من أرض الشقاء نبتت,, ومن نبع الأحزان رويت,, فتاة صغيرة لا يتجاوز عمرها سنة واحدة,, ملقاة بين أحضان امرأة غريبة عليها.
كانت الفتاة الصغيرة سوداء الشعر,, سوداء العينين في حين أن حاضنتها كانت متوهجة الشعر زرقاء العينين,كانت عربية الدم,, مسلمة الروح,, في حين أن حاضنتها يسرى في عروقها دم أزرق وتدين بالمسيحية,.
عندما كبرت,, كانت تستغرب الوضع حولها,, كل ما يحيط بها غريب كانت ترى أشياء لا تعتقد أنها تمت إليها بأي صلة,, سوى شخصين من أبناء جلدتها كانت تناديهما أمي وأبي ولكن لماذا تناديهما هكذا؟! هذا ما لا تعرف!!
ألقت ظروف دراسة الأم والأب بهذه العائلة الصغيرة في دولة من دول - الحضارة والتقدم -! وكانت الضحية هذه الطفلة الشقية,, كانت تجلس دائما مع صفراء الشعر تلك لدرجة اعتقدت معها أنها أمها,, يا للطفلة المسكينة, تعيش في دوامة يستعصي على عقلها الصغير حلها.
وعندما بلغت سن الدراسة,, أرسلتها تلك التي تسمى والدتها إلى بلدها الأصلي كي تدرس,, أبعدتها عن أحضانها عنوة أو بالأحرى عن أحضان تلك المربية لأن أمها لم تحضنها أصلا,!!!
وبعد أربعة عشر عاما قضتها الفتاة مع جدتها في بلدها ذاقت بها بالفعل طعم الأبوة والأمومة الحقيقي,, تعود الأم المغتربة لتضع يدها على عاتق الشابة ذات العشرين خريفا وتقول لها بوجه من البلاستيك,, أنا أمك يا حبيبتي,,!
صرخت الفتاة من أعماقها,, بعد ماذا؟ بعدما تركتني أصارع همومي وأمضغ آلامي وأحزاني في أصعب مراحل عمري؟! بعدما أنهكت عقلي الصغير في محاولة فهم برودك ولا مبالاتك؟!
بعد ماذا يا من تسمين نفسك والدتي؟ بعد أن خنقت بيدك كل شيء جميل في حياتي وحولت اخضرار قلبي الفطري إلى يبس أصفر؟!
صدقي,, تلك السنوات التي قضيتها تتعلمين في الخارج لم تفدك بأي شيء، لأنها لم تعلمك أول دروس الحياة,, لم تعلمك كيف هي الأمومة,, لم تعلمك أن الأم الحقيقية جمرة من المشاعر والأحاسيس وليست تلك المرأة التي تشبه الأفعى, تنجب أطفالا وتتركهم من بعدها يواجهون مصيرهم وقد تكون الأفعى أرق قلبا وأحن عاطفة,,ليست تلك التي تنجب طفلا فتتركه من بعدها يصارع الشقاء وحتى الآن ما زال قلب الفتاة مغلقا في وجه أمها,, وقد علّق على بابه لافتة تقول:آسفة أمي,, لا أستطيع أن أحبك,,!
البندري يوسف الوتيد
***
** لو أن الصديقة البندري الوتيد بدأت الحكاية من اللحظة التي واجهت فيها البنت أمها بما يشبه اللافتة المعلقة على باب القلب لتقول: آسفة أمي لا استطيع أن أحبك لأصبح العمل قصة قصيرة ناضجة وجميلة,, إن جملة كهذه تصدم القارىء وتشده إلى متابعة العمل حتى نهايته، لكن الأهم من ذلك أنها تعالج مشكلة الزمن الفني، هي تمثل اختيارا لأشد اللحظات حدة وتوترا لتبدأ منها، ثم لتروي لنا بعد ذلك الحكاية في ارتداد خلفي كيفما تشاء,, لكن البندري الوتيد قدمت لنا حدوتة حكائية، بدأتها بطفلة صغيرة لا تدرك شيئا من حولها، وبالتالي تولت عنها رواية الحكاية وتصل بالبنت إلى أن تكبر وتلتحق بالدراسة,,, إلخ، سنوات طويلة بترتيب زمني عادي لا تتسع له مساحة القصة القصيرة التي ينبغي أن تكون ومضة خاطفة,, وتواجه البندري مشكلتها الكبرى عندما تضطر إلى صياغة الدرس الاخلاقي في القصة، ليس من الطبيعي أن يأتي هذا الدرس على لسان الأم التي أهملت صغيرتها مغلبة إيثار الذات على إثرة الصغيرة وبالتالي تضطر البندري إلى توجيه ذلك الدرس على لسان الابنة, لنعد قراءة القصة ونرى كيف أن فتاة صغيرة، طفلة لم تنضج بعد، تواجه أماً أكملت دراستها وسافرت من أجل دراسة عليا وتلقى عليها محاضرة في واجب الأمومة وفي الالتزامات الأخلاقية للأم، وبوعي اكبر من وعي الأم، ليس هذا غريبا؟ وإنما ورّط البندري في هذا التناقض أمران، أولهما اعتمادها على أسلوب رواية الأحداث، حيث نهضت الكاتبة نفسها بهذا الدور وبالتالي فهي تكتب بوعيها هي كراوية لا بوعي الطفلة الذي لم يكتمل يقينا، والثاني التزامها بالتسلسل الطبيعي للزمن واضطرارها أن تبدأ بالطفلة وبالتالي كان من الصعب أن تتركها وتتحول إلى شخصية أخرى، وعندما جاء موقع الدرس كانت ما تزال ملتزمة بحكاية قصة الصغيرة فكلفتها بهذا الدرس,البندري الوتيد لها تجارب أخرى وسبق أن نشرنا لها بعضها أشد إحكاما من هذه التجربة، بل لسوء الحظ أنها وضعت لهذه القصة عنوانا على قياس قصة جيدة سابقة نشرناها لها أنانية زوج,, وأنين زوجة وهي مسألة نؤكد على التنبيه إليها فليس يعجز من يكتب قصة أو يحاول الكتابة أن يختار لها عنوانا خاصاً,, مع ذلك نتوقع من صديقة الصفحة البندري أعمالا أخرى وليس لدينا شك في أن أفضل أعمالها ما تزال هي القادمة إن شاء الله.