قراءة نقدية أصابع اللغة,, أدوات البحث والاستدلال,, في نص صرخة,, بلا فم ,, للأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن نيف الذكري |
سنعتمد إن شاء الله خلال دراستنا النقدية هذه وبعض دراساتنا النقدية القادمة, منهجية واضحة يعرفها كل من يلم بأبجديات النقد.
وذلك بفك آلية النص من القيود الصورية، بحيث يتسنى له ان يستوعب استعدادات الفكر على اختلاف تقلباتها، وأن يتحلى بالطواعية مع تنوع المراحل المتعاقبة من جهة,, وغزارة الحقول المعرفية من جهة أخرى,.
وهذا المنهج يعين على تحرير الفكر النقدي من بعض القيود التي تكبله على طريق إجراء الاستبطان الذاتي.
ونود أن نشير الى انه قد تكرر كثيرا وقفاتنا المطولة على تجربة الأمير الشاعر/ بدر بن عبدالمحسن الثرية، وذلك لأننا وجدنا في هذه التجربة منجم أدبي لا ينضب، فهي تجربة غنية تحتوي على كل مقومات الإبداع، وتقف أمام الدراسة النقدية بكل ثبات ورسوخ.
ابتداء: بعد دراسة نص صرخة,, بلا فم للأمير الشاعر/ بدر بن عبدالمحسن، أخذت إشارات الألفاظ وإيحاءاتها تقودنا بطريق الاستبطان الذاتي نحو مناطق عميقة, حتى اطلعتنا على جزء من فكر مبدع هذا النص,, ومهندس اجزائه.
فبالدراسة وجدنا هذا النص يحمل مقدمة كاملة تشرح بإيجاز وبكل وضوح ما سيتلوها من قيمة فكرية,, أو همّ إبداعي تحمل هذه المقدمة بعض ملامحه.
فكان النص كوحدة واحدة علامة كبرى على حالة إبداعية لها سمتها المميزة، من حيث اختلافها عن كل ما سبقها عمقا وتأثيرا.
وهذه الحالة الإبداعية فكرية من حيث منشؤها,, ولكنها قد تكون لاكتشاف مسار أدبي مميز,, او لإيجاد صوت متميز (وأكثر عمقا) يحمل بكل اتقان ملامح هذا الهم الإبداعي الفكري,, او لمحاولة الوصول الى مناطق إبداعية عميقة يعرفها الشاعر جيدا ولكنه لم يطأها بأقدامه بعد، فكل هذه الاحتمالات ممكنة، مع إمكانية خطئها جميعا.
ولكن تبقى الحقيقة القوية التي نقلتها لنا الالفاظ بكل وضوح أن الشاعر لم يعد شاعرا عاديا فقط,, فالشاعرية بكل ادواتها لديه قد تصبح أداة للوصول لحالة فكرية أكثر عمقا وأبعد أثرا,, فتحمل هذه الشاعرية بذلك غير ما كانت تحمله سابقا.
وفي هذا النص نرى اصابع اللغة وهي تشير الى ما لم يتفوه به (الشاعر) تصريحا,, مع الإيمان العميق بأن هذه الاشارات ما هي إلا تصريح (واضح النبرة) لمن يفهم لغة اللغة.
فالألفاظ ظلال المعاني,, والمعاني مقرها الفكر، ومن أهم خصائص الألفاظ أنها تتعامل مع القوانين الثابتة المتحكمة بخلايا اللغة، فتكون بذلك أداة حفر بالنسبة للناقد يستطيع من خلالها الغوص والبحث والاستكشاف بكثير من اليقين في خفايا اللاوعي اللغوي.
وها نحن نقف على ما كشفته لنا إبداعية النص من حقائق وذلك من خلال دلالات الألفاظ، اي بمعنى آخر اننا قد عبرنا من خلال دلالات الألفاظ الى ما ورائها من حقائق,, تشير اليها الألفاظ عبر النص وهذا من أسمى ما يمكن ان يصل اليه الناقد او المتبصر باللغة.
والآن نسلم قيادة زمام الأمور للألفاظ، فنلغي بذلك دور الناقد ودور الشاعر,, ليتسع المجال أمامها فتقول هي فقط ما تريده.
النص ,.
العنوان,, صرخة,, بلا فم
وهو خلاصة القصيدة,, وعنوانها العريض,, كما سيتضح لنا من خلال دراسة النص، فاختيار هذه الجملة صرخة,, بلا فم عنوانا للنص هو بحد ذاته إبداع يوازي إبداع النص لنفسه.
يقول الشاعر في البيت الأول.
قالت: قصيدك ليل,, سودٍ معانيه
رويانةٍ بالدمع,, وامدادها دم
من خلال الابتداء كمقدمة لهذا النص: المحنا الى ان الشاعر يحس هما (ثقافيا,, معرفيا,, ادراكيا) وهذا الإحساس (الشعور) يأتي بمرحلة متقدمة جدا من الفكر، وهي مرحلة لا تقل عن مرحلة الشعر ان لم تكن اكثر عمقا وأبعد أثراً منها، وراينا بان الشاعر يريد ان يعبر عما يحس به تعبيرا يوضحه للسامع, اي يريد أن يجد له قناة إبداعية ملائمة ليخرجه من خلالها من حالة الإدراك بالفكر الى المحسوس فيجعله بين أيدي الناس واضحا قائما على الوضوح والإبداع.
ونحن دائما نستخدم الألفاظ لإثبات ما نقرره,, فحتى الشاعر نفسه قد لا يعلم علما دقيقا عن حالته (اللاشعورية) ولكن الألفاظ كفيلة بكشفها.
والحالة (اللاشعورية) التي لمحناها وعرفناها من خلال دلالات الألفاظ هي: أن الشاعر يحمل هما معرفيا بكفره، ويريد ان يطرحه للناس على أرض الواقع,, ولكنه يحاول ان يجد الأداة أو القناة المناسبة لذلك.
وكأننا نلمح من خلال الألفاظ أيضا بأن هذه الأداة التي يبحث عنها الشاعر هي أداة تفتيق اللغة وتحميل الألفاظ بطريقة ما المعاني التي يحسها بفكره,, وبمحاولة مد ظلال الألفاظ أيضا ليجعلها تصل الى مناطق بعيدة في الفكر فتستوعبها وتتمثلها وتنقلها للناس حية قائمة واضحة محسوسة لكل أحد.
فالشاعر في البداية يقول:
قالت: قصيدك ليل,.
فالشاعر وهو بحالته (تلك) التي شرحناها ووضحناها كأنه أحس بمتلقي شعره وهو يحكم عليه بأنه غامض (ليل) لا يستبان ما بداخله، مع الإحساس المرافق بأن هذا (الليل) يضمب حقيقة ما (غامضة أيضا).
ونلاحظ بأن هذه الجملة الافتتاحية (قالت: قصيدك ليل) أتت حكما,, والحكم لا يأتي إلا بعد حدوث الشيء واختباره,, ليثبت لنا الشاعر بأن القضية محسومة على كونه شاعرا وذلك تهيئة لتخطي مرحلة الشاعرية بالنسة لما تحمله اشارات الألفاظ مستقبلا في هذا النص وليثبت أيضا بأن شعره في أيدي الناس، فهم قد قرأوه وأصدروا أحكامهم عليه أيضا.
فالشاعر يقرر من خلال البيت الأول بأن شعره وهذا كلام الناس وليس كلامه، ليدلل على حيادية الحكم ليل,, أي عظيم، واسع، وغامض وهذا هو الفضاء (الخيال) الشعري الفسيح.
سود معانيه
وهذه المعاني التي يضمها هذا الفضاء (الخيال) الشعري الواسع هي رويانة، ممتلئة، لها وزنها.
,, رويانةٍ بالدمع,.
وأما المداد الدي ياتينا من هذا الفضاء الواسع المليء بالمعاني الرويانة فهو غالٍ جدا عند النفس وعند الناس جميعا وهو الدم .
,, وامدادها دم:
فهذا (المداد) بقيمة (الدم) بالنسبة للإنسان
في البيت الأول أثبت لناالشاعر، بأنه شاعر (بشهادة الناس وليس ادعاء) وأن المعاني التي يطرحها هذا الشعر مليئة ومكتنزة بالقوة (رويانة بالدمع) فهي ليست ضعيفة او مبتذلة او لا قيمة لها,, وان (مَدّ) هذه المعاني يأتي غاليا بالنسبة للسامع او لمصدرها وهو الذي أتى بها من خياله وفضائه الشعري الواسع, والشاعر باثباته هذا يريد أن يصل الى نقطة سيقررها لنالاحقا.
,, إليا متى ياشاعر الهم تخفيه,.
وهنا يقرر ايضا بأن الناس قد لمحت بأنه يخفي شيئا في نفسه وفكره، فيسألونه بالحاح وتكرار:
,, اليا متى,, تحني ضلوعك على هم.
في هذين البيتين اللذين جعلهما الشاعر مقدمة في النص، اودع كل ما يريد ان يقوله كتقديم للحقيقة التي سيقررها لاحقا.
ونلاحظ انه جعل هذه المقدمة (البيتين) على لسان متلقي شعره,, يكون ذلك إمعانا في الصدق، وتجنبا عن موقف الادعاء.
قبل ان نستمر لا بد أن نشير الى ان الشاعر سيؤخر الاجابة (الحقيقية النهائية) على سؤال: الى متى,,؟ الموجود في البيت الثاني الى آخر القصيدة, استجابة لحالة ابداعية تريد ان تقرر شيئا بأقوى وأوضح صورة.
قلت: البكا,.
قلت,, الآن بدأ الشاعر بالكلام بعد أن جعل المقدمة على لسان غيره لضرورة ابداعية (لا واعية),, فرضت نفسها على القصيدة.
قلت: (البكا صعب عليه),.
البكا الذي هو إنزال ما بالعين من دمع,, استخدمه الشاعر كرمز لانزال ما بالفكر من معان غير مجسدة.
فهذا الهم الفكري (الليل) الغامض الذي يخفيه, يقرر بأن توضيحه,, صعب عليه.
,, صعب عليه,,.
وصعوبته لا تكمن في انه يكره توضيحه للناس بل هو (يبيه) ولا يكرهه
,,, وأنا أبيه,.
ويتمنى لو كان بامكانه توضيحه وإنزاله للناس,.
,,, لا واهني اللي بكا,, وما تندم.
فهذه (الدمعة) الثروة التي يحسها ويتحسسها بفكره,, صعب عليه انزالها,, مع رغبته في ذلك,, وتمنيه له.
لي عبرةٍ يلعب بها الحزن والتيه,.
فهو يملك (عبرة) فكرة عظيمة,, تائهة بفكره حزينة,, لم يجد لها قناة أو أداة ابداعية تليق بها لانزالها,, وهذا هو سبب همه.
,, ولي صرخة تعبث ابلقى لها فم
هذا هو بيت القصيد,, ومحوره,, وعموده.
له,, صرخة,, بحجم الليل العظيم,.
فهي,, صرخة سيسمعها كل من له إذنان,, لأنها صرخة,.
وسيستجيب لها الجميع,, لانها صرخة,, لا بد ان تشد انتباه السامع.
وهذه (صرخة) فكرية متعمقة قد تعدت المرحلة الشعرية, ولكن هذه (الصرخة) الجميلة التي ستدوي في سماء الفكر والثقافة كيف سيطرحها الشاعر قائمة واضحة بينه وما هي آلية طرحها، يكون لها تاثيرها على سامعها ومتلقيها,, في هذا البيت قرر الشاعر بأنه قد تعب من البحث عن فم يليق بها ويتكفل بإخراجها كاملة غير مجزأة.
,, وتعبت ابلقى لها فم,.
ولتوضيح بعض أوجه تعبه في (البحث) عن قناة او أداة (فم) توصل هذه (الصرخة) او الهم الثقافي والفكري الذي يحمله,, حقيقة انه لا يكتب الشعر الآن إلا لإيجاد هذه القناة (الفم) فهو لم يكتبه للتسلية او للمدح أو اللهو.
لا ما كتبت الشعر لاحد باسليه
ولاني بمداحٍ ولا باترنم
بل هو إحساس غالٍ,, ليس للبيع ولا للشراء.
احساس لا ابيعه ولا ينب شاريه,.
فهو أكثر قيمة ومعزة من ان يصرف في التسلية أو المرح أو اللهو,, وهو متنفس الشاعر فكرياً وهنا تكمن قيمته، لأن الشاعر يحاول أن يجعله الآن يحمل كوسيلة ناضجة يمتلكها تلك (الصرخة) الفكرية التي أصبحت همه الدائم,, وستكون كذلك إلى ان يجد لها فم , وهذه الوسيلة (الشعر,, الإحساس) قد شابتها صفة المرارة التي لاتساغ,, لأنها حملت هماً فكرياً,, لا لهواً أو مدحاً أو تسلية,,
مر يجي شهد,, ومرات علقم,.
فالصفة الغالبة هي المرارة,, لأن ذلك من طبيعة الهموم الفكرية الحقيقية، والشاعر الآن لديه، هم فكري يحاول ان يصل به إلى نتيجة ناجعة حاسمة.
وبعد ان قرر الشاعر ذلك كله,, كإجابة (تلميحاً) على سؤال (بيتي) المقدمة، عاد الآن - في آخر بيتين من القصيدة,, ليعطي عاد (تصريحاً).
ولكن قبل ذلك، يشير إلى نقطة مهمة، لأنه يود أن لايكون سبباً في أذية أحد,, فمن أحس بأن هذه المعاني الغالية (الدم) تؤلم روحه, فل يخليها ويتركها مكانها على الورق.
اليا لمحتي دم جوفي,, افخليه على الورق,, لا صار روحك تألم
وكخلاصة وتوضيح لما سبق
قلت: الشعر يوم ان لي رغبة فيه
وهنا دلالة عظيمة لا شعورية على هدفه وهو ماقررناه سابقاً ودلالة ايضاً على انه قد تخطى مرحلة الشعر فقط ، وعلى انه لم تعد له رغبة في الشعر بل رغبته في الوصول عن طريقه (ولذلك هو يقوله الآن) إلى ماوراءه وهو الهم الفكري المسيطر عليه، وطريقة التعبير عنه.
وقد يحمل هذا الشطر ايضاً - إذا نظر اليه من زاوية بعيدة - بأن الشاعر سيبحث عن أداة أو وسيلة أخرى غير الشعر للتعبير عن ما يحسه يعتمل بغضاء، فكره وخياله الواسع.
ويقرر الشاعر بانه مازال حزيناً,, وسيظل كذلك حتى يجد الوسيلة التي تكون ملائمة وقادرة على حمل هذا الهم الفكري,.
وحزين انا,.
,, الى متى,, الله يعلم
و,, الى متى,, هو سؤال السائلة في مقدمة القصيدة,, وسؤاله هو ايضاً الآن,, بعد ان وضح حالته للسائلة وللناس,, فلا يعلم عثور الشاعر على الوسيلة التي من خلالها سيطرح هذا الهم الفكري الثقافي العظيم الذي يحمله إلا الله سبحانه وتعالى وحده.
ونحن نظن بأن تكون هذه الأداة أو الوسيلة هي (مدّ ظلال الألفاظ) وجعلها قادرة على حمل معان وصور جديدة،، وجعلها ايضاً قادرة على الوصول إلى أماكن عميقة، وتمثيل مافي هذه المناطق عن معاني لم تجد بعد الرداء الذي يناسبها من الالفاظ ويعبّر عنها تعبيراً كاملاً.
ونلاحظ بأن الشاعر قد ختم قصيدة بقوله:
,, الى متى,, الله يعلم,.
ليشير إلى استمرارية البحث الجاد,, في اللحظة الآنية,, وفي المستقبل,, مع الثقة الكاملة بالنفس بإمكانية وجود ذلك المسار (الفكري) المميز,, وذلك السبق والموقع الثقافي الأكثر تميزاً.
|
|
|