Wednesday 23rd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الاربعاء 9 ربيع الاول


النموذج السعودي في التعاطي مع القضايا الحدودية
مقدم د, منصور الداموك الزهراني*

منذ مراحل التأسيس الاولى على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله حددت هذه البلاد لنفسها ثوابت راسخة في تعاملها مع الآخرين، هذه الثوابت تنبع من المكانة الفريدة التي تتمتع بها باعتبارها قبلة المسلمين وحاضنة الحرمين الشريفين, لقد حرص القادة السعوديون وفي مختلف المناسبات على التأكيد على المعايير الاصيلة غير القابلة للتبدل او التحول، والتي تحكم علاقات المملكة مع العالم الخارجي, هذه المعايير لخصها مساعد وزير الخارجية السعودي في كلمته التي ألقاها امام الجمعية العامة للامم المتحدة في دورتها الاخيرة (الدورة 53) بقوله: (في مثل هذا العام ومنذ مائة عام خلت بدأ جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله اولى مراحل اعادة بناء وتوحيد المملكة العربية السعودية على قواعد العقيدة الاسلامية السمحة ومع مسيرة التوحيد كان يرحمه الله يرسي قواعد الدولة الحديثة التي تجمع في عروة وثقى لا انفصام لها بين التمسك بالاسلام عقيدة ومنهاجا وشرعة حياة والأخذ في نفس الوقت بأرقى سبل التطوير والتحديث، ومنذ ذلك الحين والمملكة العربية السعودية باعتبارها تدين بالدين الاسلامي الحنيف تضطلع بدور دولي متميز لأن سياستها الخارجية تسير على أساس ان المبادئ الاساسية التي ارتكزت عليها منظمة الامم المتحدة والاهداف النبيلة التي من اجلها وضع ميثاقها,, فيها تأكيد لما تقرره الشريعة الاسلامية من تنظيم العلاقات بين الدول,, فرسالة الاسلام الخالدة توحّد ولا تفرّق,, تعدل ولا تظلم,, تساوي ولا تميّز,, تحث على العمل والتعاون مع الجميع لنشر هذه المبادئ السامية وتحقيق الامن والسلام والرخاء للإنسانية بأسرها,, إلى ان يقول: ,,, ومن هذا المنطلق,, فإن حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز حريصة كل الحرص على اداء دورها في الساحة الدولية,, بما يصبو اليه المجتمع الدولي,, من امن وسلام واستقرار ورخاء,
اعتماد الشريعة الاسلامية مرجعية وحيدة في ادارة مختلف شؤون الحياة، بما في ذلك العلاقات الخارجية للمملكة يقتضي تأكيد ايلاء اهمية استثنائية لعلاقة المملكة بشقيقاتها الدول الاسلامية، ودول الجوار على وجه الخصوص، وهو ما أكده سمو ولي العهد في اجتماع مجلس الوزراء المنعقد في اليوم الاخير من الشهر الفائت عندما صرح بقوله ان هذه البلاد بما وهبها الله من مكانة رائدة بتشريفها بخدمة الاسلام والمسلمين ومنذ ان اسسها الملك عبدالعزيز يرحمه الله وضعت في علاقاتها مع مختلف الدول مصالح اشقائها في أولوية اهتماماتها وتوجهاتها , بل ان المملكة كثيرا ما وظفت ثمار مواقفها وسياساتها العقلانية الناضجة فيما يعود بالنفع على الاشقاء، وإن ننسى فلا ننسى في هذا السياق - وعلى سبيل المثال لا الحصر - الدور السعودي المتميز في حل الازمة اللبنانية وحلحلة قضية لوكربي,, كما ان المملكة وعلى ضوء الثوابت والمبادئ الراسخة التي سنتها لنفسها - اثبتت في كل الاوقات انها لا تبني علاقاتها على حساب الدول الشقيقة، وهو ما أكده سمو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء في معرض تعليقه على بعض التصريحات الانفعالية غير المبررة التي صدرت عن بعض المسؤولين الإماراتيين احتجاجا على التقارب السعودي الإيراني، حيث اشار سموه الى ان المملكة لا يمكن ان تنشئ وتبني علاقاتها السياسية والاقتصادية والتجارية مع اي دولة على حساب دول اخرى، وخصوصا الدول الشقيقة والصديقة التي تربطنا بها روابط استراتيجية ومصيرية وتاريخية.
المرتكزات الاساسية لعلاقات المملكة بالآخرين تجلت في اوضح صورها وأشكالها في تعامل المملكة مع الدول المجاورة, هذه العلاقات طابعها احترام حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير واحترام الاتفاقيات والمعاهدات القائمة وتسوية الخلافات بالطرق الودية والابتعاد عن استخدام السلاح او التهديد باستخدامه, ان نظرة سريعة على العمل السعودي المتعلق بحدود المملكة مع جيرانها يؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان تلك المرتكزات ليست مجرد اقوال أو شعارات زائفة، بل هي افعال يؤكدها الواقع، نقول هذا انطلاقا من المضامين والمبادئ التي أقرّتها الانظمة السعودية واتفاقيات ترسيم الحدود مع بعض الدول المجاورة من ناحية، ومن خلال التعامل مع حوادث حدودية تقع هنا او هناك من ناحية اخرى، من اجل تعيين الحدود مع الدول المجاورة او المقابلة، اقرَّت الانظمة السعودية مبدأ الوصول الى اتفاق طبقا لمقتضيات العدالة، وهو ما تتضمنه - على سبيل المثال - نصوص النطق الملكي الصادر سنة 1368ه الخاص بالمناطق المغمورة في الخليج العربي، وكذلك المرسوم الملكي الصادر سنة 1377ه الخاص بالبحر الاقليمي السعودي, ولا شك ان التأكيد في تلك الامور على مبدأ الاتفاق للوصول الى حل يعكس النظرة الواقعية غير الانانية للمملكة، على اعتبار ان تسوية الحدود مسألة لا تهم طرفا واحدا فحسب، إذ أن الاتفاق عليها عادة يستوجب رضا الاطراف المعنية جميعها,, اما إقرار مبدأ العدالة في ترسيم الحدود فإنه يتضمن من ناحية اشارة صريحة الى ضرورة المحافظة على الحقوق والمكتسبات الاقليمية، ليس للمملكة فحسب,, بل وللدول المجاورة، كما انه يشير من ناحية اخرى الى اهمية ترك المجال مفتوحا للتفاوض على اعتبار ان مبادئ العدالة هي في الواقع مبادئ قانونية عامة يمكن ان تطبق بطرق شتى تختلف من حالة الى اخرى.
أما في السياق التعاهدي، فإن من المعلوم ان المملكة ترتبط مع عدد من دول المنطقة المجاورة باتفاقيات حدودية ثنائية، وبموجب تلك الاتفاقيات تم ترسيم خط الحدود على ارض الواقع مع بعض تلك الدول، كما ما تزال المفاوضات جارية بشأن ترسيم الحدود في مواقع اخرى، كما هو الحال مع اليمن والكويت، وهناك حالات اخرى ما تزال بانتظار بدء المفاوضات، وينطبق ذلك تحديدا على الوضع مع كل من مصر والسودان في البحر الأحمر,, وباستعراض نصوص الاتفاقيات المشار اليها، نجد انها لا تكاد تخلو في معظمها من الاستهلال بالإشارة الى عبارات تحمل في مضمونها الرغبة الصادقة في تجنب كل ما من شأنه إثارة الخلافات الحدودية, فهذه اتفاقية الطائف بين المملكة واليمن لعام 1934م تضمِّن ديباجتها من بين مبررات إبرامها ,,, وحبا في تثبيت الحدود بين بلاديهما وإنشاء علاقات حسن الجوار وروابط الصداقة الاسلامية فيما بينهما وتقوية دعائم السلم والسكينة بين بلاديهما وشعبيهما، ورغبة في ان يكونا عضدا واحدا امام الملمات المفاجئة وبنيانا متراصا على سلامة الجزيرة العربية,, , وعلى ذات المنوال تسير مذكرة التفاهم الموقَّعة بين الطرفين في شهر رمضان من عام 1415ه، حيث اتفق الطرفان على ان سبب إقراره يعود الى الرغبة في ترسيخ وتمتين اواصر العلاقات الاخوية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية وشعبيهما الشقيقين , اتفاقية الحدود البحرية بين المملكة والبحرين والموقّعة في شهر شعبان من سنة 1377ه أوردت في ديباجتها القول: إن مما أدى الاتفاق على بنودها روح الود والصداقة المتبادلة ورغبة من حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية في بذل جميع المساعدات الممكنة لحكومة البحرين , اتفاقية المملكة مع الاردن الموقَّعة في ربيع الثاني من عام 1385ه، اشارت الى اسباب ابرامها من خلال ديباجتها على النحو التالي ان حكومة المملكة الاردنية الهاشمية وحكومة المملكة العربية السعودية تثبيتا لأواصر الاخوة والصداقة التي تربط بلديهما وشعبيهما الشقيقين وتأكيدا للتعاون المثمر القائم على أسس تلاؤم الصلات الطبيعية السائدة بينهما وتقديرا للمنافع التي يمكن تأمينها بما يعود بالخير المشترك على بلديهما ,, ولم تكن اتفاقية الحدود مع قطر الموقَّعة في شعبان من سنة 1385ه استثناء، حيث أكدت في ديباجتها على ان الهدف من إبرامها رغبة ,, الحكومتين في تعيين الحدود البرية والبحرية بين بلديهما لما في ذلك من اهمية بالغة، ونظرا لما يسود القطرين الشقيقين من روابط المودة وأواصر الإخاء .
أما اتفاقية الحدود مع الامارات لعام 1394ه فقد اسهبت في وصف طبيعة العلاقات بين البلدين فيما يبدو وكأنه انعكاس لرغبة سعودية في التأكيد على المبادئ والثوابت التي تحكم علاقات المملكة مع اشقائها وجيرانها، حيث اشير الى ان الاتفاق أتى عملا بمبادئ الشريعة السمحة التي تدين بها الامة الإسلامية وانطلاقا من روح التضامن الاسلامي التي تظلل الجزيرة العربية واستنادا الى روابط المودة بينهما وأواصر الإخاء بين شعبيهما الشقيقين وعلاقة الجوار القائمة بين بلديهما، ونظرا لرغبة كل من الدولتين في تعيين الحدود البرية والبحرية بين إقليميهما بصفة نهائية في ظل الاخوة الإسلامية وبروح الإخاء العربي .
السلوك السعودي المتميز في التعامل مع القضايا الحدودية يبدو جلياً ليس فقط من خلال نصوص اتفاقيات تعيين الحدود الثنائية مع دول الجوار، بل ومن خلال المعالجة الحكيمة لبعض الاشكالات الحدودية الطارئة,, في هذا الاطار، وعلى إثر احتكاكات الحدود البرية بين حرس الحدود السعودي ونظيره القطري في أواخر سنة 1992م، تجاوبت المملكة سريعا مع الوساطة المصرية لتسوية ذلك الخلاف، وهو ما اثمر عن عقد لقاء قمة جمع خادم الحرمين الشريفين بأمير دولة قطر السابق في المدينة المنورة، حيث صدر عن الاجتماع بيان مشترك نص على ضرورة تنفيذ الاتفاق الحدودي المبرم بين البلدين سنة 1385ه، ليتلوه بعد ذلك بفترة بيان مشترك صدر في كل من الرياض والدوحة، اكد من خلاله الطرفان على العلاقات الاخوية والروابط الوطيدة التي تربطهما وعلى ضرورة إنهاء ترسيم الحدود بين البلدين تعزيزا لعلاقاتهما التاريخية,, هذه الرغبة الصادقة افضت ومنذ بضعة ايام الى التوقيع على الخرائط النهائية لترسيم الحدود البرية بين الدولتين وتعيين خط الحدود في خليج سلوى الذي يفصل ساحليهما.
دليل آخر يعكس ثبات الموقف السعودي وحكمته في التعاطي مع المسائل الحدودية، ذلك ما تضمنه اللقاء الصحفي لسمو وزير الداخلية الامير نايف بن عبدالعزيز في اعقاب حادثة جزيرة الدويمة قبل نحو عام من الآن، في ذلك اللقاء، أكد سموه، وفي إشارة منه الى ما تضمنته مذكرة التفاهم المشترك الموقعة سنة 1995م من ضرورة الابتعاد عن الإثارة الاعلامية التي لا تخدم تقدم سير المفاوضات الحدودية بين المملكة واليمن، أكد على عدم رغبة المملكة في ان يكون الحوار مع الاشقاء في اليمن عن طريق وسائل الإعلام,, أما في تعبيره عن وجهة نظر المملكة الى طبيعة علاقاتها مع اليمن، فقد قال سموه إن المملكة العربية السعودية قيادة وشعبا وحكومة تقدر اليمن الشقيق شعبا ورئيسا وحكومة ونريد كل الخير لليمن الشقيق، وخير اليمن خير لنا في كل امر من الامور , وعن الكيفية التي تسعى المملكة من خلالها الى انهاء قضية الحدود مع اشقائنا في اليمن بالشكل الذي يرضى عنه المسؤولون في البلدين والممثلون لشعبي البلدين الشقيقين ,, وفي تأكيده على مبدأ الاهتمام بالمحافظة على المصالح السعودية وعلى عدم الاعتداء على الآخرين، يقول سموه ,,, المملكة قراراتها وكل مواقفها لا يمليها عليها احد، بل مصلحة المملكة العربية السعودية هي التي تأمرها بذلك، مصلحة شعب المملكة في الحفاظ على اراضي المملكة قبل كل شيء فنحن لا يمكن ان نقبل أن نعتدي على أي اخ بأي شيء ولن نقبل ان يعتدي علينا اي احد ,, وعندما سئل سموه عن امكانية اللجوء الى التحكيم لحل الخلاف الحدودي بين المملكة واليمن أجاب سموه بما يعكس صلابة الموقف السعودي من ناحية، والقناعة - من ناحية اخرى - بأن العلاقة بين البلدين من المتانة بحيث يصعب تخيل إحالة خلافهما الحدودي الى التحكيم الدولي، حيث قال سموه إن المملكة العربية السعودية لا تريد اللجوء الى التحكيم ولم تفكر فيه لأنها على قناعة بأن ما بينها وبين الاشقاء لا يحتاج الى التحكيم وأن التفاهم بين البلدين ممكن لأن لدينا القدرة على ان نبحث كل امر وأن نتفق على كل امر .
هذه هي المملكة وهذه ثوابتها التي ارتضت الا تحيد عنها، إيماناً بوحدة المصير بين الاشقاء ومد يد العون والمساعدة كلما اقتضى الامر مع عدم التدخل في شؤونهم الداخلية وإصراراً على نيل الحقوق وصيانة المكتسبات مع الايمان بضرورة احترام حقوق الآخرين ومكتسباتهم, قوة في الحق والتعبير عن الذات مع الترفع عن الابتذال واحتقار الآخر.
* كلية الملك فهد الامنية

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
المحرر الأمني
الرياضية
تحقيقات
تغطيات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved