Friday 21st May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الجمعة 6 صفر


الرجل الألف
الحدث ودلالته وكيف نحفظه ,,؟

عاش العالم الاسلامي وفي مقدمته المجتمع السعودي الأيام الماضية حدثاً اهتزت له مشاعرهم وتحركت عواطفهم بصورة تذكرنا معه ما سبق ان قرأناه في مدوناتنا التاريخية عن مشاهد الجنائز للأئمة الاعلام امثال امام السنة احمد بن حنبل، وشيخ الاسلام ابن تيمية، وأمثالهم رحمهم الله.
لقد كان نبأ وفاة امام عصره، ناصر السنة وقامع البدعة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله حدثاً جللاً، ومصاباً فادحاً حزنت له القلوب وبكت عليه العيون، وهرع الناس يلتمسون وسيلة تمكنهم من المشاركة في الصلاة عليه وتشييع جنازته وعند مكاتب الخطوط السعودية - الخبر اليقين - هذا فضلاً عن الذين استقلوا مراكبهم قاصدين البيت العتيق حيث يصلى على الشيخ الفقيد ويدفن.
وزاد من حضور الشيخ وابرازه اعلامياً حضور المسؤولين في الدولة وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين وولي العهد, والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وعدد من مسؤولي الدولة وجمع من رؤساء الهيئات والمنظمات الاسلامية والعالمية, وهنا اورد عدداً من الاسئلة وأحاول الاجابة عليها.
ترى ما اصل هذه المحبة للشيخ؟ وما اسباب توافد هذه الجموع؟ وما دلالة هذا الحدث العظيم؟ وكيف يحافظ على هذا الرصيد الاسلامي ويستثمر؟ انها اسئلة تفرض نفسها ويفرضها الواقع المشاهد ولئن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة فنعتقد ان شيخنا (الراحل) ممن يستثنى من هذه القاعدة وهو اقرب الى مقولة الرجل الراشد لصوت القعقاع في الجيش خير من الف والى نظم الشاعر حين قال:
وواحد كالالف ان أمر عنى
إن اساس هذه المحبة للشيخ الراحل رحمه الله شعور فياض صادق نبعه توفر عدد من السجايا والمناقب تميز بها الشيخ,, وضاعفت من محبيه، فأهل العلم والمعنيون بدقائق مسائله يحبون الشيخ ويشعرون بفقده بل وبذهاب وعاء من اوعيته، وأهل الدعوة يدركون دوره الفاعل في الدعوة الى الله، ويحزنون لفراقه لان مسؤوليتها ستتضاعف عليهم وحصة الشيخ منها ستوزع عليهم، واهل الحاجات وارباب المشكلات يؤلمهم ان يذهب القاضي لحوائجهم والمهتم بحل مشكلاتهم، اما الغرباء وذوو الأقليات المسلمة فيحسون بالفراغ الكبير الذي سيتركه لمزيد اهتمامه بقضاياهم ودعمهم ومساندتهم ويحس بلوعة الفراق وعظيم الحزن أهل الحسبة ورجال الهيئات الذين يفزعون للشيخ كلما ظهر منكر او اوشكت فتنة ان تطل برأسها، فيرون من الشيخ اهتماما بها ويجدون منه خطوات عملية لدفعها والانكار على اصحابها, كما يشعر بمرارة فقد الشيخ رحمه الله، عامة الناس رجالهم ونساؤهم شيبهم وشبانهم الذين اعتادوا السماع لفتاواه المقنعة ونصائحه الصادقة المستمرة وينضم الى هذه الشريحة من المجتمع شريحة أخرى، قد تختلف في نمط تفكيرها وقد لا تعنى - كثيراً - بالمناقب السابقة- رغم اهميتها - لكنها ترى في الشيخ نموذجاً لهدي الاسلام في حسن الخلق، وكرم الضيافة، وسلامة الصدر وسعة الأفق، والحرص على تقديم النفع للآخرين,, الى غير ذلك من اخلاق كانت تلازم الشيخ وتوسع دائرة محبيه والمتأثرين لرحيله.
هذا فضلاً عن مؤلف كان يراجع الشيخ فيما ألف، او رجل او امرأة حصينين لا يعرفان الشيخ الا باسمه وليس للشيخ عليهم فضل في ذوات انفسهم لكنهم يدركون انهم من جملة المستفيدين - بشكل عام - من بقاء الشيخ وجهاده فقد يكون وراء معروف او خير انتشر في البلاد، وقد يكون سبباً لدفع مكروه او سوء سيستطير شرره وتعم الفتنة به لو لم يكن للشيخ وأمثاله جهد مع المسؤولين في ايقافه والانكار على المتلبسين به.
انها مجموعة من الخلال والخصال الحميدة شاء الله ان تجتمع في الشيخ وقد يعجز عن القيام بها كلها الفئام من الناس، وهذه وتلك شكلت جمهوراً كبيراً من محبيه والمتأثرين لفقده.
وهنا يرد سؤال أذلك الفضل من الله اجتمع للشيخ لفصاحة لسانه؟ فنحن نعلم ان ثمة من هو أفصح منه لساناً، لكنه كان أقل من الشيخ الراحل جرأة وبياناً للحق، أم ذلك كان لقوة جسدية امتاز بها الشيخ عن غيره، فالكل يدرك نحالة جسم الشيخ وضعفه، ولكنها همة القلب لا تملك الجوارح الا الاستجابة لها ولو كان على حساب راحتها ونحولها.
وحين يستمتع عدد منا بالبصر ليرى الأشياء على حقيقتها فقد انطفأ نور عيني الشيخ ظاهراً، لكنهما ابصرتا بنور الله ما لم يره المبصرون وصدق الله فانها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
وأمر رابع هل كان الشيخ رحمه الله فارغاً من المسؤوليات والمهام بحيث يمكن للقاعدين ان يقولوا: لو تفرغنا كما تفرغ الشيخ لعملنا مثل او اعظم مما عمل؟ اننا نعلم جميعاً ان الشيخ ذو المهام والمرشح لعدد من المناصب والمسؤول عن عدد من الهيئات والمدعو لعدد من الاجتماعات الخ القائمة في التكاليف وهي لا تخفى.
اذن فالأمر حسن استثمار للوقت بل فن في ادارة الوقت وهو من جانب آخر استشعار لحقيقة هذه الحياة، وشعور واع بقيمة الزمن، والمسارعة الى الخيرات وعمل بقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وقوله وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله .
ان من دلالات ونتائج تأثر الناس - على كافة طبقاتهم - لموت الشيخ رحمه الله ما يلي:
1 - اثر الخطاب الشرعي وتأثيره على فئات المجتمع وقد عبروا عن تأثرهم يوم جاء نبأ الوفاة وفي الصلاة وتشييع الجنازة.
2 - ان بإمكان البشر لا سيما العلماء والدعاة ان يشكلوا من انفسهم طاقة تتفجر هنا، وتفيض بخيريتها هناك لكن زاد ذلك الصبر وعلو الهمة والطمع في الأجر واستثمار الوقت والاستعانة بالله وسؤاله التوفيق والتسديد.
3 - يعجز اصحاب المناهج الارضية والملل والنحل والأهواء الفاسدة ان تجتمع القلوب عليهم بمثل هذه الكثرة والتنوع والشمولية، وقد يكون لبعضهم حضور في حياته -يقل او يكثر - (ولكن الموعد يوم الجنائز).
4 - قد يخيل الينا - أحياناً - ان الطريق لكسب الناس مجاراتهم ومداهنتهم والواقع يشهد ان التجرد للحق والنصح للخلق وعدم المداهنة في دين الله طريق مأثور لرضى الناس وكسب مودتهم وأعلى من ذلك انه الطريق لرضا الله ومحبته فمن ارضى الناس بسخط الله سخط الله عليه واسخط عليه الناس ومن ارضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس .
5 - ان في قلوب الناس وعقولهم مكاناً واسعاً لاستقبال الخير، وتقدير رجالات العلم والدعوة، يظهر ذلك في محيط العالم الاسلامي - بشكل عام - وتظهر بوادره اكثر في بلاد الحرمين على وجه الخصوص وتلك قضية ينبغي ان يقدرها الخيرون حق قدرها ويستثمروها امثل استثمار.
اكتفي بهذه الدلالات الخمس لأتيح الفرصة لتفكير الآخرين في سواها.
وانتقل بعد ذلك لكيفية المحافظة على هذا الرصيد واستثماره.
1 - فقد يفكر المسؤولون وغيرهم بايجاد وقف خيري يصرف ريعه على الدعوة والدعاة في الخارج ويكون باسم الشيخ ومن حسناته، وقد تعمر مساجد او تبنى قاعات للعلم والدعوة او نحوها، تحمل اسم الشيخ وتستمر لتحقيق منهجه وتبقي اثره.
2 - ومع اهمية هذه فأهم منها الاستمرار على اهتمامات الشيخ ومنهجه والمحافظة على السمت وتشجيع المعروف وانكار المنكر الذي صرف له جل وقته وانتقل الى خالقه وهو يمارسه ويوصي بالعناية به.
3 - واذكر العلماء والدعاة وطلبة العلم ورجال الحسبة واصحاب الجمعيات الخيرية وسواهم ان يتنادوا لملء الفراغ الذي تركه الشيخ في كافة المجالات وفيهم مؤهلون للفتيا، وآخرون للدعوة، وفئة للاحتساب ورابعة لقضايا العالم الاسلامي واقلياته ومستضعفيه، وخامسة لنشر العلم وتحرير مسائله، وسادسة لنصرة اهل السنة والتحذير من اهل البدع والتغريب والعلمنة,, وهكذا من مهام الشيخ وإرثه الذي تركه وان امكن ان يقوم بها فرد او عدة افراد فذلك المرجى، والا فلتقسّم هذه التركة الثرية وليأخذ كل بنصيبه ورحم الأمة ولود لم يعقم واذا مات منا سيد قام سيد، والرجال تعرف بالحق، ولا ينبغي التعلق بالاشخاص.
4 - هل تقوم هيئة اسلامية كالشؤون الاسلامية او الرابطة او الندوة العلمية او غيرها بطباعة كتب الشيخ ورسائله وفتاواه بأكثر من لغة وتوزع في انحاء العالم الاسلامي وكذلك الامر بالنسبة لاشرطته وفي ذلك استدامة لذكره ونشر علمه وبلادنا والحمدلله مشهورة ولها جهود في نشر الخير والعلم والدعوة في العالم.
5 - اما العامة وشريحة الشباب (من الجنسين) فإن البرهان على محبتهم للشيخ التعرف على صفاته ومناقبه الاسلامية وقراءة كتبه ورسائله والسماع لأشرطته وفتاواه والدعاء له والتطلع للسير على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته من العلماء واستثمار الوقت وعلو الهمة وبناء الذات في العلم والعبادة والدعوة ونفع الخلق كل ذلك مع اعتماد الاخلاص وحسن المتابعة والبعد عن الغلو في الصالحين، فذلك اول انحراف كان في البشر، وليس يخفى ان اساس قبول العمل توفر الاخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعباده ربه احدا .
رحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته اللهم ارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وعوض المسلمين عن الشيخ خيراً.
وعزاؤنا بفقد الشيخ وجود عدد من العلماء والدعاة وطلبة العلم في هذه البلاد المباركة - وفي غيرها - سيحملون رايته ويسيرون على منهجه اللهم وفقهم وسددهم وأعنهم وبارك في جهودهم.
د, سليمان بن حمد العودة *
* الأستاذ المشارك بفرع جامعة الإمام بالقصيم .

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
جبل الدعوة الى رحمة الله
المتابعة
أفاق اسلامية
عزيزتي
المزهرية
الرياضية
شرفات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved