في الحلقة الماضية لاحظنا بعض الذي يحيط بالعلاقة بين الموهبة الشعرية وتعلم الشعر عند اليونان وبين دور ملهمات الفنون في منح هذه الموهبة وتعليم الشعراء الشعر , كما لاحظنا عدم وجود أي إشارات في الأدب الإغريقي المبكر عن إمكان تعليم شاعر شاعراً آخر ،رغم تأكيد طبيعة حرفة الشاعر البارعة , وفي الثقافة التي تقوم على التلقين ، كان على المبتدىء في الحقيقة أن يتعلم مبادئ حرفتة بالاستماع إلى من هم أكثر منه خبرة، ومع ذلك كان التعليم يمنح بوصفه حقاً إلهياً, فالشعراء إذن متميزون عن غيرهم من الجماعات الأخرى في الأدب الإغريقي المبكر من خلال تواتر الإشارات إلى الوضع الخاص للشاعر وتأكيد صلاته بالسماء , وقد ذكرنا أنه لايوجد ما يشير في التقاليد اليونانية إلى الاعتقاد بأن الموهبة الشعرية موروثة أو منحدرة من جيل إلى جيل,
فاذا ما جئنا إلى الثقافة العربية وجدنا منظومة متكاملة تلقي الضوء على الموضوع وتوضحه من جديد في تاريخ الإنسانية , فالتقاليد الشعرية العربية تقوم في أساسها على الرواية والتعلم على مستوى الأسرة الواحدة أو القبيلة في العصر الجاهلي، وظلت الرواية الشفهية أساس نقل الشعر من جيل إلى جيل قبيل الإسلام وبعده حتى تأسست الكتابة العربية ودونت الأشعار نقلاً عن الرواة الشفهيين , ولكن غرضنا في هذه الحلقة أن نعمق فهمنا لعلاقة التعلم بالشعر في التصور اللغوي الديني عند العرب ويكفي أن ننظر في مادة العلم ومادة الشعر في المعجم العربي وفي القرآن الكريم وتفسيراته حتى نكتشف أشياء جديرة بالتوقف عندها والتأمل فيها, فالعلاقة بين مادة (علم) ومادة (شعر) تتمركز في المعرفة والإدراك الحسي والعقلي, ويتفرع عن هذا المعنى المركزي كل المعاني الأخرى التي تدور في فلكه, وهكذا تلحق أيضا بالمادتين المذكورتين مواد وإشارات أخرى إلى القلم والكتابة والشعر والجنون.
ولعل أول ما يلفت النظر في كل هذا هو الربط بين الإدراك الحسي الكامن في مادة (شعر) والادراك العقلي الذي تنطق به مادة (علم), ومن قلب هذه العلاقة نبت الشعر فن العربية الأول, وهكذا نقرأ في مادة (شعر) في القاموس المحيط وفي لسان العرب كذلك : "والشعرُ: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل عِلم شعرا من حيث غلب الفقه على علم الشرع، والعود على المندل، والنجم على الثريا, فكل العلوم إذن هي "شعر"ولكن منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية, فلولا الوزن والقافية ما سمى الشعر شعرا من هذه الجهة, ومنها كذلك قول ابن سلام الجمحي في أول كتابه (طبقات فحول الشعراء): ذكرنا العرب وأشعاها ،,,,,،,,,,,،
فاقتصرنا من ذلك على ما لا يجهله عالم، ولا يستغني عن علمه ناظر في أمر العرب، فبدأنا بالشعر"ثم مايلبث ابن سلام أن يقول"وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات"وفي نهاية هذه الجملة يصل ابن سلام إلى مبدأ الخبرة التي تتكون عبر السنين لدى (العلماء) في كل علم، والمعرفة التي تظهر لديهم عند المعاينة والاستماع (للغناء اوللشعر)،"بلاصفة يُنتهى إليها، ولا علم يوقف عليه,وإن كثرة المدارسة لتعدي على العلم به, فكذلك الشعر يعلمه أهل العلم به,"ومن هنا كذلك جاء رفض ابن سلام للشعر الذي وضع لابن إسحاق ومثل ما روى الصحفيون (أي الذين ينقلون عن الصحف ولم يتلقوا علمهم بالرواية عن العلماء)، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم"فقد كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون،وإليه يصيرون ,,,، قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه,"
ففيما نقلنا عن ابن سلام يتضح لنا العلاقة الوثيقة بين الشعر والعلم/ التعلم عند العرب وخصوصا قبل الإسلام، كما تتضح لنا العلاقة بينهما في إدراك العلماء المسلمين للشعر واشتغالهم به بعد الإسلام، لقد أصبح كل علم لديهم شعرا ولكنهم احتفظوا بالشعر للعلم الموزون المقفى، ومن هنا جاءت منظومات العلوم الأخرى في الوزن والقافية، وبقي الشعر/ الشعر تعلو فيه درجة الإحساس والخيال، واستقل بطبيعة المعرفة التي ينقلها والتي تختلف اختلافا نوعيا عن تلك التي تنقلها العلوم الأخرى، دون أن يقل عنها في المنزلة بطبيعة الحال، إلاعندما يخرج الشعر عن حد "العلم"و"المعرفة"التي لايختلف عليها اثنان وهبا من الشعور والإدراك الحسي والعقلي ما ينأى بهما عن تسخيف ما ليس لهما به علم, فالشاعر عند العرب إنما سمي شاعرا لأنه يشعر ما لا يشعر غيره أي يعلم", وقد سمي شاعرا كذلك "لفطنته, وما كان شاعرا"، أي حتى إذا لم يكن شاعرا بالمعنى الاصطلاحي.
ومن منطلق (العلم) تمتد مادة (شعر) إلى شعائر الله ، أي مناسك الحج,"وقال الزجاج في شعائر الله يعني بها جميع متعبدات الله التي أشعرها الله أي جعلها أعلاما لنا، وهي كل ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح، وإنما قيل شعائر لكل علم مما تعبد به لأن قولهم شعرت به علمته، فلهذا سميت الأعلام التي هي متعبدات الله تعالى شعائر,"
أما الأصل في ذلك كله فهو أن"العلم"من صفات الله عز وجل العليم والعالم والعلام؛ قال الله عزوجل "وهو الخلاق العليم"وقال:"عالم الغيب والشهادة"، وقال علام الغيوب"فهو الله العالم بما كان وما يكون قبل كونه، وبما يكون ولما يكن بعد قبل أن يكون، لم يزل عالما ولايزال عالما بما كان وما يكون، ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى، أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها دقيقها وجليلها، على أتم الإمكان, ويجوز أن يقال للإنسان الذي علمه الله علما ما من العلوم إنه عليم، بما في الصيغة من مبالغة، كما قال يوسف للملك: "إني حفيظ عليم"وقال الله عز وجل إنمايخشى الله من عباده العلماء ؛ فأخبر عز وجل أن من عباده من يخشاه، وأنهم هم العلماء، وكذلك صفة يوسف، عليه السلام: كان عليما بأمر ربه، وبأنه واحد ليس كمثله شيء، إلى ما علمه الله من تأويل الأحاديث الذي كان يقضي به على الغيب، فكان عليما بما علمه الله, وروى الأزهري عن سعد بن زيد عن أبي عبدالرحمن المقري في قوله تعالى :"وإنه لذو علم لما علمناه"، قال: لذو علم بما علمناه, وروى عن ابن مسعود أنه قال: ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم بالخشية؛ قال الازهري: ويؤيد ما قاله قول الله عز وجل :"إنما يخشى الله من عباده العلماء", وقال بعضهم : العالم الذي يعمل بما يعلم.
ففي النص السابق نقف على العلاقة بين أصل العلم الإلهي وفرعه البشري,ويحق للشعر أن يلتمس في لب هذه العلاقة وليس على هامشها, فالشعر هو العلم والفطنة والمعرفة والإدراك والإحساس, ولكن من أين يأتي الجنون في الشعر في ثنايا هذه العلاقة؟ أنما يأتي من الغير, وفي حديث ابن مسعود: إنك عليم معلم أي ملهم للصواب والخير, أما قوله تعالى :"الرحمن علم القرآن "، قيل في تفسيره: إنه جل ذكره يسّره لأن يذكر، وأما قوله:"علمه البيان"فمعناه أنه علمه القرآن الذي فيه بيان كل شئ ، ويكون معنى قوله:"علمه البيان"، أي جعله مميزا، يعني الإنسان، حتى انفصل من جميع الحيوان.
وقوله:"علم الإنسان مالم يعلم "، يقول تعالى ذكره: علم الإنسان الخط بالقلم؛ ولم يكن يعلمه، مع أشياء غير ذلك، مما علمه ولم يكن يعلمه, وكذلك يمكن النظر في آية المائدة(110) :"واذ علمتك الكتاب والحكمة والتوارة والإنجيل"، يقول: واذكر أيضا نعمتي عليك إذ علمتك الكتاب: وهو الخط،والحكمة : وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك وهو الإنجيل وآية يوسف (101):"وعلمتني من تأويل الأحاديث"قال:العبارة.
وتستدعي هذه الآيات سورة القلم التي كانت في بعض الأحاديث الشريفة أول ما نزل من القرآن بعد "اقرأ"وفيها قسم بالقلم وما يسطرون وقوله تعالى لنبيه:"ما أنت بنعمةربك بمجنون"مكذبا بذلك مشركي قريش الذين قالوا:إنك مجنون,فنفى القرآن الكريم صفة الجنون عن النبي, وإنها لدلالة لاتخفى على عاقل أن يلاحظ سياق نفي الجنون عن الرسول الكريم في سياق القسم بالقلم والكتابة،وليس لتكذيب مشركي قريش فحسب,ويمكن أن نتأمل في السياق نفسه ما روي عن الرسول في قوله:"إن أول ماخلق الله خلق القلم،فقال له:اكتب،قال:يارب وماأكتب؟قال:اكتب القدر،قال:فجرى القلم في تلك الساعة بما كان،وما هو كائن إلى الأبد",ومن الواضح أن هذا الحديث يذكرنا بما يروى عن نزول آية:اقرأ"على الرسول,فثمة تواز يربط بين حادثة نزول القرآن أول مرة وحديث القلم الذي كان أول ما خلق الله سبحانه وتعالى,ونفي الخوف عن الرسول الكريم وأمره بالقراءة يوازيه أمر القلم بالكتابة, ومن ثم يأخذ نفي الجنون عن الرسول دلالة أرحب.
ولكن ماتزال ثمة مشكلة تتمثل في تفسير آية يس(69):"وما علمناه الشعر وما ينبغي له",فقد قيل لعائشة:هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشئ من الشعر؟قالت:كانت أبغض الحديث إليه،غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس،فيجعل آخره أوله،وأوله آخره،فقال له أبو بكر:إنه ليس هكذا،فقال نبي الله:"إني والله ما أنابشاعر،ولاينبغي لي",فكيف يمكن التوفيق بين هذه المكانة للشعر/ العلم عند العرب قبل الإسلام وتلك الحساسسية ضد الشعر في تفسير آية سورة ياسين,لقد اتهم الرسول الكريم في سياق آية الدخان(14)"وقالوا معلم مجنون"بأنه "مجنون علم هذا الكلام"، أي علمه بشر؟فالجنون إنما يأتي من البشر الآخرين على الرغم من اشتقاقه من الجن,ولابد هنا من أن نتذكر الآيات الأخيرة في سورة الشعراء التي تتهم الشعراء بانهم يقولون ما لا يفعلون،ويتبعهم الغاوون.
فواضح من نص آية يس أن الشعر شيء يعلم مثل أشياء أخرى ولكن ليس للرسول،لأن ما أنزل على الرسول وماأوحي به إليه إنما هو نوع آخر من القول هو القرآن وليس الشعر,وإذا أخذنا ما ذكرناه في بداية الكلام عن الشعر بوصفه علما وفطنة وادراكا في الحسبان ادركنا حرص القرآن الكريم على التفريق بين الشعر والقرآن ونفى الشعر عن الرسول الكريم فالقرآن وحي إلهي من وحي القلم الإلهي،والشعر علم بشري قد"يعلمه"الله بعضا من عباده على نحو من الأنحاء،ويتعلمه إنسان من إنسان،ولكنه(أي الشعر)قد"يختلط"بدنيوية الشعراء وبشريتهم ، فيحمل منهم محاسنهم ومساوئهم على السواء,ولسنا هنا بصدد مناقشة قضيةالإسلام والشعر على نحو مفصل ولكننا أردنا فحسب أن نتأمل في مفهوم الشعر عند العرب وعلاقته بمفهوم التعلم في مقابل الفكرة اليونانية عن الشعر والتعلم.
|