Sunday 16th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 1 صفر


من الفاجعة إلى التصرف

عندما أرى سماحة الشيخ الفقيد عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله في موقف او في مؤتمر او في لقاء مع قادة البلاد او رجالات العالم احس انني امام مخلوق بسيط متواضع يشع بجلال العلم وجمال الورع، وحين يتكلم لا يقول شيئا غريبا ولا قولا جديدا ولكنه ينفذ إلى اعماق قلبك، ويجري منك في كل شرايينك ويحملك على الاصغاء، ويترك اثره في اعماق مشاعرك، انه الصدق الاخلاص وقول الحق وصدق من قال: الآية هي الآية ولكن الشخص غير الشخص هذا الانسان يذكرني بعمرو بن عبيد الذي لا يطلب إلا صيد الآخرة كما يقول أحد الخلفاء.
لقد كف بصره فلم ير الدنيا ولم يحفل بمباهجها وأبصر قلبه فعبدالله كأنه يراه، وأخلص لدينه وأحب امته ونصح لولاة الامر فكان ملء سمع الدنيا وبصرها تتعقد المشاكل فيحلها بحلمه وعلمه، وتتأزم الامور فينفس كربتها بأناته وتبصره تحتدم المشاعر وتدلهم الامور فيأخذها باللين واليسر ونبل المقاصد وصدق العزائم، فيرضي كل الاطراف المتنازعة ويعود الناس إلى بيوتهم آمنين مطمئنين، بذل جهده ووقته للعلم: تعلماً وتعليما، وقضى على راحته نصحاً وتوفيقا واصلاحا بين الناس، صنع المجد والجاه والعز والتمكين من قلوب الناس ولم يرثه عن أب ولا عن جد.
وتلك مواقع كالارض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون، يسارع في الخيرات فكان ان كتب الله له الحب في نفوس الناس والذكر الجميل والله الغفور الرحيم مرجو ان يكتب له اجره مرتين:
أجر الدنيا بهذا الجاه والمكانة والتقدير والحب والذكر الجميل ونعيم الآخرة ليكون مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولماذا لا نطمع ان يدخله ربه مع القوم الصالحين وقد أجمع الناس على حبه وإجلاله والناس شهود الله في ارضه, والله عند حسن ظن عباده به.
لقد آمن بربه، وخاف من لقائه وعمل صالحا نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، والله المنعم المتفضل وعد الصالحين بقوله: (فلهم أجرهم عند ربهم) و(فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون) و(فلنحيينه حياة طيبة) و(فله جزاء الحسنى) و(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) ورحمة الله قريب من المحسنين وسماحته كان كذلك.
لقد بذل جهده ولم يخلد إلى الارض ولم يتبع هواه فكان ان رفعه الله مكاناً عليا وصدق الله (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) لقد كان رحمه الله ساعيا في حاجات الناس سعيدا بهذا السعي متمتعا به ولم يكن متصنعا ولا متعملا.
لقد فجع الناس بموته، وانتابهم شيء من الذعر والله غالب على امره، ودين الله باق والعلماء الورثة الناصحون باقون والخيرية باقية لاتزال طائفة من امتي على الحق وما علينا وقد نزعه الله من شغاف قلوبنا إلا ان نستلهم سيرته ونقتفي اثره ونتفحص اخلاقه فنأخذ منها ما نقدر عليه لنسد خلقه ونسعده في قبره (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) فهل نحن من اولئك الشراة ام سنظل بكائين, ان علينا ان نحمد الله ونشكره ولا نقول إلا ما يرضيه فله ما أخذ وله ما أبقى لقد وهب لهذه البلاد في ظروف عصيبة رجالا رعوا أمانتهم وعهدهم حق الرعاية وهذا العالم الجليل الذي كان مرجعا لولاة الامر في كثير من الامور جزء من رعاية الامانة والعهد، فهو من اهل الذكر الذين ندب الرجوع اليهم وسؤالهم وكان منذ عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله معلما وقاضيا وواعظا ومسؤولا لا على المستوى المحلي بل على المستوى الاسلامي لقد اجهش علماء الآفاق بالثناء عليه والدعاء له وذكر محاسنه وافضاله وأدواره في قضايا المسلمين وصراحته وصدعه بالحق وعطفه ولطفه ولينه ومراعاته لأحوال المسلمين وما اعتراهم من ضعف ووهن ومحن لقد كان فقيها واقعيا يعرف ما آل إليه امر العالم الاسلامي فلا يشط ولا يعنف ولا يثور تراه لينا هينا لطيفا يدعو بالهداية ولا يدعو بالعقوبة ويسأل الله ان يهدي ضال المؤمنين، قال عنه مفتي لبنان انه العالم المجاهد الذي قضى حياته في خدمة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي خدمة قضايا الامة العربية والاسلامية والحفاظ على حقوقها والتمسك بتعاليم الاسلام وقيمه السامية,
ووصفه زعيم حركة حماس بأنه عالم المرحلة، ووصفه شيخ الازهر بأداء الرسالة في خدمة دينه وأمته على الوجه الاكمل, وقال عنه مفتي سوريا انه كان ركنا صادقا في النصح وأداء المشورة لاهلها لا يرغب ولا يرهب هادفا الذود عن حياض الاسلام.
وهكذا تتدفق شهادات العلماء والقادة والمفكرين، وفي النعي الرسمي للمملكة تجلت فاجعة البلاد بتعبير قادتها عن فداحة المصاب انه بحق درع البلاد امام سهام الشبهات، رجل لا يهتم بأضواء المسؤولية ولا ببوارق الجاه ولا برنين المال، يقول كلمة الحق لا يخشى بذلك لومة لائم، اعتمدت الدولة عليه في كل المحافل الاسلامية وندبته لمواجهة الاعاصير واحتمت به امام موجات التغريب وسهام التبدلات السريعة وفقدت بفقده ركنا قويا حمالا من اركان الدولة وخفت ومن ورائها الامة للصلاة عليه والدعاء له وصلت عليه جموع المسلمين في كل انحاء المعمورة داعية مترحمة باكية شاكية إلى الله خلو موقعه القيادي في ظروف عصيبة.
إن املنا كبير في الصفوة الطيبة من علمائنا الاجلاء ان يكونوا خير خلف لخير سلف، وبلادنا والحمد لله مليئة بالكفاءات العلمية وبالرجال الصادقين الناصحين ولن ترتبك البلاد ولن يخور عزمها ولن يقل عطاؤها الدعوي بفقد علم من اعلام البلاد، إذا طل منا سيد قام سيد، ومحمد صلى الله عليه وسلم حين لحق بالرفيق الاعلى ارتبك الناس وهدد عمر ولما عاد أبوبكر اخذ الامور بالعزم والاناة والثقة وبلغ الناس بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارت الامور على يد خلفائه كما لو كان حيا, والله الذي تعهد بحفظ دينه وحمله إلى الاجيال الآتية قادر على ان يعوض البلاد من يسد الثغرة ويرث المسؤولية وما علينا إلا ان ننهض بالمهمات الجسام التي نهض بها الفقيد وتحملها بحزم وعزم وعلم وورع وكرم ولين وطيبة قلب.
اللهم اجبر مصابنا به واجعل في علمائنا وقادتنا الخلف الصالح والوريث المحسن، والدين باق والخطر على المتخاذلين والقانطين، رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته وجبر مصاب الامة به والهمنا الصبر والسلوان ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون .
د, حسن بن فهد الهويمل

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved