مساحات بيضاء عاصمة الثقافة,, الاختيار والتحدي ريمة الخميس |
في ظني انني لو كنت من بين المحكمين في تلك المؤسسة الدولية الكبرى، الذين أدلوا بأصواتهم لصالح اختيار مدينة الرياض عاصمة للثقافة عام 2000م، لكنت ضمن من يتصدر حماسهم، ولدي لهذا الحماس ثلاثة اسباب وحدها تكفي لسلامة الاختيار وجدارته:
أولها: ان العالم بعد ان أنهكته الصراعات وسباق الفناء على مدى ألفي سنة، قد تعلم مع مطلع الألفية الثالثة ان مصالحه الحقيقية في ادخار طاقاته وقواه الفكرية والعلمية لكل ما يكرس لخيره وخير الآخرين، وان الاشارة الحقيقية الى مدى قوته وعظمته لا تكمن في امتلاك أدوات السيطرة وفرض النفوذ، وانما في مدى ما يتصف به الوجود الانساني من انسانية ورحمة تليق بشرفه,, ألفا عام جربت فيهما شعوب الأرض سباقات الهجرة والاحتلال والاستقرار، وسباقات التسلح واستعراض القوى، وسباقات حروب النار وحروب الاقتصاد والسياسة، وسباقات الدعاية والاعلان، في اندفاعات محمومة من مثل هوج الشباب، ومع مطلع ألفية ثالثة وجدت ان الوقت قد حان كي تستريح وتتعقل، وان تلتم على الخير والوئام والتسامح، الكل والمجموع مكان الواحد والمفرد، وقطع العالم خطوات تمهيدية الى هذا التوجه عبر الانخراط في نظام عالمي جديد على صعيد السياسة، وتكتلات اقتصادية وأسواق مشتركة واتفاقيات عالمية على صعيد التجارة والمال، وعولمة فضائية على صعيد الفكر والثقافة.
هذا معناه في صفة واحدة نطلقها على الألفية الثالثة، انها ألفية السلام ، ومن ثم فالثقافة كواجهة للمعطى الانساني هي ثقافة السلام والمملكة بوضعيتها ومكانتها الاسلامية، وتوجهاتها الى السلام، فاتحة مناسبة لاستهلال ألفية السلام، كعاصمة ثقافية.
وثانيها: ان المملكة في وعيها بقضية الثقافة قد حددت لنفسها موقفا متوازنا فلم تنظر الى الثقافة باعتبارها ترف النخبة وتسامقها فحسب، ولا باعتبارها التعبير العفوي لكل ما اكتسبه الانسان السعودي على امتداد تاريخ ومن منجزات عصر، فيما يعبر عن نفسه في الوعي العام والسلوك فحسب، ولكنها رأت ان الثقافة هي المعطى الاجمالي لما تنتجه الذهنية النخبوية وما يعبر به الوجدان الفطري معا، وعملت على اشباع الجانبين، وتهيئة الفرصة والأداة لهما قدر المستطاع، ومن ثم تكاملت في المملكة الثقافة الشعبية وثقافة الصفوة في زخم واحد، شعبيا يعرف الناس جميعا تاريخهم السياسي والاقتصادي، وكيف تأسست دولتهم، وتراثهم الشعبي، من الفنون الشعبية والقصص والحكايا والألعاب والأزياء والأدوات والمساكن وأشكال العلاقات الاجتماعية القديمة في العادات والتقاليد، بما يحقق لهذا البعد السسيولوجي للثقافة مداه,, وعلى صعيد الثقافة كنتاج للصفوة من المفكرين والمبدعين في أعلى أبراج الخصوصية، قد تميز هذا النتاج بحرص شديد على مواكبة زمنية لحركة الفكر الانساني العالمية، بغض النظر عن كل ما يمكن ان نوجهه اليها من اتهامات في العجلة والتلخيص، والتعريف دون الابتكار والابداع,, فما ان يخطو ذلك الفكر العالمي خطوات ليقدم منجزا جديدا حتى يرتد الينا في ذات الوقت صدى لوقع تلك الخطوات عبر ترجمات أو دراسات ومقالات، وربما في هذا تميزت الساحة الثقافية السعودية عن غيرها في كثير من الدول، فاذا كنا لا نستطيع ان نغض الطرف عن غوغائية هذه الملاحقة العصرية، فما من شك في أنها في عموميتها تمثل زخما هاما يوما ما سيتولد عنه شيء أصيل، وانتباهنا الى ذلك واحد من الأدلة، لتبقى الحقيقة في ان الثقافة في مستواها الخاص في المملكة قد تميزت ايضا بمعاصرة ربما لم تتحقق لغيرها حتى الآن.
وثالثها: ان المرأة السعودية التي تشارك في انتاج الثقافة، برغم حداثة تجربتها في الكتابة، بل في التعليم أساسا، وبرغم كل ما يمكن ان يوجه اليها أو ينال من نتاجها، قد اصبحت مؤخرا تملك صوتا جهورا، واستطاعت - قلة منهن على الأقل - ان تؤكد وجودها عبر جدية في الطرح كتابة، ووعيا في التعبير ابداعا، ورؤية مميزة في التشكيل, لست أعمد الى مبالغة تتغاضى عن كل ما يمكن ان نراه حين نخضع نتاجها للتقييم، وانما اتمثل الآن ما حققته المرأة في تجارب بلاد وجدت فيها تلك المرأة فرصتها منذ تاريخ طويل وأجد المقارنة لصالح المرأة السعودية ولو من زاوية المعدلات الزمنية وحدها، وطبيعي ان هذا الاعتبار الثالث، أو السبب الثالث، لا يأتي من زاوية الالتفات الى ممايزة بين ثقافة نسائية وأخرى رجالية، وانما من زاوية ثقافة انسانية واحدة، يسهم فيها الانسان رجالا ونساءً.
اختيار الرياض عاصمة لثقافة السلام عام 2000م مع استهلال البشرية ألفيتها الثالثة، حدث بهذه الأهمية سيسجل في التاريخ، والأسباب الثلاثة التي ذكرت هي طرف من وجهة النظر الخارجية الى المملكة ومكانتها الانسانية والثقافية على نحو ما تصورت، اختيار يبدو في مكانة الجائزة المميزة على منجز تم، فكيف ننظر نحن إلى هذا التقدير؟ هل نجيب بكلمة شكرا وانتهى الأمر، أم نحرص على التأكيد؟ اننا جديرون بالاستهلال للألفية والاستمرار على مداها عاصمة ثقافية؟, في اختيارنا الثاني ينبغي أمام هذا التحدي ان نحشد كل طاقات الفكر والابداع، من شيوخ مفكرينا وأعلامهم ومن شباب مبدعين رجالا ونساءً، جميعهم يخططون لتفعيل كل دقائق مجريات الحياة العادية على مدى عام لكي تكون فعلا ثقافيا، وأن نكرس الأدوات والأجهزة، الثقافية والاعلامية والعادية،لكي تكون جميعها مؤسسات ثقافية على مدى عام، وان نخصص المال لهذا العام بكل ما نستطيع واثقين انه استثمار يبقى عائده ألف عام قادمة,.
وفي اختيارنا الأول ما علينا إلا ان نترك لموظفي العلاقات العامة كتابة الردود!.
بقي أمامنا ستة أشهر، مدة لا تكفي لشيء، وحتى الآن يبدو اننا غير راغبين إلا في توجيه كلمة الشكر!.
|
|
|