يتذكر العالم موقف انقرة عندما كان عبدالله أوجلان طليقاً خارج الأراضي التركية، الذي تعهدت بموجبه بتبديل نظامها الدستوري لتلغي عقوبة الاعدام في مقابل مساعدة الدول التي يلجأ إليها في تسليمه للسلطات التركية حاولت تركيا اقناع الدنيا بصدق توجهها الدستوري من خلال اعلانها بأن عقوبة الاعدام معطلة لان القضاة لم يصدروا الحكم بها لمدة تلامس العشرين سنة غير ان هذه الخدعة لم تقع في حبائلها روما، فطلبت من عبدالله أوجلان مغادرة ايطاليا حتى لا تقع في إثم تسليم اللاجئين السياسيين إلى اوطانهم التي تطاردهم وذلك بعد ان فقدت القدرة على مقاومة الضغط الدولي عليها الذي تقوده امريكا التي رفضت احترام احكام القانون الدولي العام التي تحرّم بصورة مطلقة تسليم الفارين السياسيين تحت كل الظروف والضغوط على اساس ان الجرم السياسي ينتج عن عمل عام مشروع في داخل الوطن بين السلطة الحاكمة والمعارضة القائمة ضدها، فإن اختلت موازين الحماية للمعارضة بتسلط السلطة على القوانين حق لرجال المعارضة الفرار إلى دولة اخرى طلبا للحماية من جور رجال السلطة في بلادها.
بعد القاء القبض على عبدالله اوجلان عند لحظة خروجه من مبنى السفارة اليونانية في نيروبي العاصمة الكينية تبدلت معالم الوجه الحضاري لتركيا بعد نزع قناع الخداع عنه ليظهر الوجه الهمجي الذي يطالب باعدام الزعيم الكردي عبدالله اوجلان اقتصاصا من الجرائم التي ارتكبها بأعماله الارهابية ضد المواطنين الاتراك.
هذه التهمة التي يحاكم عليها اليوم عبدالله اوجلان امام هيئة قضائية احد قضاتها من العسكر اصحاب الصولجان في تركيا يعطي الانطباع عند العالم بأن الرجل يحاكم امام محكمة عسكرية وليس امام محكمة مدنية لان القاضيين المدنيين هما لمجرد الزينة القضائية بدليل ان الحكومة التركية رفضت بصورة قاطعة استبدال القاضي العسكري بقاضٍ مدني بهدف ابعاد الريبة الدولية من الحكم الجائر الذي سينزل على الزعيم الكردي وخصوصا ان التقارير تؤكد بأنه لاقى سوء العذاب طوال الاشهر الماضية في داخل سجن امرالي.
هذه الحقائق جعلت محكمة حقوق الانسان الاوروبية تعلن عن عدم ثقتها في محكمة امن الدولة التركية لان تركيبها العسكري يجعلها غير مستقلة ومنحازة إلى الرأي العسكري الذي يطالب باعدامه، وأخذ الجيش يمارس نفوذه في تكوين الرأي العام الذي ظهر بوضوح من الملصقات على جدران الشوارع في المدن التركية التي تصف عبدالله اوجلان بقاتل الاطفال ومن عناوين الصحف في صدر الصفحات الاولى التي تطالب بتصفية الحساب مع عبدالله اوجلان باعتباره ارهابيا قتل الناس بدون ذنب ومرتكبا للخيانة العظمى في حق الوطن التركي، وهذا الاتجاه في الرأي العام التركي يثبت لنا النية المبيتة عند المحكمة العسكرية بتشكيلها المدني لاصدار حكم باعدامه دون اي حق في الاستئناف لانه صادر عن محكمة امن الدولة اعلى هيئة قضائية في تركيا.
صحيح ان موقف محكمة حقوق الانسان الاوروبية تحاول برأيها عن عدم نزاهة محكمة امن الدولة التركية ان ترفع امام العالم الحق المسبق في الاستئناف للحكم الذي سيصدر ضد عبدالله اوجلان ولكن من الصحيح ايضا ان هذه المحاولة تدور داخل اطر الضمير العالمي الذي لا يمتلك القدرة على تنفيذ ارادته لاصطدامه بالسيادة التركية في داخل اراضيها.
سوء استخدام تركيا لسيادتها جعلها ترفض حضور مراقبين دوليين في قاعة المحكمة وفسرت هذا الموقف بأنه تدخل سافر في شؤونها الداخلية الخاصة جدا الذي استندت اليه ايضا في رفض طلب محامي الدفاع بتأجيل المحاكمة لتحضير مرافعاتهم من خلال جمع المزيد من المعلومات عن قضية عبدالله اوجلان.
واضح ان العسكر الذين يسيطرون على السلطة في تركيا يرغبون في استباق الزمن لاصدار الحكم باعدام عبدالله اوجلان قبل ان يتمكن بولنت اجاويد رئيس الوزراء التركية المكلف بادخال التعديلات الدستورية التي تلغي حكم الاعدام الذي تعهدت به تركيا امام محكمة حقوق الانسان الاوروبية قبل القاء القبض على الزعيم الكردي فوق ارض كينيا ونقله مخفورا إلى تركيا.
لا نستطيع ان ننكر ما يرفعه ابناء الجالية الكردية التركية الذين يعيشون في المنفى بعيدا عن وطنهم ان بولنت اجاويد تعمد تأجيل الاصلاحات الدستورية التي تعهدت بها بلاده لان بقاءه في موقعه بالسلطة في أنقرة مرتبط برضا العسكر، فإن فقد هذا الرضا قام الجيش بنزع الحكم منه وتقديمه هو الآخر إلى المحاكمة امام محكمة امن الدولة بتهم ملفقة لا تخرجه فقط من منصبه وانما تقضي ايضا على مستقبله السياسي.
وجود النفوذ القوي للعسكر في البنيان الرسمي لتركيا بتطلعاته في اصدار الحكم باعدام عبدالله اوجلان يفقد انقرة مصداقيتها في العدالة التي اخذت تتحدث عنها امام العالم دون ان تعبأ بدلالات العدالة الحقيقية بمفهومها الانساني القائم على مراعاة الحق تحت مظلة قانونية تساوي بين الناس جميعا استناداً إلى المبدأ القانوني الذي يقرر أن الناس سواسية امام القانون مما يجعله فوق الجميع بدون استثناء.
غياب العدالة في تركيا مرتبط بغياب الديمقراطية على الرغم من قيام مؤسساتها التي تعطي الانطباع الخاطئ بوجودها الملغي لعدم فعاليتها وتأثيرها على الحياة العامة، وهذا ما جعل الوحدة الاوروبية تنبذ في كل مراحل تكوينها تركيا وتمنع عضويتها في اوروبا على الرغم من جمع اقليمها بين آسيا وأوروبا، وسعيها الحثيث لاكتساب الانتماء إلى أوروبا.
غياب العدالة والديمقراطية في تركية بسبب تعطل ادواتهما واستبدالهما بقوة العسكر الديكتاتورية يجعل العالم امام وضع خطير مع انقرة التي تفرض الظلم على الناس بقوة السلاح الذي تجلت صورته من اساليب المحاكمة الصورية للزعيم الكردي عبدالله اوجلان لاعدامه تحت مظلة قانونية زائفة لانه في واقع الامر لم يقتل الناس تأبط شراً ولم يخن وطنه، وانما هي تهم لفقها له العسكر المتسلطين على الحكم في بلاده الذين لا يقرون خصوصية الاكراد في داخل الوطن التركي، ورفضوا في الماضي الحوار مع عبدالله اوجلان لتسوية وضع الاكراد في جنوب شرق الاناضول، ودفعوه إلى القتال مع انقرة في مرحلة لاحقة لاثبات حق الاكراد على ارضهم في داخل اطار الوطن التركي.
هذه الحقيقة تجعل الماثل امام محكمة امن الدولة التركية قضية الاكراد ممثلة في شخص زعيمها عبدالله اوجلان، والمطالبة باعدامه من قبل العسكر بحكم قضائي يستهدف القضاء على قضية الاكراد في داخل تركيا التي ترفض مجرد الاعتراف بوجود مشكلة كردية في داخل أراضيها.
لست في حاجة إلى تذكيركم بما توصل إليه فقهاء القانون الدولي العام من رأي يلغي دور الاعتراف بنشوء الدولة، ليكون فقط مقرا بوجودها كأمر واقع قائم، فإن جاء الاعتراف او لم يأت بالدولة فإن ذلك لا يلغي وجودها ان كان قائما، ولا يثبت وجودها ان لم يكن متحققا فوق ارض الواقع.
الأخذ بهذا المنطق القانوني الدولي العام لا يلغي الوجود الكردي في داخل ارض تركيا إذا لم تعترف به أنقرة لانه امر واقع ثابت رغم انفها، وطالما ان عسكر تركيا يريدون باعدام عبدالله اوجلان القضاء على وجود ما هو قائم للاكراد في تركيا من خصوصية المحتد والارض التي يتجسد عليها الوجود الكردي، فإن هذا الحكم لو صدر لثار الاكراد على حكومة انقرة بعنف قد يؤدي إلى ادخال البلاد في حرب اهلية يكون اثم قتل الناس رجالا ونساءً شيوخاً وأطفالا على الحكومة التركية المتسلطة وليس على الاكراد المناضلين.
ان هذه العقلية العسكرية التركية في معالجة القضايا بنكران الحقوق الثابتة للاكراد تعطينا المؤشر للدور الذي يمكن ان يلعبه العسكر الاتراك من مواقعهم في السلطة ضد الحقوق العربية تحت مظلة الحلف العسكري الذي يربطهم مع إسرائيل وخصوصا ان لأنقرة عداءات قديمة ومستمرة ولتل أبيب عداءات ثابتة ومتواصلة ضد العرب.
ان الصورة كما نراها بأبعادها المختلفة من مساقط الرؤية المتعددة لما يحدث اليوم في تركيا من محاكمة صورية للزعيم عبدالله اوجلان تتطلب تحرك عربي مشترك يسعى إلى توفير ركائز الامن الاقليمي لحماية النفس من التسلط الاسرائيلي على حقوق العرب بدعم ومؤازرة حليفتها تركيا التي لا تزال تصفهم بعرب خيانات بسبب وقوفهم ضد الدولة العلية العثمانية في الحرب العالمية الاولى ليخلصوا أنفسهم من جور حكم الباب العالي الذي انتهج في آخر أيامه تحت مظلة حزب الاتحاد والترقي سياسة التتريك للعرب وهو ما تحاول أن تفرضه اليوم تركيا من سياسة التتريك للاكراد الذين يعيشون في داخل السيادة التركية التي تتحكم في ارضهم شرق جنوب الاناضول.
أريد أن أقول لعسكر تركيا في الحكم ان اقتسام ارض الاكراد مع غيرها من الدول لا يعطيها الحق في الغاء هويتها بالتتريك، وأذكرها بالنهضة العربية ضد الخلافة في الاستانة بسبب أدوار المثقفين الاتراك من اعضاء حزب الاتحاد والترقي في تتريك العرب، وأطالب العالم بالوقوف ضد تتريك الاكراد لحماية الاقليم من حرب اهلية تزعزع موازين التوازن الدولية.
|