Sunday 20th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 7 ربيع الاول


بعد الانتصار لهم
المهجرون من كوسوفا أسعد حظاً من اللاجئين الفلسطينيين
د, وحيد عبدالمجيد

ليس هناك اكثر صدقا من الصورة تعبيرا عن الحزن والاسى او عن الفرح والسرور، ومع ذلك لم يصدق بعضنا من العرب والمسلمين الصور التي عبرت عن فداحة حرب الابادة التي تعرض لها اخواننا في كوسوفا على ايدي كائنات متوحشة لا صلة لهم بالانسانية.
ولكن هل يواصل هؤلاء انكارهم الواقع بسبب شدة معاداتهم للغرب، والتي جعلتهم عاجزين عن التضامن مع اخوة لهم في الدين,؟
وهل يجوز ان تكون كراهية امريكا أياً كانت مبرراتها مقدمة على نصرة المسلمين في مأساة لا سابقة لأهوالها منذ الحرب العالمية الثانية.
هل رأى هؤلاء كيف تبدل حال اهل كوسوفا اللاجئين من الاسى الى الفرح، ومن اليأس الى التفاؤل، عندما دخلت طلائع القوات الدولية الى اقليمهم المنكوب وهل ما زال اصدقاؤنا الذين ادانوا عملية حلف الاطلنطي مصرين على انها (اعتداء على سيادة دولة مستقلة)، او (بروفة للهيمنة على العالم)، بعد ان رأوا اخوتنا البؤساء اللاجئين في مقدونيا يعبرون عن فرحتهم وعرفت البسمة طريقا اليهم للمرة الاولى منذ شهور طويلة,؟
لقد تعلمنا من ديننا وجرت تقاليدنا الاصيلة على ان الاقرار بالحق فضيلة، وان الاعتراف بالخطأ هو خير من التمادي فيه.
وها هي عملية حلف الاطلنطي التي اشبعها بعضنا ادانة وشجبا تنتهي بنصرة المستضعفين وهزيمة المعتدين المتوحشين ورضوخهم وانسحابهم من الاقليم المنكوب، وما اشبه الليلة بالبارحة.
لقد كرر سلوبودان ميلوسيفيتش ما فعله صدام حسين عقب هزيمته في العام 1991م حين اعلن يوم هزيمته واستسلامه انه انتصر في أم المعارك ! الفرق الوحيد هو ان الطاغية الصربي لم يستخدم ذلك التعبير الفج الذي صكه الطاغية العراقي، وفيما عدا ذلك، لا فرق حتى في الملامح القاسية التي توحي بأنك امام وحش ينتمي الى عصور سحيقة.
ولكن مما يؤسف له ان بعضنا وقف مع سفاح بلجراد مثلما انحاز الى سفاح بغداد، لمجرد ان في الطرف الآخر قوى غربية اعتاد فريق منا ان يضفي عليها كل صفات الشياطين، ويهدر هؤلاء في عدائهم المطلق للغرب، كل القواعد التي وصل اليها العقل في شأن ادارة الصراع وتسيير العلاقات في ظل تناقضات في المصالح والاهداف، ويتبعون اساليب بدائية من نوع (عدو عدو صديقي) حتى اذا كان العدو الذي تصادقه لهذا السبب اكثر خطرا عليك.
كما انهم يخالفون القواعد الشرعية التي امرنا الله بها وما تنطوي عليه من ضوابط في الخصومة وفي ردود الافعال عموما حتى في حال التعرض لبغي او اعتداء (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى).
فليتأمل العرب والمسلمون الذين ادانوا عملية حلف الاطلنطي ما صار عليه الوضع الآن، لقد جزموا بأن هذه العملية تهدف الى اثبات هيمنة امريكا وفرض شرعية الاطلنطي، وانها - لذلك - ليست معنية حقا بانقاذ أهل كوسوفا، بل وقيل ان اثرها عليهم اسوأ من قمع قوات ميلوسيفيتش.
ولو صح ان العملية تستهدف الهيمنة وانهاء دور الامم المتحدة لمصلحة حلف الاطلنطي، لما حرص مطلقوها على ان يكون الاتفاق السلمي عبر المنظمة الدولية ومن خلال مجلس الامن, ويعرف اي خبير عسكري حديث العهد او قليل الخبرة ان في امكان واشنطن مواصلة العملية لفترة قصيرة اخرى وانزال القوات المكلفة بحماية اقليم كوسوفا من دون المرور على الامم المتحدة.
غير انه لا مصلحة لامريكا في اضعاف المنظمة الدولية او انهاء دورها لسبب بسيط يسهل ان نعرفه اذا تحررنا من عقلية المؤامرة، وهو ان الولايات المتحدة لا تستطيع ان تحمل المسؤولية عن حل النزاعات الدولية والاقليمية جميعها، ولا ترغب في ذلك فالسياسة الامريكية تقوم على التدخل الانتقائي، لا التدخل المنتظم الذي لا تمتلك امكاناته، ولا تتوافر لها مصالح تحث عليه في كل مكان في العالم.
لقد كان أحد انتقادات زملائنا الرافضين لعملية الاطلنطي ان الحلف لم يتدخل في ازمات اخرى لا يقل بعضها فداحة، مثل مذابح رواندا,, وهذا انتقاد وافقناهم عليه ولكن رأينا فيه تناقضا في موقفهم فهم يحذرون من ان امريكا تفرض هيمنتها وتتدخل في كل مكان، فيما ينتقدونها لان تدخلها انتقائي.
ونحن ننسى احيانا ان هناك تيارا انعزاليا تقليديا داخل الولايات المتحدة ظل يبعدها عن العالم في الحرب العالمية الثانية، ورغم تراجع هذا التيار، فهو يتصاعد من وقت الى آخر ويضع حدودا لما يمكن ان يصل اليه التدخل الامريكي خارج الحدود.
ولذلك لا تستطيع اي ادارة امريكية، لهذا السبب ولاسباب داخلية عدة ليس هنا موضعها، ان تعتمد سياسة تدخل منتظم في النزاعات الدولية والاقليمية جميعها، وليس في امكان اي رئيس امريكي ان يعتمد اكثر من سياسة تدخل انتقائي في النزاعات الاكثر ارتباطا بمصالح الولايات المتحدة.
ومن هنا، تحديدا,, لا تجد واشنطن مصلحة لها في تقويض او حتى تهميش دور الامم المتحدة على النحو الذي تصوره بعضنا ودفعهم او ساهم في دفعهم اكثر، الى ادانة عملية استهدفت انقاذ اخوة لهم صرخوا طلبا للنجدة ، فلم يجبهم غير الامريكيين والاوروبيين.
وقيل ان هؤلاء الغربيين المستكبرين الاستعماريين لا يمكن ان تكون قلوبهم رحيمة إلى الحد الذي يهرعون لنجدة مسلمين, وفات القائلين ان انقاذ اهل كوسوفا هو جزء لا يتجزأ من مصالح امريكا وحلف الاطلنطي,, لماذا؟ لأن نجاح خطة ميلوسيفيتش في إبادة وتهجير اهل كوسوفا كفيل بتشجيعه على اثارة ازمات اخرى في جمهورية الجبل الاسود وفي مقدونيا، بل واعادة فتح ملف البوسنة والهرسك، طالما انه لا يوجد رادع حقيقي.
ويعني ذلك ببساطة تقويض الاستقرار في اوروبا، اي في المنطقة الاهم على الاطلاق بالنسبة للمصالح الامريكية فأكثر من نصف صادرات الولايات المتحدة يذهب الى اوروبا، كما ان اكثر من نصف الاستثمارات الاجنبية في داخل الولايات المتحدة يأتي من القارة البيضاء.
وكان واضحا ان الولايات المتحدة تسامحت مع ميلوسيفيتش بأكثر مما ينبغي, وحتى عندما وجهت ضربات ضد يوغسلافيا ابان ازمة البوسنة، كانت صغيرة ومحدودة.
وادى ذلك الى استخلاصه الرسالة الخطأ، وهي أنه يستطيع ان يمضي قدما في خططه الاقليمية بأقل الخسائر، وكان لزاما، والحال هكذا، تلقينه درسا رادعا حقا.
ولم يكن ممكنا ان يتحقق هدف مثل هذا حتى اذا تم اضعاف قدراته العسكرية والاتصالية، فالطغاة يستوعبون الضربات، ويعملون على اعادة بناء ما تهدم باستغلال الحماسة الوطنية التي تطلقها الحرب، ثم يواصلون خططهم الاصلية.
ولذلك كان وضع حد لخطر ميلوسيفيتش على المصالح الغربية يقتضي، قبل كل شيء فرض الاستسلام عليه واعادة اللاجئين المهجرين لاثبات انه لا يستطيع فرض ارادته, وعلى هذا النحو كان ارغامه على الانسحاب من كوسوفا شرطا ضروريا لازما لتحقيق الهدف من العملية, وهذا يفسر رفض واشنطن ما سعت اليه موسكو من وقف القصف الجوي اولا قبل سحب ميلوسيفيتش قواته من كوسوفا فقد اصرت الولايات المتحدة على ان يبدأ الانسحاب اولا كي لا يوقف القصف الذي استمر 79 يوما.
ورغم ذلك كله، ما زال بعضنا عازفا عن الاقرار بالحق وآخر ما في جعبتهم هو التشكيك في اعادة اللاجئين المهجرين, ولا اعرف هل يقولون ذلك اقتناعا بالفعل ام تمويها من اجل عدم الاقرار بأن موقفهم ضد عملية حلف الاطلنطي لم يكن صائبا.
فإلى جانب ان ردع ميلوسيفيتش لا يكتمل من دون اعادة المهجرين، فإن بقاءهم حيث هم الآن ينطوي على تكلفة فادحة واخطار هائلة على الاستقرار في منطقة البلقان,, يوجد معظم هؤلاء المهجرين في الجبل الاسود ومقدونيا وألبانيا, ويعرف قادة الاطلنطي ان وجود نحو 225 ألف مهجر في مقدونيا يحمل خطر تأجيج نزاع عرقي فيها, فالوضع هناك ينطوي على صراع كامن، اذ يمثل السلافيون 75 في المائة والالبان 25 في المائة من السكان, كما أن ألبان مقدونيا يتركزون اساسا في الغرب، اي على الحدود مع كوسوفا وألبانيا, ويشكل اللاجئون الآن اكثر من 10 في المائة من السكان، وزادوا عدد الاقلية الالبانية بنسبة 50 في المائة.
صحيح ان حكومات مقدونيا تنتهج منذ الاستقلال سياسة رشيدة لاستيعاب المشكلة عبر تحسين اوضاع الألبان وزيادة تمثيلهم في مؤسسات الدولة, غير ان رجل الشارع السلافي هناك ينظر الى الالبان كطابور خامس يسعى الى بناء ألبانيا الكبرى, كما ان الالبان يعتقدون بدورهم في وجود مؤامرة سلافية للقضاء على ثقافتهم، ويكن الشباب منهم احتراما شديدا لجيش تحرير كوسوفا, ومن الطبيعي ان تكون مأساة كوسوفا وعملية حلف الاطلنطي قد أدتا الى تدعيم الشكوك المتبادلة بين عنصرين مقدونيا، وخاصة مع وفود مهجرين من كوسوفا.
فإذا بقي هؤلاء المهجرون او معظمهم هناك، لن يكون سهلا منع انفجار ازمة تشعل منطقة البلقان مجددا، وفي البلد الذي يعتبر المحور الاستراتيجي الاهم في جنوب شرق اوروبا من منظور الجغرافيا السياسية، فكان الزعيم الالماني المشهور بسمارك يقول إن من يسيطر على وادي نهر فاردار في مقدونيا تدين له السيادة على البلقان.
كما ان جمهورية الجبل الاسود، وهي الوحيدة التي بقيت مع صربيا في الاتحاد اليوغسلافي، لا تتحمل بقاء لاجئين من كوسوفا فيها لأن وجودهم ليس آمنا، فضلا عن انه يضعف رئيس الجمهورية ميلوجوكانوفيل الذي يدعم الغرب بينما يسعى ميلوسيفيتش الى اقالته.
وحتى ألبانيا نفسها لا تتحمل وجود المهجرين، لأنها غير قادرة على الوفاء باحتياجات سكانها اصلا، فهي الدولة الافقر في اوروبا، وتحكمها الآن حكومة ضعيفة، وفي ظروف كهذه يسهل ان يقفز الى السلطة مغامرون يفجرون حربا اقليمية مازال ميلوسيفيتش يتمنى نشوبها.
والمحصلة هي ان عدم اعادة المهجرين يساوي مضاعفة مخاطر عدم الاستقرار, وهي المخاطر التي سعت عملية الاطلنطي الى وضع حد لها, وهنا تحديدا يقترن الهدف الانساني - الذي رأه وادركه اصحاب البصيرة من العرب والمسلمين مبكرا - بالهدف الاستراتيجي الذي يتعلق بالسعي الى تجنب انفجار واسع في منطقة البلقان قد يفجر اوروبا اذا تدخلت اليونان وجرت وراءها تركيا وانساقت بلغاريا,, وهكذا,.
ولا يعني ذلك ان اعادة المهجرين ستكون سهلة او يسيرة فمن الطبيعي ان يسعى ميلوسيفيتش المهزوم الى تقليص نطاق هزيمته عبر عرقلة اعادة قسم منهم بعد ان دفع ثمنا باهظا في مقابل طردهم من ديارهم, والارجح ان عملية اعادتهم التي تقتضي جهودا كبرى، ستتخللها أزمات مع السلطات الصربية، وليس مستبعدا ان يستأنف حلف الاطلنطي القصف لممارسة مزيد من الضغط في هذا المجال، ولذلك احتفظ لنفسه بهذا الخيار عندما اعلن وقف الضربات، في التزام واضح تجاه المهجرين.
ومع ذلك لا ننسى ان عملية الاطلنطي اضعفت نظام ميلوسيفيتش وقواته، وان اعادة التماسك الداخلي يحتاج الى وقت لا يقل عن عام في حده الادنى, وتستطيع قوة حفظ السلام التي دخلت كوسوفا استثمار هذه الفترة وتسريح عملية عودة المهجرين خلالها، بالتوازي مع اعادة اعمار ما هدمه المتوحشون الذين اعتمدوا سياسة الارض المحروقة عندما ادركوا ان بقاءهم في الاقليم مستحيل.
لقد تغير العالم تغيرا كبيرا في فترة نصف القرن التي تفصل بين مأساتي لاجئي فلسطين وكوسوفا، وهو تغير جعل لاجئي كوسوفا اسعد حظا في النهاية، رغم ان ما تعرضوا له كان اكثر قسوة مما واجهه اللاجئون الفلسطينيون.
والآن إذا كنا نحن العرب والمسلمين اكتفينا بمتابعة الازمة، وانهمكنا في المجادلة حولها، ولم نقدم اكثر من معونات انسانية مثلنا مثل غيرنا، فقد آن الأوان للمساهمة الجادة في دعم الحماية الدولية لاقليم كوسوفا واعادة بنائه.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved