Tuesday 18th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الثلاثاء 3 صفر


قصة قصيرة
نافذة الدار

في الحي القديم,, كانت ابواب الدور لا تغلق معظم النهار, وجزء من اول الليل,, واذا ما خرج رب الدار وليس فيها احد فانه كان يعمد الى دفن مفتاح الباب بجوار الباب تحت حفنة من التراب , ليجده هناك حينما يعود كما تركه في موضعه.
وهناك في القرية النائية,, وحيث موطن (العمة) يرحمها الله ,, كانت ابواب الدور ايضا لا تغلق معظم النهار,, وكان يكتفي آنذاك بوضع (الستارة) على مدخل الدار, التي كانت نساء الدار يقمن بخياطتها,, لتظل معلقة هناك تروح وتجيء كلما تحرك الهواء,, كغيرها من قشاش الدار الآخر الذي تسمع له بين الحين والآخر وهو يتدحرج هناك بجانب الدار صوتا يشجيك لحنه على بساطته ,, فلا تتمالك نفسك عندها من الاغفاءة على ذلك اللحن,, وتحت لفح الهجير في (القيلولة) الذي تنشره (الستارة) بالمدخل,, حيث كان جدي - يرحمه الله - ينام هناك كعادة اهل القرية في ذلك الزمن,, وان كان من ذكائه - على ما حدثتني الوالدة - ينام معترضا في المدخل حتى يحس بالداخل الى الدار, فيفيق عندها وقد فتح احدى عينيه ينظر من حوله, وليتمتم مع الداخل بكليمات غير مفهومة ثم يعود من وقته فيغط في نومه.
فقد كانت الحياة في القرية تختلف عنها في هذا الوقت, بحيث يستطيع (جدي) ان ينام على تلك الكيفية وفي ذلك الجو الدافىء وعلى وجه السرعة.
وفي الدار الخلاء الساكنة,,, القائمة هناك بين دور القرية على مدى الزمن وتقادم الدهر,, حيث كانت (العمة) - يرحمها الله - تقطن تلك الدار, وقد انست بالدار وانست بها الدار ومن في الجوار,.
وفي اقصى الدار وبجانبها الذي لا تباشره الانظار هناك كانت ثمة (طاقة) مشرعة ليس لها باب,, بين دار (العمة) وجارتها(ام الريحان) التي عاشت واياها بالجوار ردحا من الدهر في خير جوار ,, وتستوقفني طويلا تلك النافذة واظل اتعجب لوجودها بين هاتين الدارين ,, انها نافذة كغيرها من نوافذ الدار الاخرى,, فما السر اذاً الذي جعلني اتوقف عندها طويلا ,, ولماذا استحوذت على كل هذا الاهتمام مني,وتجيش ذكرى تلك النافذة وذكرى تلك الدار طيبة الذكر بتلك القرية الآمنة المطمئنة,, كلما رأيت بناء قديما من الطين قائما هناك بين اشجار النخيل المعمرة في (بساتين الرطب) ,, وان كان ذلك البناء مهجورا قد تداعت اجزاء من جوانبه وذهبت بعض من لبناته المتساقطة لتتلاحم مرة اخرى مع الارض من حوله,, فانه مع كل ذلك لا يزال محتفظا بجاذبيته يشع سحر جماله مع اشعاعه شمس الصباح.
تجيش ذكراه وذكرى تلك (الطاقة) التي اطلعتني (الوالدة) انذاك على سر وجودها بين الدارين,, وعرفت عندها انها بنيت هناك لتقف (العمة) عندها وهي تنادي على جارتها (ام الريحان) ولتتبادل معها بين الحين والاخر شيئا من وجبات الطعام الساخنة, التي كانت تملأ في ذلك الحين جوانب الدار بطيب رائحتها المميزة,, والتي عادت مرة اخرى للظهور في ارقى المحلات بشوارع المدينة في هذا العصر,, فكانت تلك (النافذة) رمزا عظيما للكرم الذي كان سائدا في قرية (العمة).
وتجيش الذكرى و(العمة) هناك على باب دارها الذي كان لا يغلق معظم النهار, وقد وفد عليها بعض (الأعراب) قادمين من مجاهيل الصحراء والطرق,, وقد نال منهم الجوع والعطش,, يفدون عليها لما كانوا يجدون عندها من كرم الضيافة وحسن الجوار,, ولما يجدون عندها من الحكمة وملح الحديث فكانت تتبادل معهم الطرائف واخبار الديار على تباعدها,, وكانت وهي تقريهم (التمر واللبن) تقول (التمر واللبن صحة في البدن, فان كنت مكذبني فكل وجربني).
حسن بن سعيد الدوسري
***
** الصديق حسن الدوسري يغبط على كثرة انتاجه مثلما يغبط على ذاكرته التصويرية ، انه يسترجع المشاهد كما لو كان يتلو نصا مغيبا عن ظهر قلب، تلك الذاكرة التصويرية التي لا تسقط منها ادق التفاصيل سواء مما تراه العين او مما يمسك به الادراك من عادات وتقاليد حتى اننا نكاد نتصور ان احد الذين عاشوا تلك الفترة في تلك الاماكن لا يستطيع بعد ان تبدلت الحياة ان يستعيد ذكرياته لما عاشه بنفس قدرة الصديق حسن الدوسري الذي سمع فحسب.
الذاكرة التصويرية موهبة لا يتمتع بها الا قلة وهي ميزة تثري الكتابة بلاشك غير ان صديقنا حسن لا يستفيد منها فنيا!!
فالقصة عنده ليست قصة انها مجرد لوحة يحرص على ان تمتلىء مساحتها بالتفاصيل وبرغم اهمية هذه اللوحات او المشاهد في تقديم صورة اثيرة وعزيزة لحياة عاشها الاجداد بكل ما تنقله الينا من طيبتهم وبساطتهم وانفاسهم العاطرة، فانها تبقى قاصرة عن ان تكون قصصا قصيرة لافتقادها لاهم عناصر القص وفي مقدمتها (الحدث) فهنا في هذه اللوحة لاشيء يحدث لا احد يذهب او يجيء، لازمن يبدأ او ينتهي او يمر، مما يجعل المشهد مصورا كأنما بريشة رسام مهما اجتهد الكاتب ان يدفع فيه بأي نبض.
هذه ليست ملحوظة جديدة فكثيرا ما نبهنا الصديق حسن الى ذلك ولكنه لا يزال على اصراره رغم انه يملك ما لايملكه الآخرون.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
جبل الدعوة الى رحمة الله
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved