Sunday 20th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 7 ربيع الاول


فضاءات الكتابة
(البارقة): نص إبداعي يهمي على الصحراء,, وينبىء عن دلالات ونهايات محكمة2-2
أحمد الدويحي

أحسب اني اواجه حرجاً, حينما الزم دربتي المزاجية بالكتابة، والخوض في فضاءات الاصدارات القصصية الحديثة، كرهان لي، وتلويحة حب وتواصل مع الآخرين,, اذ لا املك توصيفات جاهزة ولا نظريات، ذائقتي وحدها قياس، ومعرفتي تقبل على قراءة نص ما بشغف ولهفة، واجد عيني بين حروفه بفرح, وذاكرتي تركض (شف ذاكرتي تركض هذه,,!) في فضاءاته، ونص آخر تعافه نفسي وذائقتي,, وأؤجل قراءته الى اجل غير مسمى, وهذا امر هين.
ولحسن الحظ, فعندي قناعة مبيتة، ان لا ضير في ان تتداخل التجارب مع بعضها وتتلاقح في آن, وخصوصاً كتاب جنس القصة, وهذا موضوع ثانٍ.
سأبداً بقصة (أحلام,, يجرفها المطر) من مجموعة الزميل الاستاذ فالح العنزي (البارقة) التي تنبىء عن ملمح اصدار متميز لهذا الفنان, وحرفية في اختيار النهايات (!!) لحظة التنوير فيما يسمى القصة التقليدية,, ومحطات,, ومفاجآت لا تخلو من حدس وتوقع غاية في الاتقان.
هذه القصة التي نقف على قراءتها (مثلاً) كتبت قبل اكثر من اربعة عشر عاماً, اي انه انتظر وتأنى,,
ونلمح في النص ثنائية الصحراء والبحر,, والمراوحة في النص بين البطل وظله,, والمطر والعطش,, مع لهفة للاستزادة,, وانطلاقة في آفاق الكون وتدوين اسماء المعالم ويوميات البطل (الراوي) الدقيقة واحساسه المدهش تجاه الناس والأشياء.
والقاص منذ اللحظة الاولى، يخبرنا ان البطل الراوي فنان انتقل من جنيف من اضواء المعارض والفنون الى مدينة النور (باريس) والفن, التي كتبت القصة فيها, في اغسطس عام 1986م وقد بهرته: (كانت لوحة جميلة اراد ان يحضنها بعينيه, راودته فكرة رسم منظرها الجميل في لوحة فنية يضيفها الى اللوحات العديدة التي رسمها,,) ص 53.
وقد وطن النفس (فارس) ابن الصحراء ليتمتع بمطر باريس قبل ان يعود الى فنان ايرلندي (لماذا ايرلندي؟!) فقير, لم يجد في جيبه وجيب (ظله) احمد فلوساً (تسميته الثنائية) ليعطياها لطالب فنان فقير, يدرس الفنون الجميلة في جامعة باريس,, ويرسم لوحة الموناليزا الذائعة الصيت لليوناردو دافنتشي على رصيف.
كان (فناننا) وفارس قصتنا يشتري قمصاناً ملونة، اما الفنان الفقير فقد داهمته موجة برد نقل على اثرها الى مستشفى ليعود فارس(للرياض) دون زيارة متحف اللوفر ورؤية الموناليزا,,!!!
ويرسم ذات الفنان بريشة تحمل الكثير من الشفافية والحس, غاية في الحدس والالتقاط الواعي,, وقد عاد لعالم الصحراء والمطر,, وهلامية المكان مدينة لا نعرف منها غير قبو السيارات ومستشفى قال طبيبه لبطل قصتنا (خذ هاتين الحبتين تساعدانك على التخلص من الألم, ولكن كن حذراً اثناء القيادة لانهما تسببان النعاس,,) ص 63.
وتأتي دلالة واو العطف في قصة (,, وخلته قطاً) كضربة ريشة فنان بارعة وتعبير عن اسطورة في اذهان العامة من الناس عن القطط السوداء, والتشاؤم الذي يصيبهم لرؤيتها في الليل, او اثناء هياج العاصفة وهي حالات تنبىء عن الخوف والخطر.
في (العاصفة) التي هز هياجها المدينة تحسس البطل (الراوي) واقع هذا المخلوق العجيب الملتصق ظهره بجدار يحتمي به متأثراً من تأثير العاصفة,.
وقد اراد انقاذه لأن (في كل كبد رطبة أجر) اما ولانه اي القط (بسبعة ارواح) كما يقول المثل, والمعنى ان ما يراه قطاً قد يكون جنيا في هيئة قط ومظهره وبما توحي به الأسطورة, وقد كشر انيابه ونفش شعره الأسود واصبح عدوانياً في نهاية مبهمة,, ولحظة تنوير للقصة تأخذنا من الصحو الى الغياب.
وتمعن نصوص المجموعة في تهميش ملامح المدن او القرى,, او الصحراء,, فلا نتبين انتماء وميل وحنين الى مكان بذاته, قدر الموازنة بين التكثيف والحدث الذي يتطلبه تكنيك النص والاسترجاع,.
ويبدو شغف القاص بالتفاصيل الى الحد الذي يمكن فيه ان تستغني عن مقاطع بكاملها, قصة (العبير القاتل) فالفرق بين التكثيف والتوصيف الزائد كبير.
التكثيف للشعر والتوصيف للشرح والوضوح مع ما للقصة (اي قصة) من رموز ودلالات تصنيف من قيمتها كجنس ادبي ممتع اذا وظف التجريب فيها بما يخدم خطاب النص والابداع وتتجلى في نصوص فالح العنزي عدة عناصر منها:
- ثنائية البطل وظله.
- الاقتصاد في الحدث والاتكاء على التوصيف,.
- أحكام النهايات.
- احياء الاسطورة في وعيها الشعبي.
- عدمية ملامح المكان واتساعه بين البحر والمدينة والصحراء,.
وقصة (دموع أيوب) تمثل هذا النموذج، فايوب هذه المرة هندي في مدينة (ارض الأحلام) انحصرت خيبته فيما وعده به سماسرة التأشيرات في دكان مساحته لا تتعدى 4x2م=؟.
والصبر صفة ايوبية حميدة وارض الاحلام صارت مدينة التعاسة والاستلاب وقهر الحرية وتحمل الغربة والتأقلم مع هذه المساحة الصغيرة (أتفرس وجوه الطلبة الصغار,, باحثاً في وجوههم عن اشباه ابنائي الذين تفصلني عنهم آلاف الكيلومترات والبحار,, اما الآن فالطلبة في اجازة والحارة شبه خالية,,) ص 73.
وقد تروي (دموع ايوب) او لا تروي عطش الراوي,.
أما وقد أجلت لسبب لم اتبينه بعد (؟) قراءة نص (البارقة) الاسم الذي وسمت نصوص المجموعة به,, وسآتي على ذلك فيما بعد,, فلا بد من القول ان اختيار اسماء نصوص المجموعة,, واصباغ صفات (زكي - عارف - مالك - سعيد - حكيم - صالح - جميل - سند - احمد,,) لها دلالاتها, فاليأس لأحمد الظل وجهان لعملة واحدة (صور,, مشوهة) يعدل صورا مائلة تنكس ومنها صورته (بالطبع) على واجهة المبنى الزجاجية النظيفة اللامعة,, والله,, الله من (الموظف,, الحقودي,, يا فالح,,!!) طبعاً لم تسم البطل في هذه القصة من نصوص المجموعة (آخر نكتة) كبقية النصوص, فهل تدعوه (فالح؟!) مثلاً وانت (تشخص) البطل, بحد سكين في جسد الانتهازيين والوصوليين المتدثرين بلباس الجد والصرامة,, ومن يمتطي صهوة كرسيه الذي حصل عليه بسرعة صاروخية,, بالتملق والوشاية والتنازل عن القيم والأخلاق,, ثم يدعي صحة وكمال عمله,, وأزعم بأن تمثل نطاق النص, واطالة جسد القصة بالاسترجاع لصور اخرى من ضحايا النص, كسكرتيره الذي يؤنبه ويحمله المسؤولية والآخرين من مرؤوسيه الذين يطالبهم بعدم النقاش, وانجاز الكثير من العمل, وابتداع حدث, وخلق نهاية لكل شخصية, كنص مركب في مشاهد بشرط ان تثري وتخدم القصة وخطاب الابداع, وتزداد مساحة (التنكيت) والتنفيس والمتعة التي تقترب منها وتنشده القصة لكن فالح يأبى الا ان تكون القصة عنده (لوحة,, لم تكتمل) بضربة فرشاة حاذقة ومسرح مفتوح الستارة على كل الفضاءات حتى لو لم ترد,, واضاءة حالة الاحتشاد هذه ب (التنكيت) في آخر نصوص هذه المجموعة بالذات, انما هي مسرح للتفريغ عن بشاعة المسكوت عنه (القمع), وتعني في ذات اللحظة الخلاص والنهاية,, (!!) عندها تأتي (النكتة) في لحظة التنوير كحد سكين يجلي الغموض لهذا البطل,, الذي يمارس الفوقية في ابشع صورها ليشبع رغبات نفسه الشريرة والنرجسية و(النكتة) فن كاريكاتيري خطير,, يحسن استخدامه في الحروب وجماله انه يشخص بضربة ريشة بارعة من فنان, ويختصر بجملة (نهائية) مقتضبة كما في قصتنا قبل اغلاق ستارة المسرح حينما سيفاجئه رئيسه الجديد بكل جد وصرامة: (,,, بقاءك الى الآن موظفاً!) ص82, لتأتي (آخر نكتة),, تكشف دورة الايام وخبئتها,.
والآن الملم اوراقي وملاحظاتي الانطباعية بيقين تام, اني لن انطق اسم كاتب (البارقة) خطأ,, وقد فعلت دون وعي مني بشيء، في لقاء قريب لنا بنادي القصة,, ولم أعبأ بتلميحات (الأصدقاء) وتنبيهاتهم, وقد صار وجه مجموعة (البارقة) في يدي, وحوار جميل حول الرسومات التوضيحية الكثيرة التي صاحبت نصوص المجموعة بلغت اثنتي عشرة لوحة الى جانب اثني عشر نصاً,, واهداء.
تشكل المجموعة (82) صفحة حوتها من القطع الصغير صادرة عن مؤسسة الانتشار العربي في لندن وبيروت.
وتمثل مشوار القاص الأول بمنتهى الدقة والحساسية, القصة لمحة عين فنان لاقطة, ومضة برق,, حلم ممتد للهطول الممطر على الصحراء التي تبدلت وما تبدلت,, وسجلت ملاحظات في البدء عنها كقصة (ما هي,, الا فقاعات) بانها تنتمي الى مدارس القصة التاريخية والمدرسية والوعظية فيها قدر من البراءة والأحلام التي تحملها الى الثروة والمنصب والجاه وزينة الحياة الدنيا الفانية.
ولم يكن الاعتقاد ايضاً الا خاطئاً.
فالحياة حلم ممتد يشطح به خيال رجل (صالح): (نظر الى ساعته,, بقي عشر دقائق على صلاة المغرب, اخذ يبحث في مجموعة المفاتيح التي معه,, وضعه في ثقب الباب اداره,, دفع الباب ودلف الى الداخل,, وجد ابنته تلعب في فناء المنزل,,) ص 39,وعالم فالح العنزي القصصي يتوزع بتدرج في مستويات متباينة, نتناول هنا ملمحين يبرزان في ثنايا نص فالح الى جانب غيرهما:
- عالم الفنان.
- عالم الوظيفة,, والموظف.
وقد تطرقنا الى قصة (أحلام,, يجرفها المطر) والصورة عنده لوحة حتى تتبلور وتأخذ سياقها اللفظي,, ورسم لوحة لمدينة باريس, اجلت حتى نهاية القصة,, وظل الفعل مشروعا ناقصا مجرد صورة في خياله بدون حدث في ذهن الفنان,, وكذلك في قصة (لوحة,, لم تكتمل) تصب في هذا السياق الذي يشكل عالمه القصصي, وغني عن القول بأن المقصود الفنان التشكيلي (الرسام) كما يرد في هذا النص (يقضي سعيد اوقات فراغه في القراءة والرسم,, واحياناً زيارة بعض الأماكن العامة في نهاية الأسبوع,,) ص 23.
ونلحظ في أكثر من نص حينما يأتي الراوي شفافاً,, واصفاً لحالة النص من خارج الحدث,, لاحساسه بأنه كل ما اوغل في عمق (ألصورة) ونقطة التلاشي استشفينا حساسيته الفنية وتقنيته كما في قصة (العبير القاتل) لساق الورد الذي شق وجه التربة ليعانق الضوء الذي يمده بالاخضرار واليناعة,, ورائحة زكية تجذب كل من يمر بالقرب من منزله مما جعله يضع سياجاً شائكا حوله, ففالح يتقن (الهروب) والنهايات, ويمكن اعتبار قصة (آخر نكتة) ضمن هذا التصنيف بملمحيها (الفني/ الوظيفي) وقد تم تناول الملمح (الوظيفي) فيما سبق من قراءة ألسنا بحاجة لتكرار القول: انما للاستدلال وتقصي اجواء القص في نصوص المجموعة اذ نلمح في قصة (آخر نكتة) ايضا الملمح (الفني) باعتبار ان (النكتة) فن بالغ الحساسية تقتضي براعة الالتقاط وصياغة المعنى واجادة الالقاء, واشاعة المتعة او (الألم) احياناً في محيط اجوائها,.
ويكتمل هذا الملمح (العالم الوظيفي) عند القاص في قصة الموظف (مالك,, السراب) وسنحاول ابراز الملمح (الفني) لا التقني من الاشارة الاولى, في مفتتح النص ودلالته, الصفة التي يصبغها القاص على اسماء شخوصه ف (مالك) موظف له صديق (سعيد) ثنائية (الراوي) والظل يتبادلان هنا الصدق في النصح والبوح بمكنونات النفس ومتاعب الحياة (تدور في رأسه الكثير من الاسئلة التي لا يجد لها جواباً,, لازمته واستولت على تفكيره هواجس مزعجة فقد وظيفته,, نقله منها تقليص صلاحياته,,) ص11, ونتبعها بعدة اسئلة هذه الشريحة من النص,, حول طبيعة الاسئلة,, والهواجس,, التي استولت على تفكيره,,؟!,ونظل في مفتتح النص (مالك,,) انه مالك السراب,, والخوف والخطر الذي يهدد بفقد وظيفته,, وما الخ من اشكالات قضايا الموظفين وتتحلق الاسئلة من رحم الواقع, هل كل الموظفون تدور برؤوسهم الاسئلة والهواجس,, وهل هناك نسبة (رقم) يتهددها الخوف والخطر بفقد وظيفتها حتى شكلت ظاهرة تدرس (!!).
ويقيناً,, ان الجواب,, لا اذا (مالك,, السراب) نادر,, ويلبس الكاتب (النموذج) وشاح القلق, ومن يقرأ ليطرد الهواجس بالقراءة وليغير (الأنا) التي استعاض عنها القاص بضمير (الغائب الحاضر) مالك,, وتكون الوظيفة هي السراب,, والقلق والخوف من مأله,, ومنشأ أزمة, تخلق الهواجس في تفكيره ازمة (الأنا) في وعي (الفنانين والأدباء والمثقفين,,) الذين يحلقون في مواقع وظيفية خارج (سربهم,,) ويفسر مستوى القص دور (الضمائر) فنياً وتقنياً بالتبادل كما جاء في نص (البارقة) التي حملت اسم المجموعة, نص يعد ويهجس (امامه طاولة للرسم,, مجموعة من الألوان,, مزج بعضها والبعض الآخر ما زال في انابيبه) ص 23,, كاللوحة التي لم تكتمل,, والوعد,, حلم في وعي الجيل الثاني لسند وهم أبناؤه وكما في قصة (زبد البحر) تبادل قيادة السفينة بين البحارة والأم التي صدر امر صريح بازالة جزء من بيت تقيم فيه وحيدة,, بعثت برسائل الى ابنائها في امريكا,, (ما زالت تنتظر),, ومالك السوداوي,, ما زالت اصداء كلمات صديقه (سعيد) تدق في اذنيه (التغير,, التغير,, يجب,, يجب,,) وسند الرجل الطاعن في السن ذاته يعيش صراعاً مميتاً, (البارقة) حينما قال لأحد ابنائه رمز الجيل الحديث (لقد نسيت البوصلة في السيارة المتعطلة في الصحراء,,) ص 15.
وظل يستعيد ذاته في لحظة يأس, يحكي لابنائه الذين لا يريد ان يعرض حياتهم لهذه الظروف, كفاح ومرارة حياة الأجيال الماضية ليقوي عزائمهم,, وقد قاوموا خمسة عشر يوماً على ضياعهم في الصحراء حتى غشاه النوم (التعب,, النهاية المبكرة للقصة,, الغياب) لكن ظل الحكي القصصي الكلام نبراساً يضيء,, لجيل البوصلة,, صوت احد ابنائه (ابي عندما رأى البرق ليلة البارحة قال: ان مطر هذا البرق يحتاج الى مسيرة خمسة ايام,,) ص 36, (البارقة) ومثل هذا المستوى من خطاب الابداع فيه من الشفافية,, ربما تفسده المداخلة التفسيرية له, فحياة الشعوب تتراكم وتظل الحياة موصولة بتغير الأجيال,,
وتظل حياة الصحراء (البارقة) مستمرة بمن ظل حياً,,,!!.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved