من المحيط الدولي جنون البقر,, ديو كسين الدجاج,, ثم ماذا بعد؟! مقدم د, منصور الداموك الزهراني |
قبل نحو ثلاث سنوات، قامت الدنيا ولم تقعد حينما اكتشف العلماء البريطانيون وجود علاقة بين مرض غريب قاتل يصيب المخ الإنساني من ناحية ولحوم الأبقار المصابة بمرض جنون البقر من ناحية اخرى, انطلقت شرارة الإشهار الإعلامي لتلك الأزمة من بريطانيا حيث اكتشف المرض، ورغم محاولات حكومة المحافظين السابقة برئاسة جون ميجور تجاهل الأمر في البداية وتهدئته، فأن التناول الإعلامي المكثف للقضية لم يحقق مآرب الحكومة، خصوصاً بعد ان أكد الأطباء وجود علاقة مباشرة بين المرض المذكور وعدد من حالات الوفاة، وهو ما حدا برئيس الحكومة آنذاك إلى نقل الموضوع الى مجلس العموم البريطاني، حيث أكد صحة النتائج التي توصل اليها العلماء ووعد باتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحد من انتشار المرض، وتمثلت تلك الإجراءات في إتلاف آلاف الابقار المشتبه في إصابتها بالمرض رغم احتجاجات جماعات الرفق بالحيوان في بريطانيا وخارجها.
بعد انحسار عاصفة جنون البقر ، اشعل من جديد فتيل أزمة امن غذاء عالمي جديدة، فقد طالعتنا وسائل الاعلام العالمية المختلفة منذ بضعة ايام بنبأ مصدره وزارة الصحة البلجيكية ومفاده ثبوت تسرب مادة الديوكسين السامة والمسببة لمرض السرطان إلى علف الدجاج المستخدم في كثير من مزارع تربية الدجاج والمزارع الحيوانية الأخرى, وتعزيز التقارير الأولية وقوع هذه الأزمة إلى استخدام الأعلاف الملوثة بزيوت محركات السيارات بهدف التسريع بتسمين الفراخ، فلقد أثبتت التجارب قدرة هذا الشحم الحيواني على اداء مهمة التسمين هذه خلال وقت قياسي، بحيث يصل وزن الدجاجة إلى نحو 2,5 كجم خلال مدة لاتتجاوز الاسابيع الستة, بعد تصاعد الحمى الإعلامية لأزمة الديوكسين ، اصدرت وزارة الصحة البلجيكية قراراً بمنع ذبح الدجاج وكذلك الابقار والخنازير التي يعتقد بإطعامها من نفس المادة الغذائية المستخدمة في إطعام الدجاج وذلك حتى اشعار آخر, كما اشارت الوزارة الى احتمال انتشار التلوث في 500 مزرعة للخنازير و150 مزرعة لتربية المواشي و400 مزرعة لتربية الدواجن داخل بلجيكا على الإثر، اتخذت دول عدة في مختلف انحاء العالم (ومن بينها المملكة) قراراً بحظر استيراد الدجاج والبيض المنتج في بلجيكا، وقد شمل الحظر المنتجات الحيوانية الأخرى المشتبه في إصابتها بالديوكسين .
ومن يدري، فقد تحمل لنا الأيام القادمة أنباء عن أزمة غذائية جديدة، والبوادر الحالية تشير إلى ذلك، فقد أكدت دراسة حديثة اجريت في المانيا على اكتشاف معدلات عالية من المواد الملوثة السامة، التي تفوق في خطورتها النفايات السامة، في جثث حيتان العنبر الأطلسية التي عثر عليها بالقرب من سواحل المانيا المطلة على بحر الشمال, وربما تكون الأسماك الضحية القادمة للتلوث الغذائي، ويزيد من هذا الاحتمال ارتفاع مستويات التلوث البيئي عموماً والبحري على وجه الخصوص، مما أدى الى اكتشاف بعض الظواهر البيئية المعاصرة، كظاهرة نضوب طبقة الأوزون، حيث ثبت ان الثقوب الموجودة بطبقة الأوزون تساعد على تسلل اشعة الشمس فوق البنفسجية القاتلة إلى سطح الأرض مما يعرض كل اشكال الحياة للخطر، بما في ذلك الكائنات الحيوانية والنباتية الموجودة بقيعان البحار والمحيطات!
التكثيف الإعلامي الذي صاحب أزمتي جنون البقر والديوكسين لم يكن مستغرباً فالمسألة بكل بساطة تتصل بسر الحياة البشرية في هذا الكون، ذلك هو الغذاء ورغم ان الاهتمام بالغذاء الإنساني ورعايته - كماً وكيفاً - هو واجب وطني داخلي بالدرجة الأولى، يتقاسم مسئوليته كل من الحكومات من خلال مؤسساتها الوطنية المختصة، وبعض افراد الشعب وهم المزارعون، إلا ان التساؤل يثار ايضا عن الدور الذي تؤديه الأمم المتحدة كمنظمة دولية اخذت على عاتقها - طبقاً لميثاقها- ليس فقط مسئولية تنمية العلاقات الودية بين الدول والمحافظة على السلم والأمن الدوليين بمفهوميهما التقليديين، بل والمساهمة في حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية, المعلوم ان الدور المباشر للأمم المتحدة في المحافظة على الأمن الغذائي العالمي يتم من خلال وكالتيها المتخصصتين: منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) التي انشئت في السادس عشر من اكتوبر سنة 1945 وتتخذ من روما مقراً لها, ومنظمة الصحة العالمية الموجودة في جنيف والتي باشرت اعمالها في الثاني والعشرين من يوليو سنة 1946م, طبقاً لدستورها، تتمثل اهداف الفاو في رفع المستوى المعيشي وتحقيق الرفاهية الاجتماعية لسكان العالم وتشجيع الأعمال الفردية والجماعية الرامية الى زيادة الإنتاج الزراعي والسمكي وانتاج الغابات، وذلك من خلال تنمية الموارد العالمية من مياه وتربة وتحسين طرق الزراعة ومكافحة الآفات الزراعية والامراض الحيوانية والنباتية وتحسين طرق الرعي والتسمين وغرس الغابات، كما تعمل المنظمة على تحسين احوال سكان الريف، وكذلك جمع البيانات والمعلومات وتنفيذ الدراسات والبحوث وتقديم المساعدات الفنية للدول، ويساعد المنظمة في تنفيذ انشطتها برنامج الأمم المتحدة للتنمية، اما منظمة الصحة العالمية فانها تستهدف الرفع من المستوى الصحي للشعوب من خلال برامج متخصصة تتبنى تبادل المعلومات وتقديم الخدمات الاسشارية والفنية في مجال الصحة وتنفيذ البرامج التدريبية والإرشادية وتحسين الظروف الصحية للإنتاج الزراعي والصناعي وتنظيم ورش العمل والحلقات الدراسية وتقديم المنح الدراسية للأطباء والمتخصصين وتقرير السبل ووضع الحلول للقضاء على الامراض المنتشرة في كثير من بقاع العالم كالملاريا والسل والكوليرا، مع التركيز على المناطق الاكثف سكاناً, ومع ان منظمة الأمم المتحدة من خلال هاتين الوكالتين قطعت شوطاً لايستهان به في سياق تحسين الظروف الغذائية والصحية في اماكن عدة من العالم، إلا انه يؤخذ عليها اتصاف جهودها بالشمول والعمومية دون الاهتمام كثيرا بالجوانب التفصلية، وهما في ذلك ينسجمان مع الاهداف والغايات التي رسمها دستورا الوكالتين، والتي أتت في شكل أفكار ومبادىء عامة, وكان من نتيجة ذلك ان مرضى جنون البقر والديوكسين لم يكن لجهود الوكالتين المذكورتين دور في اكتشافهما، بل وحتى بعد الاكتشاف لم نلمس تفاعلاً محسوساً من قبلهما في التعامل مع هذين الوباءين الفتاكين, يأتي هذا رغم ان منظمة الاغذية والزراعة - تحديدا - تشمل في هيلكها التنظيمي مكتباً اقليمياً خاصاً بامراض الحيوانات مهمته إعداد الدراسات والبحوث عن الأمراض الحيوانية المختلفة وتقديم الخدمات الاستشارية، والمعونة الفنية للدول الاعضاء فيما يتعلق بمقاومة الامراض التي تصيب الحيوانات، وكذلك تبادل المعلومات مع تلك الدول حول ظهور تلك الامراض وطرق علاجها، بل ان الوكالتين المذكورتين تشتركان في لجنة دستور الاغذية، التي تهدف الى حماية المستهلك وترسيخ التعاون الدولي بين المؤسسة المعنية بوضع معايير ومستويات الغذاء العالمي.
لقد انتشرت ظاهرة الاعتماد على المواد الكيميائية المصنعة في المزارع الحيوانية والنباتية، الامر الذي أدى الى ظهور بعض الامراض التي لم تكن معروفة من قبل والضحية في كل الأحوال هو الإنسان فهل نشهد مستقبلاً ونلمس جهوداً اكثر اتساقاً مع هذا الواقع من قبل منظمة الأمم المتحدة؟.
|
|
|