في مجموعته الشعرية هذي حدوسي هذي يدي المبهمة يلتقط الشاعر الأردني علي العامري أكثر الأشياء تأصلا في الطبيعة وارتباطا بحياة الانسان وهو فيما يلتقط يؤسس تجربة شعرية متفردة في حركتها وفي نموها المتصاعد حيث تبدو وكأنها تحتضن العالم عبر بوابة اللغة حتى تضفي على الأشياء حدوسها الذاتية المختزنة في قعر التجربة فهو يقول:
الباب طير
كلما اشتاق الفضاء لكي يطير بكى
ولملم ما تبقى
من لهاث المتعبين بصرة
وبكى كثيرا
بينما
تبقى فتاة الريح تطرقه
ويبقى
سادرا في صمته الخشبي
مصلوبا
أمام الناس والحراس والأجراس
مشغولا
بإرث الذكريات وبالأسى
في هذا النص تسعى التجربة الى التوحد وذلك بتفعيل المجاز من جهة وترك العالم الخارجي يعيد صياغة نفسه من جديد في فضاء النص من جهة تؤثث طاقتها الايحائية في النص باستقلال التوحد بين الأشياء حيث تقوم بخلع دلالات بعض الأشياء واضفائها على البعض الآخر وهذا ما يعطي مسربا للذات كي تفرغ حدوساتها في مسامات النص ومداراته وهذا يتضح في مقطع: ولملم ما تبقى من لهاث المتعبين بصرة/ وبكى كثيرا, أو مشغولا/ بإرث الذكريات وبالأسى.
وهكذا تتحرك أغلب نصوص المجموعة بهذا الاتجاه في توليد شاعريتها تلك وفي مثال آخر يقول:
العتمة أنثى الغامض ترفع شهوتها في رمح السدة
والريح أصابع ترفع اسم الفوضى
هذا التماثل بين الطبيعة والانسان والذي يلح كثيرا في نصوص علي العامري ليس إلا تأملات الذات في رؤيتها للوجود,, تأملات تخترق الرؤيا السطحية الرومانسية الى رؤيا أكثر وعيا وعمقا في تلمس اجاباتها المتواضعة في تجربة الشاعر, وحين تتغلغل الذات في تأملاتها تلك تنبعث صورها الشعرية ممزوجة بالتجريد المنبنية في الذهن كأنها لا تترك خيارا آخر للذات في رصد رؤيتها من الأشياء الأكثر قربا منها كما في نص، جسد ممسوس:
المساءات مفرودة
فوق قارعة الغيب
والخيل ترفل بالكهرباء
فتقفز من تحتها كائنات الشرر
,,,,,,.
الغزالات يعصرن وسوسة
في رخام الجهات
أو في نص بيت الغزالة:
,,, هذه النار صوت الخلاخيل
في أرجل الريح
والريح ظل المعادن في خاتم الاشتهاء
-2-
في بعض نصوص علي العامري تصبح الذات بؤرة في نسيج النص ويصبح الجسد ودلالات حركته في المكان مبعثا لشاعرية النص حيث النص لا يسعى الى التوحد بقدر سعيه الى بعثرة الجسد قبالة اللغة وتجزئته الأمر الذي يجعل النص قادرا على لملمة أطرافه وانجذاب هوامشه الى بنيته المركزية خلال حركة النص وتداعياته وهو يدفع التشبيه في النص كبديل عن التوحد من جهة وكابراز الذات في النص مستقلة في حركتها أمام الآخر/ الأشياء من جهة أخرى وهذا ما يعطي الذات هيمنة على المشهد كي تطلق طاقاتها التعبيرية بشكل متوازن وبايقاع متماسك في اطار حركة النص كما في المقطع التالي:
سوف أترك ظلي
هناك
على شجر
يدعي حكمة النار
حتى أراني
أروح الى قامتي
كطير يرفرف
فوق نعاس الدخان
سوف أترك ظلي
وأحمل ما قد تيسر مني
وأغرف من جبتي
قامتي
وفي نص آخر تستدعي الذات عناصرها الداخلية بوصفها أكثر ارتماء في الخفاء حيث تعبر الذات من خلالها الى تجلياتها في الخارج,, انها تتراوح بين الخارج والداخل دون ان يفقد ايقاعها نبرته الحادة التي تطغى على النص.
ان الذات تحقق بذلك تأملاتها التي تصل الى اقصى نقطة ممكنة في الداخل المترامي الأطراف كما في النص التالي:
سأنام على حافة القبر
خمس دقائق
ثم أشيل غيابي
وأحثو العجاج على ساعدي
سأنام قليلا
وأرفع كراستي عاليا,, عاليا في المتاه
سأنام قليلا
على حافة القبر
حيث سألقي الفجيعة
في قاعة غاصة بالشفاه
وربما تكون لغة العامري في النصوص السابقة أكثر مقدرة على استحضار مجمل الكون وامتزاجه بالتفاصيل الصغيرة وكأن لغته تعيد ترتيب الكون وفق رؤيته المهيمنة على النص كما في المقطع التالي:
قبل أن أرتدي الأرض
سوف ألملم هذي السماء
بجيب قميصي القديم
,,, سوف أنادي المساءات
يسخن لي قهوة
سوف أشتق للغيم خيلا
وأشتق للنار بابا
يؤدي الى رقصة في العراء.
-3-
يشكل السرد وتشعيره بنية يتكىء عليها الشاعر في تمديد النص وتسريبه في مساحات تبدو الذات فيها أكثر في حركتها داخل النص ونجد ذلك في ثلاثة نصوص: صاحت الطير: لا، الحناظلة، هذي حدوسي هذي يدي المبهمة ففي نص الحناظلة يأتي السرد مشحونا بنبرته الدرامية ومتداخلا في مستويات متعددة من تقاطع الأصوات داخل النص مما يجعل النص متناغما مع موضوعه وايضا في قدرته على ترميز الواقع من داخل الواقع نفسه فهناك واقعان الأول ينبعث من الثاني والثاني متحقق في الخارج العيني حيث تشكل شخصية حنظلة رمزا للجهاد الفلسطيني ضد الاحتلال وبذلك يتداعى النص على كل ما يؤدي الى رسم الواقع/ الحلم والى كل ما يتعالق به من تراكم تاريخي يضفي على النص طابعه الخاص ففي المقطع التالي مثلا:,,, وحنظلة يحمل محراث
الحقل ومفتاح الأبواب ويبدأ رسم الخيل على جدران مخيم عين الحلوة ينقش بالسكين طريقا محفوفا بدماء ونشيد يبدأ:
يا وطني
يا أول قمر تنطقه الأشجار
ويالثغة روحي
يا جمهرة الماء على حلق الصحراء العربية
يا جرح الأوقات ويا جرس الأحياء
حيث تنمو الشخصية وتتحرك بمعزل عن تمظهرات الذات الساردة على سطح النص سوى أنها من جانب آخر لا تدع حنظلة يلامس الأحداث المتواضعة في السرد بيده المبهمة بل تتكفل هي بذلك بدلا عنها حيث يؤدي الى اسقاط البعد الدرامي في تسطيحية مجانية لا تتموضع كأساس في بنية النص وبنائه الهرمي كما في المقطع التالي:
حنظلة يمشي
ويلملم فشكا من بين الأحجار يلملم أقلام
رصاص ويطوف كما النحلة بين الدفلى والموت
ويسطع فيه الوعد ويشقى
حنظلة ولد يعرف أسماء الأشجار ويرسم خارطة لفلسطين، ويركض في الحارات,.
أما نص هذي حدوسي هذي يدي المبهمة فيشكل انفتاح الذات بشكل جلي على الكون والحياة واندفاعها لتجيب عن توجساتها وتساؤلاتها وبالقدر الذي يتحقق فيه ذلك تتعرى الذات أمام لغتها وتبدأ عملية المراوحة التي تحكم النص بين الذات/ الأشياء وتتجاذب فيما بينها حتى تتولد الحدوسات المبطنة في تجربة الشاعر:
ما الذي يخفق الآن خلف الزجاج
الثعالب أم شجر الساهرين؟
رحل الرمح في مرمر النار
كم زلزل الشوق أنهاره
وارتقى درجا باتجاه البروج
أو:
ما الذي يخفق الآن خلف الدخان
السراج المريض أم الزرقة المستقيمة؟
من سار في نومه مثل جدي ليرفع قبعته للقطا؟
الزلازل مطوية كالحديقة في سجدة الأرض واللون أعمق في شهقة العاشقين
في اطلالتنا الموجزة على مجموعة علي العامري نظن ان الشاعر استنفد طاقاته التعبيرية من خلال النص السابق، هذي حدوسي هذي يدي المبهمة، لقد أفرغ شحنات الذات تعبيريا بينما ظلت بقية النصوص الأخرى بمثابة تنويعات على النص السابق حيث تصب في نهره وتنسرب اليه دون ان نلمح هناك صلة وثيقة ناتجة عن علاقة بين النصوص أو ثيمة تتقافز النصوص من خلالها إلا أنها نصوص تؤسس وعيا جماليا في المشهد الشعري العربي الحديث.
|