Wednesday 23rd June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الاربعاء 9 ربيع الاول


مملكة الشعر

مقارنة ببقية الاجناس الادبية يظل الشعر متصدرا قائمة الابداع، وتظل مملكة الشعر الاكثر اغراء للمبدعين، فما منهم اي المبدعين اوحتى غير المبدعين، الا وراودته الرغبة في الانتساب لدخول عوالم هذه المملكة السهلة الممتنعة, فجواز الدخول لهذه المملكة لايأتي برغبة ذاتية او بقراراداري بقدر ماهو موهبة كامنة تتفجر وتتولد في اعماق الانسان ويترجمها الانسان ويترجمها المبدع نزفا ينطلق بشكل موسيقي متناغم، وهذا الانفجار الداخلي الذي يحدث لاسباب مختلفة يعرفها احيانا المبدع نفسه، يعد شرطا اساسيا لتكوين المبدع, وبطبيعة الحال، لابد ان يصاحب مرحلة الانفجار هذه رغبة ومقدرة وادوات فنية تمكن المرء من التعبير عن أحاسيسه وانفعالاته بطريقة شعرية او شاعرية اقول ان مملكة الشعر مغرية جدا الى درجة ان من يكتبون مايسمى بقصيدة النثر يصرون على تسميتها شعرا مع العلم بان الشعر شعر والنثر نثر والبون بينهما شاسع، ولكن اغراء مملكة الشعر يجعلهم يصرون على هذه التسمية، ورحم الله الاقدمين الذين سموا الأشياء بمسمياتها ولم يتطاولوا على مملكة الشعر، فالخطب المسجعة والمقامات لم يقل عنها اصحابها بانها شعر علما بانها اقرب للشعر من قصائد النثر المتداولة اليوم.
ومملكة الشعر التي نتحدث عنها هي مزيج من البشر فليس للشاعر وسم يعرف به فالشاعر قد يكون طويلا او قصيرا، سمينا او ضعيفا، أبيض او اسمر، وسيما او دميما، اقول هذا لان الذاكرة المثالية للبشر تصور الشاعر بصورة مثالية ولكن واقع الحال قد لا يكون كذلك، وكم من البشر قد دهش عندما رأى بعض الشعراء لأول مرة وذلك للفرق الشاسع بين الصورة المثالية المرسومة عنهم مسبقا والصورة الواقعية التي هم عليها عند مشاهدتهم.
اذن الشعراء اناس عاديون مثلنا جميعا, يأكلون ويشربون ويغضبون ويفرحون ويصدقون ويكذبون، الفارق الوحيد انهم ينزفون ماباعماقهم من خلجات وقلق وهموم وافراح واتراح الى الخارج على هيئة لوحات موسيقية يجد بها المتلقي متعة ولذة خاصة اذا تلاقت مع هواه واهتماماته وهمومه ووضعه, فالشعر من هذا المنظور رئة ثالثة يتنفس بها الشاعر وينفس بها عن نفسه وعن الاخرين والشيء الذي قد يجهله الكثير ان ماوصلنا من الشعر وما رأيناه مكتوبا لايمثل الا جزءا يسيرا من المملكة الحقيقية للشعر، فلاسباب مختلفة واحيانا لخصوصية المناسبات يحتفظ كثير من المبدعين بقصائدهم لانفسهم او لبعض جلسائهم من الخاصة, ولا غرابة في ذلك اذ ان الاصل في الامر ان الشاعر ينزف ماباعماقه ليعبر عما في نفسه لا ليسمع الآخرين او لينشر ماينزف من اشعار او ليقال عنه شاعر, مايعني الشاعر عند نزفه للشعر هو البوح والقذف بالآهات للخارج كي لاتبقى حبيسة الجوانح، ولو حبس الشاعر عواطفه واحاسيسه بين حناياه لاصبحت اعماقه جحيما لايطاق من الآلام والاحزان والآهات, فهذا المنفذ الابداعي،اقصد الشعر، ينفس للبراكين الداخلية كي لاتتعاظم القروح والنيران في أعماق المرء فتثور براكينه وتتفجر في لحظة لايعلم ما قد تؤدي اليه من نتائج الا الله.
ومهما يكن من امر فان شرارة الانطلاق في توليد اية قصيدة تنبع من اللحظة الشاعرية, فأجمل قصيدة قرأتها في حياتك او قرأتها في حياتي هي عبارة عن ثمرة اللحظة الشاعرية التي مر بها نازف القصيدة, والقصيدة تأتي كالالهام كالحلم كالخيال فيمسك بتلابيبها الشاعر كي لاتنفلت منه ويصوغها ويشكلها وفق ايقاعاته الداخلية وقدراته, واعلم جيدا ان هناك من الشعراء من ينزف القصيدة المبدعة ويدونها ومن ثم يتساءل هو نفسه عن كيفية ولادتها وكأنها خرجت بصورة لا شعورية وكأنه لم ينزفها بذاته, اعتقد ان مثل هذا الامر قد يحدث للشعراء الفطريين، اي المبدعين بالفطرة، اما النظام فاكثر مايملكونه هو الصنعة ولذلك يأتي شعرهم جافا ومتكلفا وضعيف الرؤية وقاصر الخيال ومتكلف الاساليب والالفاظ.
الشاعر الفطري المبدع يموت ويولد في مملكة الشعر اكثر من مرة، فنهاية نزف القصيدة هي موت للشاعر واللحظة الشاعرية وولادة قصيدة جيدة هي بعث جديد للشاعر في مملكة الشعر ليعبر عن احاسيسه ووجدانه وقلقه وانفعالاته وفوق ذك ليعبر عن نفسه ويعلن عن وجوده وموقفه اوليخلد نفسه اذ ان الشاعر مثل بقية البشر يعاني لا شعورياً من فكرة الموت ونهاية الحياة وبالفعل لقد خلد الشعر آلافا من الشعراء ولانتصور اننا بحاجة الى سرد أسمائهم فهم احياء في ذاكرتنا الجماعية.
عبر التاريخ كان الشاعر لسان قومه وقبيلته ويمكن ان يقال ان الشاعر كان بمثابة وزارة اعلام، بيد ان وسائل الاتصالات والتنظيمات المجتمعية الحديثة قد قللت الى حد كبير من اهمية هذا الدور ومع ذلك سيظل لمملكة الشعر ومبدعيها اهتمام واهمية اذ ان الشعر هو ديوان العرب مهما حاول البعض التطبيل للقصة والرواية, فالعربي بطبعه هو مشروع شاعر اذا لم يصل الى الشاعرية فسيحن اليها ويرتبط بها مستمعا ومراقبا ومتذوقا.
جميلة هي مملكة الشعر وجميل هو الابداع الشعري وان كنت اخشى على الشعر من الادلجة والتسيس الذي يفسد ذائقته ويزج به في وظائف وميادين ومجالات غير مألوفة له, اقول ان الفكر فكر والسياسة سياسة والشعر شعر, فأحرى بنا ان نحافظ على مملكة الشعر وعذوبتها ورومانسيتها وجمالها ومن يريد غير ذلك فالاجناس الادبية كثيرة فلينهل منها.
وشيء من حديقة اشعاري:
لولاك لما نزفت اشعاري
ولم اهجر لدى الاسحار سماري
ولم أرن الى الازهار في وله
ولم اطرب لموال واوتار
فمذ جئت الى دنياي يا قدري
زرعت الحزن في حسي وافكاري
أبات الليل في سهد يؤرقني
وينقلني من الانوار للنار
د, عبد العزيز بن عبد الله السنبل*
*نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
المحرر الأمني
الرياضية
تحقيقات
تغطيات
مدارات شعبية
وطن ومواطن
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved