مساحات بيضاء محض أمنية,,! ريمة الخميس |
يخطى الذين يتصورون ان معطيات التقدم العلمي وما تحققه كل لحظة من كشف جديد هي وحدها التي تدفع بحركة الانسانية على مسارها الناهض، حد انا نطلق على نهضة هذا العصر اسم النهضة التكنولوجية بكل ما يندرج تحتها من وسائل الاتصال وحركة المعلومات، وتطور علوم الطب والفلك والكيمياء, واساس الخطأ في هذا التصور ما يشير اليه ضمنا الى تهميش لدور الفن والادب في تلك الاندفاعة العلمية الجامحة، وهو ما يعني قصور النظرة الى الوجود الانساني وتكامله,, حيث في ظله يشبع المنجز العلمي احتياجاته المادية، ويثري المنجر الابداعي في الفن والادب الجانب الاهم، ليس بمجرد الوفاء باحتياجاته الوجدانية والنفسية فحسب، وانما اساسا بايقاظ الحس والمعنى في قيمة هذا الوجود من حيث هو وجود انساني, وفي هذا اصبح من السخف ان نشير الى ان ما حققته التجارب العلمية قد كان في الاساس احلاما وتشوفات حلقت اليها اجنحة الخيال التي امتطت صهوتها رؤى الابداع الفني والادبي، بدءا من انسان الكهف ومرورا بليوناردو دافنشي وفيرن، وبلا انتهاء، فليس الاعتبار للسبق وحده، وانما لذلك التضافر الذي تتكامل به القيمة في الوجود الانساني للروح والمادة.
هل نحن بحاجة الى هذا التقديم كي نصل الى ان ما تنفقه الامم على تطوير ابحاث العلوم والتقنية يمثل الخلل في التوازن الانساني اذا ما قورن بحجم التكريس لرعاية الفن والادب فاغلب الظن ان اشكال الرعاية للجانبين لو تحققت لها عدالة المساواة، لبقيت منجزات استغلال الطاقة النووية قاصرة على كل ما يرتقي بقيمة الوجود الانساني، حين تصبح اداة في يد انسان لا سلاحا في يد تجردت من كل انسانية، لكننا حقيقة لا ينبغي ان نستسلم لاحلام اليقظة في ان يدرك الفكر الانساني بكل ما بلغه من وعي هذه الحقيقة، بل هو مدرك لها، وانما عالم هذا اليوم اصبح كرة في يد حركة الاقتصاد الذي يدفع بدولة الى محاولة السيطرة على اخرى، والذي يضع القاعدة داخل الدولة الواحدة بان الانفاق على ابحاث العلوم استثمار اقتصادي ذو جدوى عالية بينما الانفاق على الفن والادب استنزاف لا يعود على الاقتصاد بأي مرودود سوى الانهاك! على الرغم مما في هذه القواعد من مغالطات كبرى,في ظل هذه الوضعية الصعبة يواصل المبدعون استماتتهم في الانتاج، والنشر بما يستقطع من القوت، وكأنهم يؤدون عروضا مسرحية في قاعة بلا جمهور!
ويبدو انه حظ ابدي للموهوبين من الكتاب والفنانين والنقاد والدارسين ايضا يشهد به التاريخ، فجون كيتس، الشاعر الانجليزي الكبير، حفيت قدماه طفلا وهو يقطع مسافة عشرة كيلومترات يوميا للذهاب الى مدرسته والعودة على الاقدام وتركت امه صغارها وتزوجت ونسيت ان كان لها ابناء، واضطر كيتس الى العمل في احد اسطبلات الخيول، وممرضا في احدى العيادات، من اجل ان يرعى اخوته ويكتب الشعر، لكن هزاله لم يصمد امام مرض الصدر (السل) فمات في الخامسة والعشرين وحظيت بعده بالخلود اشعاره,, والامريكي ادجار آلان بو ، اضطر تحت وطأة الفقر الى التطوع في الجيش، لم ينقذه الا احد الاثرياء، دفع له الكفالة ومنحه حريته ليموت فقرا,, وشيللي، الشاعر الانجليزي ، كان يختبىء من اصحاب الديون والسجن ليكتب قصيدة، يطبعها على نفقته من دين جديد، ويوزعها على اصدقائه، مات وترك لزوجته مهمة جمع اعماله التي لم تنشر,, ولافونتين عمل خادما منزليا عشرين سنة وكتب الخرافات الشهيرة,, وتنيسون الشاعر الانجليزي الاشهر، كان الابن الرابع من اثني عشر ابنا لموظف فقير، لم يجد حيلة للرزق بعد ان حاصرته ديونه اضافة الى ما تركه له ابوه من ديون الا ان يعمل نجارا ويكتب رائعته برومثيوس طليقا ومع ذلك فشل عمله,, وديستويفسكي كان يسرق الأواني المنزلية من بيته، يبيعها ويكتب الاخوة كارامازوف صاما اذنيه عن سباب زوجته، وحسين المرصفي احاط نفسه بدائرة من العسل ليتقي هجوم البق وهو يكتب الوسيلة الادبية في ضوء لمبة الكاز، وبدر شاكر السياب ورامبو وامل دنقل ومئات الاسماء التي وارى اجسادها - في مقتبل العمر - الموت فقرا، وابقاها الشعر - في ابد الزمن - علامة في تاريخ انساني نبيل.
هل كان هؤلاء جميعا يعرفون انهم يحفرون بسن القلم مجرى للخلود، ولهذا استماتوا في اتمام المهمة رغم قساوة الحياة؟ والاجابة التي لاشك فيها تنفي هذا الافتراض، ولكنهم ببساطة قد كانوا مبدعين حقيقيين، يؤرق في انسانيتهم وعي وضمير ورسالة,, وهل كانت ازمانهم تدرك انها امام ثروة ينبغي ان تصان؟ والاجابة ايضا نافية، والا لما صادفنا شعارا رائجا يقول ان المبدعين ان استراحوا كفوا عن الكتابة! وانهم دائما بحاجة الى المعاناة كي ينتبهوا الى وطأة كل تجربة وقسوتها، فتثرى بذلك خبرتهم!.
لحسن الحظ وسوئه، ان عصرنا المحموم بمنجز التقنية ، ذرّا للرماد في العيون امام ضمير التاريخ، قد القى ببعض من الفتات للمهمومين بعدوى الادب والمسكونين بهاجس الفن، فبعض الدول في منطقتنا العربية قد انشآت نظاما للتفرغ يتحمل كل احتياجات الفنان او الاديب، ويعفيه من الانشغال بأي عمل، الا ان يكتب او يرسم متى واتته حالة الابداع، ورغم انه قد مر على ايجاد هذا النظام ما يقرب من نصف القرن ولم نر شيئا لافتا او غير لافت انتجه المتفرغون، ورغم اننا هنا في المملكة نعيش ظروفا مادية جيدة، فما اشد ما اتمنى ان يحظى المبدعون لدينا بهذا الامتياز وان كانت الامنية موغلة في التفاؤل، لا لشيء الا لأن الأمر يتطلب اصلا ان يكون لدينا مبدعون مؤرقون بشيء,,!!
|
|
|