Sunday 6th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 22 صفر


حقوق الإنسان في التكافل الاجتماعي 3-1
د, محمد عمارة

عندما سقطت الشمولية - الشيوعية ارتفع صوت الليبرالية- الرأسمالية زاعمة أنها هي نهاية التاريخ ، وأن صراع الحضارات هو السبيل الى فرض نموذجها وعولمته على العالمين.
لكن المشهد الاقتصادي - الاجتماعي العالمي لهذه الليبرالية- الرأسمالية قد غدا مخيفا في مظالمه المتوحشة، الى الحد الذي دفع ويدفع قطاعات حتى من أنصار هذه الليبرالية- الرأسمالية الى البحث عن طريق ثالث -غير الشيوعية والرأسمالية- ,, لكنهم يلتمسونه طريقا رأسماليا معدلا ,, ولم يفكر أي منهم في الانعطاف نحو فلسفة الاسلام في الأموال والثروات، ونموذجه في العدل والتكافل والمساواة وحقوق الانسان,.
واذا كانت الماركسية- وشيوعيتها- قد سبق أن قتلت في ثلث الانسانية روح المبادرة والإيجاد والابداع، فضلا عن محاربتها للتدين ومطاردتها للإيمان، فإن الرأسمالية المتوحشة قد وضعت كل الانسانية في مأساة عبثية لا أعتقد أن لها نظيرا في التاريخ.
* إن 225 فردا من ابناء الشمال يملكون مايساوي ملكية مليارين ونصف المليار من أبناء الجنوب - أي نصف البشرية المعاصرة! و3 أفراد في أمريكا يملكون ما يساوي ملكية 48 دولة -أي قرابة ثلث اعضاء الأمم المتحدة.
* ونفس المشهد نجده في الاستهلاك,, ف20% هم ابناء الحضارة الغربية - سكان الشمال يستهلكون 86% من الانتاج العالمي.
* وبسبب تركز الثروات، ثم الاستهلاك المترف في يد القلة، تركز الفقر وانعدام القوة الشرائية في جانب الكثرة الكاثرة,, الأمر الذي جعل رأس المال العالمي ينصرف عن الاستثمار الانتاجي والتجاري والخدمي الى السمسرة والمقامرات والمضاربات وصناعة السلاح وتجارة المخدرات, فلقد بلغ حجم الأموال السائلة الهائمة في المضاربات 100 تريليون دولار، في حين تقلص حجم الأموال الموظفة في الانتاج والتجارة الى 3,5 تريليونات!.
* ونفس المشهد البائس المتوحش نجده في نسبة ما ينفق من الاقتصاد العالمي على الدمار والترف الى نسبة ما ينفق على ضرورات الناس وحاجاتهم.
ف870 بليون دولار هي حجم الانفاق على التسلح.
و400 بليون دولار هي حجم الانفاق على المخدرات.
و105 بلايين دولار هي حجم الانفاق على الخمور في أوروبا وحدها.
و67 بليون دولار هي حجم الانفاق على القطط والكلاب المنزلية في أوروبا وأمريكا وحدهما.
في حين لا يزيد ما ينفق على التعليم في العالم كله عن 6 بلايين دولار!,, وما ينفق على التغذية والصحة معا لا يتعدى 13 بليونا!,, أي ان ما ينفق على التسلح والمخدرات والخمور والقطط والكلاب هو 1442 بليون دولار,, وما ينفق على كل من التعليم والتغذية والصحة لا يتعدى 19 بليونا، فقط لا غير!,.
* وهذا الخلل الفاحش، في التملك,, وفي الاستهلاك,, وفي الإنفاق، قد أدى الى نفس الخلل الفاحش في توظيف طاقات العلم الكوني المعاصر، ف90% من علماء العالم يعمل أغلبهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في صناعة السلاح والدمار,, في حين لا يعمل في العلم النافع- بميادينه المختلفة - سوى 10% من العلماء!.
* ولم يقف هذا الخلل الفاحش عند هذه المعالم الكالحة في توحشها,, وإنما انعكس في صورة نزيف الديون وفوائدها الفاحشة لحساب القلة الغنية، وعلى حساب 80% من سكان العالم القاطنين في الجنوب - فالشركات متعددة الجنسية تقترض الدولارات من أغنياء وال ستريت بفائدة 6% وتقرضها بفائدة تتراوح بين 20% و50% لفقراء الجنوب,, حتى غدت صادرات الفقراء 80% من سكان العالم لا تكاد تفي بسداد فوائد الديون وخدمتها,, وليس سداد نفس الديون!,, وفي دول افريقيا جنوب الصحراء يخصص لسداد فوائد الديون أربعة اضعاف ما يخصص للصحة والتعليم!.
* وهذا التفاوت المتوحش بين الشمال والجنوب ، نجده متجسدا في داخل حضارات الجنوب - بين تخمة الترف والفقر المدقع-,, ففي داخل الحضارة الاسلامية تتفاوت دخول الأفراد بين 31,165 دولاراً و100 دولار فقط لا غير!, (1)
أمام هذا المشهد المأساوي- العبثي غير المسبوق في تاريخ الحضارات الانسانية، والمنذر بتصاعد حدة الأزمات والمآسي ومخاطرها- والذي تريد العولمة فرضه على الانسانية بأسرها- يتزايد الالحاح على العقل المسلم كي يقدم مبادىء الاسلام الاجتماعية في العدل والتكافل والمساواة، وفلسفة الاسلام في الأموال والثروات، طريقا متميزا لإنقاذ عالم الإسلام -أولا- من هذا المأزق الرأسمالي المتوحش ثم لترشيد النظام المالي والاجتماعي العالمي بهدي الاسلام.
***
عدالة الاستخلاف
ان مفتاح الفلسفة الإسلامية في الاجتماع والاقتصاد يبدأ بنظرية الاستخلاف,, فالله سبحانه وتعالى هو الحق البارئ والراعي والمدبر للخلق,, ولقد شاء الله ان يستخلف الانسان -مطلق الانسان، وليس فقط الفرد أو الطبقة - في عمران الأرض، وفي حيازة واستثمار الثروات والأموال والانتفاع بها، وذلك وفق بنود عقد وعهد الاستخلاف - التي حددت الشريعة أصولها ومبادئها وقواعدها,, وتركت تفصيلاتها لفقه المعاملات.
فعندما أراد الله، سبحانه وتعالى ،خلق آدم عليه السلام، أنبأ ملائكته انه سيتخذ في الأرض خليفة، يحمل أمانة العلم والاختيار والتكليف، نهوضا برسالة عمرانها وزينتها، فقال:(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة, قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك, قال إني أعلم مالا تعلمون) (2) .
ولقد تميزت مكانة الانسان في الكون، وعلاقته بالثروات والأموال - امتلاكا واستثمارا,, وانفاقا - بفلسفة الاسلام في الاستخلاف,, فمكانة هذا الانسان هي مكانة الخليفة، المفوض في عمارة الأرض، الحر المختار المكلف المسؤول- لأن هذه هي الشروط الضرورية التي تلزم لنهوضه برسالة استعمار الأرض-,, ومكانة الخليفة تضع أيضاً اطارا ضابطا على هذا التفويض والاختيار والحرية، متمثلا في بنود عقد وعهد الاستخلاف، أي الشريعة الإلهية، التي تمثل معالم وضوابط وآفاق هذا الاستخلاف.
فهذا الانسان المستخلف، ليس هو المجبر المهمش الذي ليس له من الامر شيء, وهو -كذلك- ليس سيد الكون، المكتفي بذاته، المستغني باختياره عن رعاية وتدبير الله الخالق والمستخلف لهذا الانسان,, انه سيد في هذا الكون، وليس سيد الكون,, وبعبارة الإمام محمد عبده 1265- 1323ه 1849-1905م : هو عبد لله وحده، وسيد لكل شيء بعده .
وتفريعا على هذا المعنى الكلي للاستخلاف، تميزت وتتميز الرؤية الإسلامية لنطاق حرية وعلاقة الإنسان -الخليفة- بالثروات والأموال، ثم النظام الاجتماعي في الاسلام,, فالانسان -في هذه الرؤية- خليفة ومستخلف، تحكم حرياته وعلاقاته بالثروات، والأموال بنود عقد وعهد الاستخلاف في العدل والتكافل والمساواة التي تحقق التوازن بين الفرد والطبقة والأمة في التملك والاستثمار والانفاق.
ان المالك الحقيقي -مالك الرقبة- في الأموال والثروات هو خالقها ومفيضها في الطبيعة، الله سبحانه وتعالى وهو الذي سخرها، كغيرها من قوى الطبيعة وكنوزها، ليرتفق بها الانسان - ارتفاق تسخير- بمعنى الأخوة - لا ارتفاق سُخرة- بمعنى القهر- استعانة بها على أداء مهمات الاستخلاف - عمارة هذه الأرض وتزيينها-,.
وللانسان في هذه الثروات والأموال ملكية المنفعة، المجازية، ملكية الوظيفة الاجتماعية، التي تتيح له حرية الاختصاص، والاستثمار والتنمية، والانتفاع، المحكومة ببنود عقد وعهد الاستخلاف، من المالك الحقيقي، لهذا الانسان في هذه الثروات والأموال.
وهذا المعنى للاستخلاف، في الأموال والثروات - كما هو شأن الوسطية الإسلامية- لا يجرد الانسان من حق الملكية للثروات والأموال,, ولا يرفع الضوابط عن حريته في التملك والتصرف أيضاً,, وانما يقف بهذه الحرية عند حرية الخليفة المحكومة بإرادة وأوامر ونواهي المالك الحقيقي للأموال والثروات.
ولمعنى الاستخلاف هذا جاء التعبير بمصطلح الحق عن ما للآخرين في مال الانسان (والذين في أموالهم حق معلوم, للسائل والمحروم) (3) ، وجاءت اضافة مصطلح المال في القرآن الكريم، الى ضمير الجمع في سبع وأربعين آية - فالجمع هو الانسان المستخلف- في حين جاءت اضافته الى ضمير الفرد في سبع آيات، كي لا يستأثر وينفرد ويستغني، وكي لا يحرم من حق الاختصاص والحيازة والملكية المحكومة بفلسفة وضوابط الاستخلاف أيضاً.
فللانسان مال,, لكنه في نفس الوقت مال الأمة,, وبعبارة الامام محمد عبده: ان تكافل الأمة يعني ان مال كل واحد منكم هو مال أمتكم) (4) ,, وبعبارة الزمخشري 467-538ه، 1075- 1144م - في الكشاف - وهو يفسر قول الله سبحانه وتعالى (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (5) : إن مراد الله من هذه الآية هو ان يقول للناس: ان الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله، بخلقه، وانشائه لها، وإنما موّلكم إياها، وخوّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي أموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب (6) , هذا هو معنى الاستخلاف في ميدان الثروات والأموال.
الهوامش:
(1) انظر تقرير التنمية البشرية لسنة 1998م- البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة صحيفة الأهرام , مقالات: صلاح الدين حافظ هل اصبح الفقر قدرا علينا محتوما؟ في 16/9/1998م, و: د, محمود عبدالفضيل أزمة النظام المالي العالمي في 15/6/1998م- و: محمد سيد أحمد في 11/3/1999م- و: سيد يسين في 11/3/1999م وكذلك د, احمد شوقي مغزى القرن العشرين المكتبة الأكاديمية - القاهرة.
(2) البقرة: 30.
(3) المعارج: 24،25.
(4) الامام محمد عبده الأعمال الكاملة ج5 ص194, دراسة وتحقيق: د, محمد عمارة, طبعة القاهرة سنة 1993.
(5) الحديد: 7.
(6) الزمخشري تفسير الكشاف ج4 ص61, طبعة القاهرة سنة 1968م.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
الثقافية
ملحق الدعوة
الاقتصـــادية
المتابعة
ملحق المذنــــب
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved