** يمثل ظهور هذا العدد الهائل من الفضائيات العربية قنوات تواصل بين البلدان العربية، تجعل من السهل معرفة سكان كل قطر بدقائق عادات، وتقاليد بقية الاقطار.
ومن حق المشاهد العربي ازاء التزايد المطرد لهذه القنوات ان يتساءل: هل ثمة وجود للتحديات التي تعيشها الامة على هذه الفضائيات؟ فإن كانت الاجابة نعم, فإن عليها ان تنتصب في وجه هذه التحديات كالجبال الشوامخ، وان تجد في السعي لوحدة الامة العربية.
ومن اولى الخطوات التي ينبغي ان تبذلها الفضائيات العربية لتحقيق هذا الهدف توحيد لغة خطابها الاعلامي كخطوة نحو وجود لغة موحدة، لتتحدث بها الشعوب العربية من المحيط الى الخليج، فلا يخفى على احد ان اللهجات العامية ليست مفهومة في كل زمن - فهي تتغير بتغير الزمان - ولا في كل قطر، فهي تختلف من اقليم لآخر في الدولة الواحدة.
وفي رأيي ان توحيد لغة الاعمال الدرامية - كالفيلم، والمسلسل، والمسرحية التي تحتل مساحات كبيرة من ساعات البث - من ادل اسباب توحيد اللغة، وتقريب المعجم اللغوي لكل الطبقات.
يقول الرافعي في الجزء الثالث من وحي القلم: لن يتحول الشعب اول ما يتحول إلا من لغتة، إذ يكون منشأ التحول من افكاره، وعواطفه، وأماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته محفوظة في التاريخ لا صورة محققة في وجوده، فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر، حتى ان ابناء الاب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشيء على لغة، ونشأ الثاني على لغة اخرى، والثالث على لغة ثالثة لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.
وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وادبار ومن هنا يفرض الاجنبي المستعمر لغته فرضا على الامة المستعمرة ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستخلفهم من ناحيتها، فيحكم عليهم احكاما ثلاثة في عمل واحد أما الاول فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا, وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا أو نسيانا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الاغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
وان اصلح أداة لرسم الشخصية في اي عمل درامي، وتوضيح ملامحها النفسية، وتميزها عن غيرها من الشخصيات هي اللغة المحايدة، اي اللغة التي ليست لها صبغة محلية صارخة، واللغة الفصيحة الميسرة هي تلك اللغة المحايدة التي يستطيع الكاتب القدير ان يتصرف فيها، ويخلق منها ألوانا متنوعة من التعبير تناسب الشخصيات المتنوعة التي يرسمها.
وقد سبق لتوفيق الحكيم ان كتب مسرحية الزمار بالعامية، وكتب مسرحية أغنية الموت بالفصحى، فكانت النتيجة ان استخدام الفصحى في الثانية جعلها مقبولة في القراءة، ولكن تمثيلها يستلزم تحويلها من الفصحى إلى العامية، والعكس مع الاولى، فكان لابد له من تجربة ثالثة لايجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى، وفي نفس الوقت مما يمكن ان ينطقه الاشخاص، ولا ينافي طبائعهم ولا أجواء حياتهم، لغة سليمة يفهمها كل جيل، وكل قطر، وكل اقليم.
فكتب مسرحية، الصفقة في لغة فصيحة ميسرة، قد تبدو لقارئها للوهلة الاولى انها مكتوبة بالعامية ولكنه إذا اعاد قراءتها طبقا لقواعد الفصحى فإنه يجدها منطقية، على قدر الامكان، وقد اتفق لعلي أحمد باكثير ان جرى على هذا النهج في مسرحية مسمار جحا فأتت ناجحة، وموفقة إلى حد كبير.
فإذا نجحت الفضائيات العربية في تطبيق هذه الطريقة فسيكون ذلك خدمة للغة العربية، وتشكيل المعاجم اللغوية لدى الجماهير تشكيلا صحيحا، وكذلك التقريب بين الشعوب العربية بتوحيد اداة التفاهم قدر الامكان، دون المساس بضرورات الفن.
علي محمد الغريب