Sunday 16th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 1 صفر


أفق
تجربة إبراهيم الحسين,, تحولات المفردة الشعرية,, وطقوسية الدلالة!!
محمد الحرز

ثمة تحولات في شعرية المفردة، اتسمت بها تجربة الشاعر ابراهيم الحسين، بحيث تبدو المسافة الفاصلة بين المجموعة الشعرية (خرجت من الارض الضيقة) والمجموعة الشعرية التي تليها (خشب يتمسح بالمارة) وكانها نفق عبور، تنتقل المفردة فيه، من منطقة جمالية، تكاد تكون استحكمت المجموعة الاولى، وصعدت من قولها الشعري التاملي باتجاه المفردة ذاتها وهي في حالات المخاض الولادي، الى منطقة جمالية، تشتبك فيها المفردة باليومي والعابر في المجموعة الاخرى، غير ان هذا العبور للمفردة، لم يكن يشكل قطيعة تامة بين المجموعتين، بل ان الحساسية العالية التي تتصف بها علاقة الشاعر بلغته منذ المجموعة الاولى، تضغط بقوة كي تجد لها مكاناً، تتوضع فيه، في السياق الشعري ل(خشب يتمسح بالمارة)، وهذا التحول في الشعرية، هو في العمق منه، توسيع رقعة التجريب في الكتابة الابداعية، الامر الذي لايستتبعه استئصال للقيم الجمالية، واستبدالها باخرى ضمن الحركة الدياليكتيكية لمفهوم الشعرية فقط، وانما الذي يشكل الاهمية الكبرى، هو طريقة استحضار آليات التامل الجمالي فيما يشكل في مجمله مؤثرات الوعي الجمالي الشعري على المنجز الشعري او التجربة في حال استكمال دورتها الحياتية.
وفي تجربة ابراهيم ضمن المنجز الاول، تتمرد المفردة على القول الشعري بمعنى: ان الكائن الشعري من جهة اولى، يتخفف كثيراً من الحركة التي تخترق شاعرية الاشياء والموجودات الاكثر شفافية وانزلاقا، ومن جهة ثانية،يتضخم الكائن الشعري داخل نفسه كونه لايبحث عمّا هو شعري من الخارج في الاغلب، بل ان الشعر ذاته بما يتجمع فيه من آلام العالم، ويتدفق في مجراه عذابات الذات الانسانية، هو الهاجس الاكبر، وهو في ذات الوقت، الموجه التعبيري لجمالية المفردة عند تعالقاتها في سياق القول الشعري، لذلك عندما ياخذ ابراهيم لغته الشعرية الى مدارات طقوسية تشوفية، وعندما يقوم كذلك بإزاحة الحجب عن الكلمة فيما هي تؤسس نفسها وجودياً ومعرفياً وشعرياً، فإن التكثيف الحسي هو احدى الدلالات التي ينتجها الفضاء النصي، اذ ليس بوصفه قيمة يتاسس عليها وعي جمالي في نص ابراهيم، وانما ياتي بوصفه توظيفاً يساعد كثيراً في استظهار طقوسية المفردة وجودياً وشعرياً:
نافراً في ركنه الصاعد
مغموراً بالماء
حرفً مقلوب الفؤاد
يتململ في قرطاس الغرفة
أو:
ورقة خلعت ثوبها
ركضت في فضاء الغرفة
وقفت في مربع النافذة
استدارت وضيئة
لم اكن نائماً
عندما دندنت للهواء
او:
,, كيف لايرقص
وحروفه كل صباح
تمشي على حبل بين جبلين.
ومن المنظور التوظيفي ذاته، يبدو ان التجاور الدلالي كاستقطاب رؤيوي، هو سمة من سمات اللغة الشعرية عند ابراهيم بمعنى آخر: إن اليات التداعي، تتشكل اصطفافياً، فالكلمة تفضي الياً الى الكلام والكلام يغضي الى اللغة وهكذا دواليك، ولكن مفهوم الكلام عنده يتخطى البعد التوظيفي، ليصل الى حالات تشويهية، تمس المفهوم ذاته، فإذا كان الكلام- حسب بول ريكور- (هو انعاش معرفة السنية لما جاء في كلام سابق لاناس آخرين- الفينو مولوجيا والتاويل ص69).
فإن ثمة تكسيراً لتلك التراكمات المعرفية التي تحكم مفهوم الكلام من الخارج ومن ثم يذهب الى التلاشي والاختفاء بحيث يكتسب هذا المفهوم داخل التجربة دلالات اشبه ماتكون بتاويلات حوارية، تحاول فهم الكينونة:
سأسقط هذا الراس بعيداً جداً
وابدأ الكلام
فكل هذه الاشجار الواقفة تنتظر
ساحضر لهم هذا الماء الملبد بالظلام
حتى اصل الى صدر حجر,.
كان يناديني منذ سبع ليال:
يا ايها المقتول قم
قم يا ايها المطعون بالوطن
وهنا نقع على مايسمى بمجال القطع والوصل، وهي حالة ايقاعية استعاضية ربما هي تشكل علامة بارزة تتسم بها بعض نصوص ابراهيم، فهناك اولاً, جانب القطع الذي تحيل دلالاته الى توقف الخارج المعرفي عن التاثير والضغط على النص، وهذا التوقف يفسح المجال لكي يكون النص اكثر تشوفاً وخفة في تعبير الجمالي (ساسقط هذا الراس بعيداً جداً),, (ساحضر لهم هذا الماء,,) وهناك -ثانياً- جانب الوصل الذي يسمى النص من خلاله، لايبحث عن الكينونة في الاشياء، وانما ليتما هي معها من خلال استحضار دلالات الموت- وسبق ان اشرنا الى السمة الطقوسية- التصوفية التي تتلبس اغلب نصوص التجربة- يضاف الى ذلك ان المفارقة التي تحرك النص- ويمكن ان نجدها في الغالبية العظمى من نصوص المجموعة الاولى- صوب جمالياته المتفردة، تكمن في ذلك الاستقطاب للتراث السردي التاريخي- الروحي للذاكرة، وهو استقطاب تحرري انفلاتي يطابق مفهوم الكلام داخل النص وليس خارجه، الامر الذي يزيد من فاعلية النص ويعطيه بعداً ترميزياً، لاينسحب على النص فقط، وانما على السياق في مجمله, وقد ياتي هذا المفهوم متغلغلاً داخل النصوص بصورة او باخرىولكنه لايتعدى عتبة النص الى الخارج:
آه,,لنا الجبال نفرش فوقها دمنا
نطالعه,, نكلمه
نقص منه الذي تغير طعمه
او:,,ساكتم الحجر عنكم
ولن اخبر شاة الشفق
عن طير,,مازال يركب صورتي
او:واخشى ,,الاتهتدي شفتاي,.
الى حلمة في الجدار
وسيحدث فيما بعد انزياح طفيف عن المفردة/ الكلام ضمن تحولات التجربة كوعي يقول نفسه، يعتمد بالدرجة الاولى وكركيزة اساسية لاعمدة التجربة، على عنصر تاملي، يكشف من جهة، عن المنظور القيمي الذي تعطيه الانا للشعر داخل التجربة ذاتها، ويكشف من جهة اخرى عن التصور الذي يعطيه الشعر لذاته وبذاته فيما هو يدخل في طقوسية الكلمة وحالاتها التصوفية المتعددة، وبقدر المراوحة بينهما يكون الوعي الشعري للانا قادراً على استكمال ادواته المفاهيمية والجمالية بطريقة لايتهم من خلالها تغليب عنصر علىآخر او اغفال الجمالي على حساب المفاهيمي والقيمي، وانما فعل التوازن، هو الذي يميز حدوسات اللغة الواعية في افق تجربة ابراهيم الحسين، الامر الذي يتضح -مثلاً_ في نص(ضجيج الارقى):
بكثرتي
لا بالماء الوحيد الذي يبرق
اتسور الضوء ,,حتى اذا رفعت قلبي
ضجت الارض باللغة
اوفي نص(فعل):
وحيداً.
ممدداً في جلده, منهوباً بالرهبة
هذا لذي قتلته سمرة حروفه
او:
قل يا ايها الطعين بين اوراقه
كيف واتتك كل هذه الاقدام ,,ولم تركض.
ان التعاضد الدلائلي- اي مايخص انتاج شعرية النص- الذي يعري بوضوح مدى علاقة الشاعر بلغته او مدة قربه او بعده عنها، هو لايرتهن- في جانب كبير منه- بحقيقة موضوعية واحدة، بمعنى انه لاينفتح على منقطة وجودية ذات بعد احادي فقط يؤسس عليها وجوده الشعري، وانما يتعدى ذلك الى الانفتاح على افق شاسع وفي جميع الجهات والزوايا والمداخل، فالتاسيس- مثلاً- لوعي شعري جمالي داخل الشعر نفسه، لم يأخذ شكل المسار او المسرب الوحيد في تجربة ابراهيم الشعرية وكذلك لم يتوقف عند مصب وحيد، بل سمة التنوع والتخصيب والتزاوج، هي التي جعلت من طاقته التعبيرية الاشارية ذات حمولات دلالية، تنصهر في داخلها عناصر الموجودات والاشياء، والكائنات كافراز طبيعي، يجسر الفجوة بين الوعي بعموميته والشعر بخصوصيته، لذا تمارس المفردة عنده الحفر عمودياً من ناحية، لتكون موقفاً ورؤيا شعريين خاصين به، والحفر افقياً لتدعيمها بالتوظيف التأويلي والدلالي للكلمة او الجملة الشعرية بصورة اقرب:
ارايت ان كان يوسف
يغرك كلمة بكلمة
لتساقط برادة روحه
او:
آه اين اخبىء شراييني
من ورق كاب يرميني باللعنات
لم أثقب هواء
ولم ارجم البحر
التصقت بسكيني وتأبَّدت
,, ارد على جسدي جسدي
وانفخ في الكلمات
او:
,, الطريق تضيق
تضيق
تضيق
وانا شاخص بسمعي
اسمتع الى صلصلة الاوراق
هنا نجد ان الاستقطاب التناصي سواء كان باتجاه النص المقدس في المقطع الاول او باتجاه النص الصوفي في المقطع الثاني، يبدو وكانه شديد التداخل والترابط بين حركتيه العمودية والافقية بحيث نجد ان موضوعة الوصف الحسي للمفردة/ الشعر كقيمة تشحن برؤيا الشاعر ومواقفه من الحياة والوجود والاشياء، لاتشي بتلاوينها الدلالية عبر اشتباك تناصي مع نص تاريخي واحد وانما نرى النص يستدعي جملة من النصوص التاريخية المتنوعة وان تقاربت سماتها الزمانية وا لمكانية، لكنه - وهنا الاهم- يستبطن ثيمته السابقة بوعي يتجاوز - كما يرى هيدغر- (مقولات الزمان والمكان والمفاهيم الميتافيزبيته، ولايقف عند المرحلة الذاتوية ولكنه، يستمر بحثاً عن الرؤيا التي تمكن من ادراك حقيقة الوجود المنسي) الشعر والتاويل عبدالعزيز بومسهولي ص 52.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved