في هذا الحوار الذي اختصت به إحدى حفيدات الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - السيدة عابدة العظم الجزيرة تتحدث فيه عن جدها الشيخ الطنطاوي وكيف نشأت وتربت في كنفه، وكيف كان يجمع بين العلم والدين، ولماذا كتبت عنه كتاباً صدر مؤخرا بعنوان هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي .
فحول نشأتها في كنف جدها الشيخ علي الطنطاوي تقول:نشأت وترعرعت في كنف جدي وامي وانا اعتقد - كما يظن ويعتقد كل طفل - ان كل الناس يتربون ويتوجهون في بيئة ان لم تماثل بيئتي فهي مشابهة لها، وكنت اسمع الناس يمتدحون جدي فلا ادرك من الحقيقة الا ان الناس عرفوه لأنه يحدثهم في الراديو والتلفزيون فأحبوه، فامتدحوه,!! وكنت انا مثلهم احبه كثيرا، لما أراه منه، فلم اعر الامر اهتماما.
وما لبثت ان كبرت قليلا، واختلطت بالناس فبدأت ادرك شيئا فشيئا الفروق الجوهرية بين جدي مربيا وبين سائر المربين، وكنت كلما اجتمعت مع اقراني لمست التباين بين اسلوبه في التوجيه وبين اسلوب بقية الوالدين، وكنت كلما سمعت مشكلات الآباء في تربية الابناء اعترف لجدي بالتميز والابداع في معالجة الاخطاء، وتعديل الطباع، وساهمت خالاتي وامي في تبصرتي، وذلك بما كن يقصصنه عليّ من قصصهن مع جدي، وبما كن يكننه له من الاحترام والشكر والتقدير، وبما كن يحملنه من إيمان عميق بالله، ومبادئ عظيمة تعلموها من شرع الله.
فلم اكد اتفهم هذه الحقائق، واتبين الاثر الكبير الذي اوجده جدي فينا، حتى شرعت بكتابة المواقف المهمة العالقة في ذاكرتي، إذ احسست بأن هذه التوجيهات حرية بأن لا تبقى حبيسة معرفة بعض الناس الذين هم احفاد الطنطاوي، بل ينبغي ان تنشر ليطلع عليها سائر الناس، فتكون لهم عونا في تنشئة ابنائهم وبناتهم.
وعن كتابها هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي وهل نجح في إلقاء الضوء على جانب هام من شخصيته ربما لم يعرفه محبوه الكثر وما هو رأي الشيخ شخصيا في هذا الاصدار تقول السيدة عابدة العظم :
- لم أكن عند جدي لما عرض الكتاب عليه لأول مرة فقد حمله اليه زوج خالتي (نادر حتاحت) بصفته ناشر الكتاب، ولما قرأه جدي اتصل بي هاتفيا ليقول: الكتاب جيد بل هو جيد جدا، واسلوبه جميل لكنه عقب بقوله: (ومن الصعب علي يا ابنتي ان امتدح هذا الكتاب او ادلي برأيي الصريح عنه، لأنه عني، واخشى ان يظن الناس اني افعل لاجل ذلك,! ثم ختم كلامه بقوله: وانا لست كما وصفت فأنت التي جملت الحوادث وصورتها بتلك الطريقة .
ولكن تأكدوا - ايها القراء - اني ما كتبت غير الحقيقة، وما صورت إلا ما رأيته، وما قاله ذلك جدي إلا تواضعا.
وعن رؤية الشيخ علي الطنطاوي للمرأة وخاصة انه لم يرزق بالبنين تقول:
ان جدي إنسان كأي إنسان آخر يحب ان يرزق البنين، فيحملوا اسمه ويتعلموا مما علمه الله ويكونوا خلفاء له وهو لم يتوقع اصلا ان لا يولد له ذكر، فلما جاءته ابنته الاولى رضي بقضاء الله، وسعد بها، بل احبها واخواتها - من بعد - حبا شديدا، وأولاهن من العناية والرعاية والاهتمام ما لم يوله أب آخر ممن اعرفه أو سمعت عنه.
أما احترامه للمرأة فهو شيء معروف عنه، وكان في احاديثه يدافع عن النساء ويذب عنهن، ويحذر الرجال من الظلم والتعدي، وكان يردد دائما: ان الدرجة التي للرجل على المرأة درجة واحدة، وليست سلما، حتى لقبوه بناصر المرأة, وهو كذلك معنا فقد كان يفضلنا - احيانا - نحن الحفيدات على الاحفاد، وقد بذل لنا الكثير، واكرمنا زيادة عنهم في بعض المواقف ولكن دون ان يشعروا حتى لا يتسبب ذلك في أذاهم.
وحول شخصية الشيخ (علي الطنطاوي) وكيف جمع بين العلم والدين والادب والحياة تقول : ساءلت نفسي هذا السؤال مرة، ثم وجدت الجواب في سيرة جدي، فقد مر بظروف قاهرة ومؤلمة، فعوضه الله بمجموعة من العطايا، فأهلته لهذا النجاح:
اذ وجده يتيما وحيدا بلا أب ولا ام ولا سند مادي او معنوي، فأعطاه العقيدة السليمة، والمحاكمة الصحيحة، وقوة الشخصية، فكان بلسانه وقلمه سيف مسلول على اعداء الله ورسوله، فكان يترصد الباطل ويقتله، ينازل الفسوق فيقهره، ويبارز الكفر والانحلال والمجون فيغلبهم، جميعا، وكان صدَّاعا بالحق، لا يسكت عن إنكار منكر، ولا تمنعه منه هيبة ذي سلطان، جريئا لا يهاب احدا ولا يخشى الا الله، متمردا على العادات والتقاليد المخالفة للإسلام,, فرفع الله بعمله هذا ذكره بين الناس.
ووجده محبا للعزلة والانفراد، فأعطاه حب العلم، ورغبة بالقراءة والاطلاع، ورزقه الذكاء الحاد والحافظة العجيبة، وسرعة الاستيعاب, فلم تكن الا سنون حتى جمع علما غزيرا متنوعا، فهو اديب، ولغوي وفقيه، وعالم نفس، وهو قارئ نشط في الطب والفلك,, فسهل الله له بعلمه الطريق الى عقول الناس.
ووجده هيابا للاجتماع بالناس، فأعطاه القدرة على مخاطبتهم من بعيد (اي عن طريق وسائل الاعلام) على اختلاف مشاربهم، واعطاه روح الفكاهة، وحلاوة الاسلوب، والابتكار في العرض، والغزارة في التشبيه، والقدرة على الاقناع، والمرونة في الافتاء فوصل الى قلوب الكثيرين.
وقد جمع مع هذا كله التلقائية والطبيعية، فهو لا يبالي ان يتحدث مع المخرج وهو على الهواء مباشرة، ولا يجد غضاضة بمراقبة ساعته وضبط مسجلته وهو يتحدث الى الناس، ولا يتحرج من قراءة رسائل الانتقاد التي تصله من بعض الكارهين له على الملأ وكان هذا كله في وقته طريفا, وغريبا,, وكان - في برنامجه التلفزيوني - قريبا من الناس يهتم بمشكلاتهم ويساعدهم على حلها.
كل ذلك وغيره جعل منه شخصية نادرة ومبدعة ومتميزة فأحبه الناس.
وعن جيل الاطفال الذين هم ابناء احفاد وحفيدات الشيخ (علي) يحفظه الله -و هل التصقوا به ام ان طفل اليوم كما يشاع عنه ملتصق بافرازات التقنية (كمبيوتر، انترنت) ولا وقت لديه ليسمع حكايات الاجداد وتوجيهاتهم تقول عابدة العظم : لا شيء في الاطفال يصعب على التربية والتوجيه، يكبر الولد في عائلتنا فيرى حبنا لجدنا، وحرصنا على استشارته والتقرب منه، ومحاولتنا السير على خطاه، والوصول الى العلم الذي وصل اليه,, فيتمسك الحفيد بشيء من التقاليد الطنطاوية، ولم يكن جدي - رغم ذلك - ليمنع الاحفاد عن منتجات التقنية لأنه كان متوازنا يعطي كل ذي حق حقه، فيتبع الحفيد - بالاضافة الى هذا - ما يروق له من إفرازات العصر,, ولو جاء من بعد أمهر اصحاب احفاد الشيخ، ما استطاعوا ان يأخذوا الحفيد تماما من هذا الجو، وما تمكنوا من إقناعه باستبدال الذي هو خير بالأدنى، ولو غفل واحد من الاحفاد عن توجيهات عائلتنا مدة، عاد وحده بعد فترة طائعا مختارا الى نهجنا وطريقتنا.
لذلك عودت بنات الشيخ اولادهن ان يسيروا على خطا والدهن، وفعلنا نحن مثلهن، واولادنا يحبون جدي ويتوقون الى زيارته، وهو يسأل عنهم ويهتم بهم، ويكرمهم، ويتحدث اليهم، ويلاطفهم، ويقدم لهم ما يستطيعه,, لكن كثرة عددهم، وظروف (الشيخ) الصحية، حالت دون نمو علاقة وثيقة بينه وبين ابناء الاحفاد مقارنة بتلك التي سادت بينه وبين الاحفاد قديما.
وسيحصل - ان شاء الله - على نفس النتائج كل من سار على هذا النهج، فيرضي الله ورسوله، ويحقق السعادة له ولأولاده في الدارين.
|