* عن الكاتب:
ولد (سدرمان) في بروسيا الشرقية 1857م وتلقى تعليمه في جامعتي (كونيجسبرج) و(برلين)، وكان أحد أهم رموز الحركة المسرحية في التسعينيات رغم أنه اليوم يعتبر من رواد الجيل الماضي على أن قصصه حول الحياة في بروسيا الشرقية وليتوانيا - وكذا رواياته - قد كتبت في مجملها بدفق الخيال الرائع الخلاق ولا تزال تُقرأ في ألمانيا وخارجها.
***
* القصة: لا يفتأ ثغر الكون الهائل يفتر عن ابتسامات وأحداث نسجتها يد الواقع، على أنها قد تشطّ في الخيال كثيراً حتى ليخالها المتلقي أضغاث أحلام! أتريدون مثالا؟ حسنا إليكم حوارا سمعته يوم أمس الأول عشية رأس السنة، وكان يدور بين شيخين,, شيخين هرمين في حقيقة الأمر فأما الكيفية التي سمعت بها ذاك الحوار فسر احتفظ به لنفسي وأرجو أن تقفوا عند هذا الحد فحسب، هل أبدأ إذا؟ حسنا,, ارسموا في خيالكم صورة تؤطر قصتي لغرفة عالية السقف,, قديمة الأثاث يتدلى من أعلاها مصباح أخضر عتيق كذاك الذي يستعمله أهلونا قبل انبثاق عصر البترول، فأما المخروط الضوئي المنسكب من الوهج فيصب على طاولة مستديرة يغطيها مفرش أبيض تناثرت عليه مستلزمات الاحتفاء بالمناسبة فيما بدت عدة قطرات من الزيت جلية على صفحة القماش.
وحول الطاولة جلس الشيخان في منتصف دائرة الضوء تقريبا,, وكأطلال بالية لاحا للناظر لطول ما تعاقبت عليهما الأيام,, ظهرين محنيين وأطراف أرعشها الهرم، ونواظر أطفأ فيها اختلاف الليل والنهار كثيرا من التوهج والألق!.
وكان أحدهما - وهو المضيف - ضابطا قديما تعكس ذلك الطريقة التي لف بها بعناية ربطة عنقه، وشاربه المدبب الحاد الانحناءة وحاجباه العسكريان الكثيفان,
كان يجلس وقد اطبقت كفاه على مقبض كرسيه الدوار كعكاز، لاشيء يتحرك فيه البتة سوى فكيه إذ كان يأكل بصمت فأما شيخنا الآخر فقد كان طويلا كرمح,, وتوج منكبيه الضيقين رأس مبدع مفكر,, ونغمات من دخان غليون يوشك على الانطفاء.
ومن بين آلاف من التجاعيد التي غزت وجهه الناعم الحليق والذي أحاط به إكليل من خصلات قطنية ملتفة,, تسللت ابتسامة هادئة لطيفة، ابتسامة لا يمكن أن تندّ عن غير ذلك الإحساس السحري الذي تبعثه الطمأنينة والهدوء والتسليم بحكم الله في القدر وبلوغ أوج العمر.
كانا صامتين,, وعبر السكون المطبق مازج الصوت الرقيق المنبعث من الزيت المحترق، ذلك الناجم عن احتراق التبغ، وفجأة,, ومن قلب الظلمة القابعة في خلفية الغرفة آذن صوت الساعة المعلقة الأجش بحلول الحادية عشرة.
- تلك هي الساعة التي اعتادت أن تعد لنا فيها العصير: قال الرجل ذو الجبين المقوس,, صوته كان هادئا إلا من رعشة طفيفة.
أجل ذاك هو الوقت - قال الآخر بنبرة عسكرية صارمة.
- لم أكن أعلم أنها ستترك كل هذا الفراغ! قال المتحدث الأول ثانية وهز المضيف رأسه وفكاه يختلجان نوعاً.
- لقد دأبت على إعداد عصير ليلة رأس السنة لأربع وأربعين سنة خلت.
- أجل بعمر مجيئنا إلى (برلين) ومعرفتنا بك - قال الجندي القديم.
في مثل هذا الوقت من السنة الماضية كانت السعادة ترفرف فوقنا بأجنحة من ألفة وحبور, قال الآخر وتابع فيما يشبه النجوى:
كانت تجلس على ذلك الكرسي,, تحيك جوارب للابن الأكبر لبول وكانت تعمل بجد قائلة بأن عليها الانتهاء منها بحلول الساعة الثانية عشرة وقد انتهت من الحياكة آنذاك فعلا,, بعدها تناولنا العصير ثم تحدثنا بهدوء عن هادم اللذات ومفرق الجماعات وبعد شهرين حملت إلى مثواها الأخير,, لقد كتبت - كما تعلم - مؤلفا كبيرا عن أبدية الفكرة على أنك لم تعر ذلك أدنى اهتمام كما أني شخصيا لا آبه به الآن بعد أن انتقلت زوجتك إلى الدار الأخرى,, لم أعد ألقي بالا إلى فكرة الكون بمجمله الآن فلا شيء بعد رحيلها يهم!
- أجل كانت زوجة خيرة - قال زوج المتوفاة - لقد أحسنت العناية بي,, رعتني خير رعاية وعندما كنت أصحو لعملي في الصباح الباكر كانت تستقيظ قبلي لتعد لي قهوة الصباح,, صحيح أن بها بعض العيوب كاستغراقها معك أحيانا في قضايا فلسفية,,آه.
- لم يتسن لك أبدا أن تفهمها - تمتم الآخر وامتعاض عفوي يرجف شفتيه على أن النظرة الطويلة التي طبعها على محيا صديقه كانت رقيقة حزينة كما لو أن شعورا خفيا بالذنب كان يقرض ذوءابات روحه.
بعد وهلة صمت عاد ليقول:
- (فرانز) ثمة ما أريد الإفصاح عنه,, شيء أرقني كثيراً,, ولست أود أن يدفن معي!
- إلي به في الحال! قال المضيف رافعا غليونه الطويل المسجي بجوار مقعده!
- كان هناك مرة,, شيئا بيني وبين زوجتك!
وترك المضيف غليونه يسقط ثانية قبل أن يحدق في زميله بعينين ملؤها الدهشة.
- لا وقت للمزاح واستحداث الطُّرَف إن سمحت يا دكتور.
- إنها الحقيقة المرة يا (فرانز)! لقد طويت أضلعي على تلكم المسألة لما ينيف عن الأربعين سنة على أن أوان المصارحة قد آن الآن!
- أتعني أن تلك المرأة الميتة لم تكن وفية لي؟ صرخ الزوج في غضب جارف!
- أما تخجل أن تقول مثل ذلك يا (فرانز)؟ رد صديقه بابتسامة رقيقة حزينة وتمتم الجندي السابق ببضع كلمات ثم أشعل غليونه.
- أبداً كانت أطهر من الطهر - تابع الآخر - إنما المذنب أنا وأنت - استمع لما سأقول,, كان ذلك منذ ثلاث وأربعين سنة,, وقد استدعيتَ إلى برلين للعمل نقيبا فيما كنتُ مدرسا في الجامعة,, وكنت أنت يومها طائرا غريدا عابثا تحط على كل فنن!
- هم م م م - تنحنح رب البيت رافعا يداً مرتعشة إلى شاربه - وكانت هناك تلك الفنانة الجميلة ذات الشعر الليلكي والأسنان البيضاء الصغيرة,, أتذكر يافرانز ؟
- أأذكرها؟! بالطبع,, وكان اسمها (بيانكا) رد الآخر فيما لاح على وجهه شبح ابتسامة باهتة واهنة - تلك الأسنان الصغيرة كانت قادرة على العض أؤكد لك!
- لقد خدعتَ زوجتك,, وكانت تشك فيك لكنها ما نبست ببنت شفة بل ظلت تعاني في صمت وتعاني,, وكان المرأة الأولى في حياتي بعد وفاة أمي,, أضاءت سماء أيامي كنجم ساطع شع فبدد دياجير الظلمات,, ورحت أرنو إليها في انبهار ثم واتتني الشجاعة يوما فتمكنت من سؤالها عما يكدر صفوها فأكدت لي أن الأمر لا يعدو كونه عدم إبلالها تماما - وكانت قد أنجبت لتوها ابنكما الأكبر (بول),, ثم كانت ليلة رأس السنة,, منذ ثلاث وأربعين سنة,, جئت في الثامنة كالعادة,, وجلست هي تحيك شيئا فيما ظللت أقرأ عليها بعض الأخبار في انتظار مقدمك,, ومرت الساعة تلو الأخرى دون أن تحضر,, ولاحت مني نظرة إليها فرأيت كربها يزداد ويزداد حتى طفقت ترتجف من فرط الانفعال لابد للمخزون من فيضان يافرانز كنت أعلم مقرك وخشيت أن تنسى المناسبة وأنت في غيك سادر وأسقطت زوجتك ما كان بيدها فيما توقفت أنا عن القراءة ولفنا صمت رهيب ثم لمحت دمعة كبيرة تنحدر من عينها فتسقط على ما كانت تحيكه ولم استطع صبرا فنهضت للبحث عنك وشعرت بقوة تخولني انتزاعك من مكمنك الدنيء,, على أنها نهضت في الوقت ذاته,, هبت واقفة من مكانها الذي تجلس الآن فيه تماما.
- أين تذهب؟ صرخت في رعب احتل ملامحها طرا.
- لأحضر (فرانز) صارحتها:
- كلا ابق معي أرجوك لا تتركني أنت أيضا!
وهرعت صوبي فوضعت يديها على كتفيّ قبل أن تدفن وجهها المغمّور بالدموع في منكبي,, واهتزت فيّ كل جارحة إذ اني ما اقتربت من امرأة إلى هذا الحد قبلا على أني تمكنت من السيطرة على نفسي فواسيتها,, وجئت أنت بعد ذلك بقليل فلم تلحظ ما خامر أحاسيسي وعواطفي,, خداك كانا يلمعان بنشوة السعادة أما عيناك فقد أثقلتهما سلافة الغرام والوجد المحرم الممجوج,, ورغم انجذابي إلى زوجتك فإني ما بعت ضميري وصداقتي، بل إني اتجهت إلى من صرفتك عنها فدفعت لها مبلغا كافيا لإبعادها عنك.
- أنت هو إذاً,, أيها الشرير! - تمت الجندي السابق في دهشة - فقد كنت إذ السبب في ارسالها ذلك الخطاب الوداعي لي والذي صارحتني (بيانكا) بين سطوره بأنها ستتركني وقلبها يتفطر ألما لفراقي.
- أجل,, كنت أنا سبب ذلك - قال صديقه - لكن استمع إلي هناك المزيد,, أصارحك بأني ما دفعت المال (لبيانكا) إلا لأبتاع السلام والطمأنينة لروحي حينما تعود لزوجتك على أن ذلك السلام ما زارني قط! ظلت الأفكار المحمومة تراودني ليل نهار,, ودخلت في صراع مع نفسي,, أمضني الوجد وبرح بي الغرام على أني شغلت ذاتي نوعا حين دفنتها في عمل شاق,, متواصل,, ذاك كان بداية تأليفي كتاب (أبدية الفكرة),, ورغم ذلك فما عرفت دخيلتي للاستقرار مقاما,, ومرت الأيام,, فإذا رأس السنة يؤذن بحلول,, التقينا تارة أخرى أنا,, وهي,, وكنت موجودا آنذاك,, لكنك كنت نائما على أريكة في غرفة أخرى بعد إذ أرهقك حفل صاخب ولمحت وجهها الشاحب حين جلست بالقرب منها فغزتني الذكريات فجأة بضراوة، واسترجعت في خيالي تلك الليلة حين أمضتها الأحزان والمواجع فدفنت في منكبي وجههاالبرىء خلت أن ذلك سيحدث ثانية ف ,,,, وليكن ما يكون,, والتقت خلسة أعيننا فقرأت في ناظريها تفهماً دفيناً,, لمحت إجابة بارقة شعت بعفوية,, منهما,, ولم أتمالك نفسي فدفنت رأسي في يديها!
مكثت على وضعي ذاك,, دون حراك ثم أحسست فجأة بكفها تربت على رأسي برقة فيما ترقرق صوتها العذب الهامس الحنون فكأنما كان أهزوجة نشوى، قطرات من غيث داعبت شفاه حبات الرمل العطشى في صحراء الوجد الضاربة في كياني فراسخ لا تعدُّ أو تحدُّ,, قالت في هدوء:
- كن شجاعا,, تمالك نفسك,, أجل,, تجلد عزيزي حتى لا تسيء إلى صديقك الوفي,, ذاك النائم في الغرفة الأخرى في طمأنينة وثقة فيمن استأمنه على بيته وأهله.
ونهضتُ كالملدوغ فاستقمت واقفا,, وحدقت فيما حولي بدهشة أما هي فتناولت كتابا دفعت به إلي,, وفهمت,, فتحته فشرعت أقرأ جهرا,, ولم أكن أدرك لما أقرأ صيغة أو معنى,, وظلت الكلمات تتراقص أمام عيني على أن العاصفة التي اجتاحت كالطوفان كياني شرعت تهدأ رويدا رويدا حتى اختفت في غياهب اللاشيء,, وعندما دقت الساعة مؤذنة بحلول الثانية عشرة جئت انت تجرجر خطى أثقلتها أغلال المنام,, وأحسست لما رأيتك بأن تلك اللحظة شبه الآثمة حين أوشكت أن أفقد السيطرة على نفسي قد تراجعت شيئا فشيئا حتى ابتلعها جوف محيط هائل سحيق لقرون مضت وتولت فتنهدت في سري وحمدت الله, ومنذ ذلك الحين استشعرت كثيرا من الراحة والاستقرار إذ أني أدركت بأنها لا تبادلني ذات الشعور,, وبأنها لا تكن لي غير الشفقة.
ومرت الأيام والسنون,, دارت رحى الزمان فإذا بأبنائك وقد شبوا عن الطوق فكبروا وتزوجوا,, أما ثلاثتنا فهرمنا سويا, وتركت أنت حياة اللهو فكرست حياتك لواحدة فقط لزوجتك الوفية أما أنا,, فقد أدركت أنه من المستحيل أن أنسى ما بيننا,, غير أن تلك العاطفة المتأججة تجاهها قد خبت فاستحالت مع الأيام أنسا وتوافقا فكريا وصلة وجدانية لطالما ضحكت وأنت تسمعنا نفلسف الأمور على ان الغيرة كانت ستدب في قلبك لو أنك أدركت حجم التقارب بين روحينا,, لكنها الآن قد ماتت وقد لا تهل المناسبة ثانية إلا وقد لحقنا بها ولذا يا أعز صديق فقد ارتأيت أن أصارحك بذلك فأريح ضميري,, أن أقول لك:
فرانز لقد أخطأت بحقك يوماً,, ألا فاغفر لي!
ورفع إليه يدا متوسلة على أن الأخير تمتم بامتعاض:
هراء,, ليس هناك ما يستحق طلب الصفح,, ما قلته للتو لي كان معلوما لدي منذ أمد بعيد,, ماهو الجديد يا رفيقي لقد اعترفت هي لي بذلك منذ أربعين عاما أما أنا فسوف أخبرك عن السبب الذي أوقعني في حبائل النساء حتى بلغت من الكبر عتيا وأعياني الزمن,, لقد كاشفتني زوجتي بأنك,, بأنك كنت الوحيد في فؤادها!
وحدق صديقه فيه,, كأبله مشدوه فيما دقت الساعة معلنة حلول منتصف الليل!
تمت