نفسه، في لحظة الخروج والوصول تلك، نجد أن دماء الكاتب المتحدة بدماء شخصياته هي التي تعاركت مع القلم- الخنجر.
حالة تكوينية اتخذت ملامح أخرى في قصة توقيعات الزمن الآتي التي شكلت حيزا اشتبكت فيه الماورائيات بطريقة استندت على زمانية النشأة المندغمة بزمانية القص الانخطافي المحكوم بمتوالية زمنية موضوعية الفجر/ الضحى/ الظهر/ العصر/ المغرب/ العشاء/ منتصف الليل/ الفجر .
داخل هذا الانقطاع والاتصال بنت الأفعال سلوكاتها المنتقلة من طور الى آخر راسمة تكويرية الولادة فالحياة فالموت.
وآثار هذا الرسم المزاوج لتلك العناصر الاشكالية نهضت على الحب المتجلي ضمن البحث في المكنونات عن الأنا المذكرة والأنا المؤنثة اللتين كانتا رتقاً: في كانت وكنا جسدا واحدا تفصلنا ملابس بالية فانفصلتا بعد فجر وضحى وظهر : انفصل كل شيء عنها حتى الذاكرة سافرت في نزهة الى المجهول / ظلا يبكيان حتى دوت في المسامع طلقات لم يعرف مصدرها .
ولا تبتعد عن تشخيص الحلم قصة المأزوم لتجعل منه من الحلم عنصرا أساسيا انحبكت بصراعاته القصة المنبنية على عالمي الوجود والخفاء- الحاضر الغائب المتجول من المجال النفسي للشخصية الى المجال النفسي للقصة الذي مسخ الحلم وجعله مرآة للواقع القائم على المقايضة برمز آخر هو العصافير الخمسة الملونة ,,تحركت المكونات في المأزوم بين المخيلة وسريلة منحتها جمالية الحلم مرة أخرى.
وذلك عندما انفرجت دلالات الرمز الى فضائها أفلت الكيس,, طارت العصافير,, شعر وقتها كأنها تخرج منه وعندما رفّت الحرية، خرجت الألوان عن توترها الدلالي: فالأبيض والأصفر والأخضر ألوان ترامزت لتخلق فصولها الطالعة من خلايا الشخصية ومن مسامات حلمها المتبرعمة كحلم جديد بين فضاءين:
- فضاء الحياة السابقة على ظهور الحلم ومحاورته.
- فضاء الحياة اللاحقة، المكتسبة من تحاورية الحلم.
أخيرا، لم تخل المجموعة من بعض الأخطاء النحوية- ربما كانت مطبعية- مثلا فطغي على اللونين الأبيض والأسود والأصلفطغى/ ص28 ورؤسائه ص33 التي يجب أن تكونرؤساؤه كونها فاعلا, كما أن هناك ضعفا في صياغة بعض الجمل، مثلاناضل فيها أن يجعله شامخا ص24 .
لماذاأن وليس لأن أوكي ؟ كذلك جملةأشرقت شمس النهار وما يزال القمر لم يغب ص56 ركاكة كان من الممكن تلافيها بحذفما يزال لتستوى الجملة.
*الآنسةأولين/ فهد المصبح/ منشورات نادي جازان الأدبي/ 1418ه/ عدد الصفحات82 .
|