مساحات بيضاء ماثلون رغم الغياب,. ريمة الخميس |
ع,م، هذا هو اسمه الحقيقي، الحد الادنى منه الذي قبلته على مضض، والحد الاقصى الذي استسلم لقبوله على مضض أشد، مجرد الحروف الاولى منه، ولم يكن رفضه الاشارة الى اسمه كاملا لشيء الا لأن هذه هي قناعته التي لايساوم عليها، إيثاراً للعمل في صمت، واثرة للغير يمدد امامهم المساحات، ويمهد السبل، ويقدم الزاد بلاحساب,.
الحياة الثقافية في اي مكان، لايمكن ان تحلق بجناح واحد على مانتصور غالباً، على ايدي المبدعين الذين يضيفون تراكماً جديداً الى وعي الفن وضميره، وعلى ايدي النقاد الذين يحوطون بالرعاية حركة الابداع على قدر اجتهادهم إن أصابوا او اخطأوا، وان اقتربوا من الابداع مزودين بمشاعر حميمية تضيء فيه قيمه، اوبادروا الى العدوان والتعدي مسلحين بهيبة الادعاء، ففي كل الحالات يشتعل الحوار بين النقد والابداع، وعلى ايدي المفكرين الذين يتولون صياغة ذلك الحوار، لحظة اشتعاله او في غمرة انطفائه، في اطروحات فكرية، تتراجع احيانا الى التوصيف ورصد الظواهر، او تتقد ببلورة النظريات وحبك القضايا العامة، او تنعزل في زوايا الهموم الانسانية و التجريدات القابلة للتداول في مختلف الاسواق عبر نشاط حركة غير واعية للتصدير والاستيراد، فان ملوا، او أعوزتهم الحيلة في الاحتفاظ بشغف القارىء وإثارته، التفتوا الى انفسهم في تلك الزوايا، يتصارعون، ويعرضون على العامة نتائج الشجار, أليست معطيات الابداع والنقد والفكر، هي الاشارات التي نستدل بها على حركة الحياة الثقافية في تقدمها ونكوصها؟
لكننا في هذا التصور حقيقة لانملك نفاذ البصيرة وشمولية الرؤية، وبالتالي لا يمكن ان نطمئن الى عدالة الأحكام، فهؤلاء جميعاً لايمثلون في قوة الدفع للحياة الثقافية الاجناحاً واحداً، ليس هو الأهم، اذ ان هناك فريقا آخر يقوم بالدور الحاسم في اختيار اتجاه المسار، وفي تحديد السرعة التي تندفع بها تلك الحياة، يسمحون بالمرور او يغلقون ابواب الفضاء، يحددون القيمة والاهمية في العمل او يسلبونهما منه، يغدقون اشكال التشجيع او يضنون بأبسط الحقوق في ابداء الاعتذار او اسباب الرفض، ولكنهم في كل الحالات يمنحون من ذواتهم- على قدر ادراكهم لأهمية الدور وشرف المهمة ونبل الرسالة- دون انتظارلانصاف او عرفان، ولو بمجرد الافصاح عن الاسم!
اعني بهؤلاء تلك الفئة من المثقفين الذين يؤثرون خدمة الثقافة ورعايتها على المشاركة المباشرة في انتاجها، من مواقع مسئوليتهم عن النشر ومتابعته حتى الصدور، وهؤلاء حقيقة هم اصحاب الدور الأهم في حركة الحياة الثقافية، لانهم قادرون على ازكاء الوهج في اشتعالاتها، وقادرون على اخماد كل بصيص فيها، والغريب اننا حين نكتب او نتحدث، يغيبون في ظل انشغالنا بالاسماء والاعمال على الجانب الآخر,,.
حدثني ع,م - هو واحد من الذين يساهمون في رعاية العمل الثقافي دون ان يشارك في انتاجية المباشر - يسأل عن مسرحية لأرستوفانيس، في ذهول سألته ان كان مهتما بقراءة الادب القديم، قال:لا، لقد قرأته منذ مدة وفقد مني، لكن احد تلامذتي في المدرسة طلبه مني، سألت: وهل يقرأ تلامذة المدارس ارستوفانيس؟، قال:انا احدثهم في كل ما اعرف، التعليم ليس تلقيناً ولكنه رسالة وعي ومعرفة وثقافة,, أخرسني الصمت، لكنه واصل ليحدثني عن فوكوياما، وهلتلجتون، ثم يرتد الى المنفلوطي ودريني خشبة، ويدلني على مناطق جميلة كانت قد غيبتها افكارنا عن المنفلوطي، وتحدث عن ترجمات لويس عوض وطه حسين للتراث الكلاسيكي، وعن هوميروس، وفرجيليوس، وسرفانتيس,, حدثني عن نماذج من مختلف الآداب الاوروبية والافريقية والآسيوية، ليس متخصصا في اي منها، فدراسته قد كانت للتاريخ لا الادب، ولكنه كان يتحدث بثقة العارف ويقين المتخصص، ويلتقظ من كل عمل مالايمكن ان يراه مبدع او فنان,.
أفقت من الذهول لهذه الثقافة المخيفة لأسأله: انا لم اقرأ لك شيئاً، لماذا لاتكتب؟ قال لاني لا احب ان اكتب,, وللحظة تدافعت امام ذهني عشرات الاسماء من الذين تضج بهم الساحة، وتصورت لو انهم كانوا على ثقافة هذا الرجل,, قلت:هذا تقصير غريب ,قال: تعرفين ذلك المشهد الجميل لأناتول فرانس، البهلوان الصغير الذي وقف وحده في العراء، لا احد يراه، امام نصب، مجسم، وراح يخاطب صاحبته، سأقوم بأفضل ألعابي لك، ثم انبرى يؤدي ألعابه بحب وسعادة رغم مشقة يوم اهلكه,, لقد كان البهلوان في هذه اللحظة انسانا نبيلا ما اروعه,, ثم تابع محدثي، لكنه في جانب آخر هناك صورة اخرى، ذلك المسكين دونكيشوت وهو يحارب طواحين الهواء ويعتقد انه اعظم الفرسان، وهناك أياس او اجاكس كما يسمونه في مسرحية سوفوكليس بهذا الاسم، لقد اصابته لوثة من جنون حين منحت اسلحة أخليوس بعد موته لأوديسيوس، معتقدا انه احق بها كبطل لايبارى، وفي لوثة الجنون انهال على قطيع من الاغنام الوديعة تمزيقا معتقدا انه يصرع جيشاً من الاعداء,, ثم سألني: ايهما الافضل، ان اكون بهلوان اناتول فرانس، ام دون كيشوت او أياس؟, انتهى الحديث وانا اشد أسفاً وقد فهمت مايلمح اليه من عزوفه عن الكتابة,,.
|
|
|