في المملكة وفي العالم العربي عموماً يحتاج النشر الالكتروني الى وقت طويل جداً حتى يصبح جزءاً من عملية النشر وتوصيل المعلومات, فمن الصعب اقناع كثير من الكتاب العرب بضرورة استخدام الكمبيوتر في انتاج اعمالهم الكتابية (رغم ان المسألة اصبحت موضة قديمة) فما زال كثير من الكتاب العرب مهما ابدى من ادعاءات الحداثة و(النص الجديد) ما زال يفكر في اطار من العلاقات التقليدية مع هذا العالم وأسوأ منهم هؤلاء الذين يكتبون المقال ثم يطبعونه بأنفسهم على الكمبيوتر, الكاتب العربي ما زال يعتقد ان استخدام الكمبيوتر في الكتابة هو بديل للكتابة بالآلة الكاتبة والآلة الكاتبة كانت بديلاً للقلم، هكذا بكل بساطة ،وكأنما العملية تحوّل من أداة الى اخرى بشكل اختياري، أي أنها تقدم له تسهيلات معينة او تعفيه من صعوبات معينة.
من السهل على الانسان قبل مائة عام ان يدّعي وهو صادق، أن الجمل وسيلة فعالة وعملية للنقل والمواصلات, ولكن في الوقت نفسه لا احد يستطيع ان يدّعي ان السيارة او الطائرة او القطار هي بدائل اختيارية للجمل حتى الغارق في تقليديته, فهذه الوسيلة الجديدة حلت محل الجمل في زاوية صغيرة التي هي وظيفة الجمل، وازالت من الوجود وظائف كانت للجمل ولكنها احدثت ثقافة جديدة في التعامل مع المسافات, ثقافة جديدة ومتغيرة جذرياً, فعلاقة الانسان بالسيارة ليست علاقةمتطورة لعلاقته بالجمل, وانما هي علاقة جديدة تماماً, فما ينتج باستخدام السيارة من خدمة او معرفة ليس ما كان ينتج باستخدام الجمل رغم خداع اللغة (عندما نقول وسيلة مواصلات) فالسيارة او الطائرة لم تعد وسيلة مواصلات الا في جزء يسير منها, والكمبيوتر عندما يحل محل القلم والورقة فهو يحل محلها في جزئية صغيرة جداً هي الكتابة بمفهومها الأوّلي فقط ، وبعد ذلك هناك ثقافة جديدة.
فالكتابة بالكمبيوتر هي طريقة جديدة في التفكير اثناء عمل الكتابة او خارجه, هناك مجموعة من العلاقات الجديدة تنشأ، فالنص الذي يتنامى امام كاتبه على الشاشة سيسمح بنشوء المسافة التي يحصل عليها الكاتب التقليدي بعد فوات الأوان، أي بعد النشر النهائي, الشيء الثاني من النتائج المباشرة انه يخفف من العلاقة الدافئة الحميمة مع النص, فهو يكتسب مسافة النشر الأولى (أرجو الا يثير هذا أي حزن) فالعلاقة الزوالية هي سمة هذا العصر فلم يعد هناك اي علاقة دافئة بين الانسان وبين ممتلكاته, تلك العلاقة التي نعاها باكياً الروائي الروسي سولجنستن, فلا يعود الكاتب ينظر الى عمله بالقدسية التي ينظر بها الى جزء من نفسه ولكن هذا الشيء المحزن يمنح الكاتب سلطات اوسع على النص, فمن السهل عليه ان يضحي بكثير من الجمل والافكار العزيزة على قلبه والتي يتهمها الروائي الامريكي شتاينبك بإفساد النصوص عند الكتاب غير الشجعان, كما ان اختفاء الأوراق من امام الكاتب وهي اخر علاقة مع الطبيعة (الشجر) (تذكر أننا كنا نأكل على سفرة مصنوعة من سعف النخل) فدورة الطبيعة ستنقطع وستحل محلها السلكون والنبضات الكهربائية, (على فكرة هذا المقال لم أشاهده مكتوباً على ورق) ولكن هذه بداية الحكاية, فمعرفة الحكاية تبدأ من النشر الالكتروني الذي سيحل محل النشر الورقي, فكاتب القصة او المقالة او القصيدة يفقد السيطرة عليها بعد النشر التقليدي مباشرة, اي يجب ان يكتب غيرها اذا اراد ان يتطور, اما عبر النشر الالكتروني فالقصة او القصيدة تبقى تحت سيطرة الكاتب حتى يموت, فيمكن ان يُجري عليها اي تعديل باستمرار حتى بعد نشرها, فالقارىء يستطيع ان يأخذ منها نسخة اليوم اما غدا فربما تأتيه نسخة مختلفة, وهكذا يعاد انتاج العمل مرة ومرتين وألف مرة, وهذا شيء رائع جداً أن أقرأ قصة او قصيدة متطورة او متغيرة, والشيء المثير (في آخر الأخبار) ان النشر الالكتروني تدخل بشكل سافر في طبيعة الكتاب التقليدية وطور علاقته به ليجعله امتداداً له, فقد طرحت مؤخرا شركة آي بي أم وكذلك شركة زيروكس آلة طابعة او مطبعة (سمّها ما شئت) تستطيع ان تنتج نسخة من الكتاب حسب طلب الزبون، فلن يكون هناك مستودعات للكتب وارفف، فالكتاب والتعريف به موجود على الشاشة فإذا اراد القارىء الكتاب طبع له على الفور، فالجهاز يضم طابعة ورق وطابعة غلاف وجهاز حياكة (الآلة التي أنتجتها آي بي أم تستطيع ان تنتج مليون كتاب في السنة اي ما يعادل انتاج العالم العربي في سنوات) واذا كان هذا قد ألغى الكتب من الارفف فانه في الوقت نفسه اعطى الكاتب مزيداً من السيطرة على مؤلفه، فهو يستطيع ان يعيد تنقيحه وتصليحه في اي وقت، لأنه عملياً لم يطبع بعد وهذا ربما ألغى فكرة الطبعة الاولى والطبعة الثانية,, وهكذا فالتغير مستمر وربما يصل حتى يصبح تغيراً يومياً- أتصور على سبيل المثال ان يكون هناك كاتب عظيم لم ينتج الا كتاباً واحداً حيث يلاحق عمله هذا بالتغييرات والحذف والاضافة حتى يصل به الى درجة المثالية اي حتى الموت- فالنشر الالكتروني سيخلق نوعية غير معروفة من الكتاب ومن الكتب,.
من يصرُّ على استخدام البعير فليس له مكان في الشوارع الجديدة.
Yara*Hotmail.com