Sunday 16th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 1 صفر


البطل في القصة,,شهادات ونصوص10

إعداد : عبدالحفيظ الشمري
الشخصية الرئيسية أو البطل في العمل القصصي يمتلك الدور الفاعل في تأسيس النص,, فهو الذي يسهم في صنع الحدث، ورسم فضاء المكان، ويشير وبأمانة إلى دلالات السرد اللازمة لبناء المنجز القصصي.
ولأن ساحتنا الثقافية والابداعية تحتفل بالقصص القصيرة وتقدمها للقارئ من خلال الانتاج القصصي في الصحف، والدوريات والمجموعات القصصية.
فمن أجل اقتفاء حساسية هذا الخطاب الإنساني عند البطل في المشروع القصصي لدى مجموعة من كتاب القصة القصيرة لدينا,.
حاولنا في الجزيرة الثقافية ان نقدم من خلال هذا المحور، والمساحة بعض الرؤى حول هذا العنصر الهام في العمل القصصي.
تأتي الشهادة حول هذا السؤال من القاصين د, حسن النعمي وأحمد الدويحي
على هذا النحو:
********************
القاص حسن النعمي:
الشخصية علاقة في سياق النص والواقع
هناك عنصران رئيسان من بين عناصر اخرى يكونان البعد السردي للنص القصصي، هما الحدث والشخصية, فإذا طغى الحدث توارت الشخصية وتحولت الى تجريد خال من اي ظلال اجتماعية او تاريخية معينة, بينما الحضور الاكبر، في هذه الحالة, يكون للحدث الذي يحرك، مع العناصر الاخرى كبيئة النص وزمنه ولغته، مجريات السرد, اما اذا حضرت الشخصية فإنها تطغى بسلطتها الاجتماعية والانسانية على بقية العناصر بما فيها الحدث, غير انه يجب ألانفهم ان هناك قصة يمكن ان تخلو من هذه العناصر مجتمعة، فذلك شرط سردي لا تنهض اي قصة الا به, لكن مدى بروز احدهما دون الآخر مرتبط على نحو اساسي باستراتيجية القص ورؤية النص الكلية.
وفي قصصي على وجه الخصوص مارست النوعين، فإذا حضرت الشخصية، فان الحدث يتراجع امام سلطة الشخصية، مثل ماهو سائد في قصة طموحات مانع الازدي، التي نشرت في المجموعة الثانية (آخر ما جاء في التأويل القروي), فشخصية مانع، بثقلها الاجتماعي والانساني حملت العمق الدلالي، من خلال صناعتها للحدث عبر المساحة السردية التي ظلت تتنامى في ثناياها, ورغم اني خلال مسيرتي القصصية قدمت قصصا يبرز فيها الحدث علىنحو اكبر، مجرداً الشخصية الى ابعد مدى، فإني قد مارست قصة الشخصية بولع خاص, فعلاقتي بأي شخصية تبدأ من اسمها, ففي بعض الاحيان ابحث قبل الشروع في الكتابة عن اسم ذي دلالة خاصة ونكهة شعبية ومذاق قروي, وبمعنى آخر يلعب الاسم دور المحرض على استدعاء مكونات النص, السردية وأجواء القص وبيئة النص, ومن خلال الاسم ابدأ في نحت ملامح الشخصية بتأن، فأختار لها السياق الاجتماعي الذي يناسبها، ثم احدد علاقتها بالآخرين مستقصياً قلقها وبحثها في الغالب عن قيمة اجتماعية او انسانية مفقودة في حياتها, وأجد امامي شخصية مانع الازدي كمثال على هذا النوع من الشخصيات, فالاسم ولد وولد معه قلقه وخوفه وبحثه عن دور في سياقه الاجتماعي, وكما ساعد الاسم على بلورة ملامح الشخصية، جاء دور التعبير عنها بضمير المتكلم كعامل مساعد للاقتراب من عالم مانع الازدي في لحظات تجلياته الذاتية.
********************
قصة:
طموحات مانع الأزدي
من قريتي التي تحضن النعاس، مزقت خيبتي, لست انا مانع الازدي ان لم احمل بندقية عسكرية، والبس بدلة زيتية اللون، تشبه لون وجهي القمحي، نعم هذه القرية التي تلوك سيرتي- وكأني عنترة الزمن الاول- لاتفرق بين ركض السلحفاة، وقفز الارانب، بل تجيد سخرية حارقة,, تعربد في الاذان، لكن هذه السخرية بالنسبة لي تشكل في ذهني بوحاً خفياً يدفعني للرحيل، لامتطاء المستحيل، للبحث عن زعامتي المفقودة في هذه القرية, سأقود جيش الطموح, انا او ناس القرية، نعم البقاء للافضل, هم دفنوا الاحباط في صدري, فرضوا عليّ التشرد, ارادوا ان اكون مانع البهلول, انا مانع الازدي على سن ورمح, قلتها لهم:أعطوني فرصة لتحسين اوضاعي, امنحوني ربة البيت التي اريد, هي لاغيرها, رحمة، ذات العيون الصافية من خبثكم, حتى شيخكم الذي علمكم فصول التندر والسخرية، اتيته بالامس، اطلبه تعريفاً بشخصي, قلت له بصوت مرتفع:
-انا مانع الازدي، اريد ان اكتب في الدفاع.
قال وهو يشرع في ضحكة حقيرة:
-وماذا بقي للعقلاء؟!
لحظتها تواريت في ثيابي, سئمت الحياة, لم اجد فيها نصيبي, لعله في قبري, لحظتها اكون المرحوم مانع الازدي, الكل يعرف مناقبي، ويذكر انني في يوم من ايام حياتي السابق خدمته كثيراً او قليلا.
لاحظ الشيخ انكساري, اراد ان يواسيني على غير عادته:
-نعم انت مانع الازدي في الاوراق الرسمية، وسأمنحك تعريفاً بذلك, اما بيننا,, وابتسم بخبث فمانع ال,,!!
خرجت من داره احمل ورقة التعريف, كانت فكرة الرحيل في شكلها النهائي.
اطل الصبح الاول في حياتي، الذي اشهده وأنا مسرور, ودعتها، هي فقط التي تستحق رعايتي, من اجلها وحدها اريد ان اكون قوياً، احمل بندقية الحكومة علىكتفي، اتباهى بأنني حارس الامن والناس في عالمهم الخاص, وانا وأنت يفصل بيننا التحدي, نعم اخبريهم بعد رحيلي بأنني هذه المرة دفنت حرابي في خاصرتهم, بكل تأكيد سيغرقون في هذيان السخرية، ولكن لايزعجك نباحهم, انا في المقابل اصعد سلم الشهرة, في هذه اللحظة كانت الاضواء تغمر عالمي, انطلقت ركائبي تبحث عن بداية الطريق.
هناك في مدينة مثلجة ، خلخالها من الضباب، وعطرها بوح وأحلام ترابية، وبردها سيف لشهريار، عايشت عالماً جديداً, رأيته فضعت يوماً كاملاً, وجاء ليلها يدسني في حضنها الاثير, ومن زواياها العميقة صنعت الدفء, نادمت الخمول, واستكنت في حنجرة النوم اللذيذ.
قدم بحمق العاصفة احسستها تركلني، جفلت من رقدتي :من؟! من؟! انا,, مانع .
لم يمهلني وسحبني ,,هيا يالص , صرخت في توسل:
-لست لصاً.
لكن لم تكن هناك جدوى, حينئذ شرعت اجلد ذاكرتي, هناك بهلول وهنا لص, ماذا عساي افعل؟! ملابسات الامور دائماً تلتف حول عنقي.
امام القشلة وقفت حائرا, اليوم ادخلها مخفوراً, كنت اود ان ادخلها مرفوع الرأس, آه لو يعلم الناس في قريتي.
في الصباح قال العريف:
-انت إنسان غريب.
ولم يضف شيئاً, انصرف بوجهه عني لفترة وجيزة، ثم قال:
-اعطني تعريفك.
اعطيته, نظر الي:
-هل تقرأ؟
-أفكر الحرف ياسيدي.
ارتفع صوته منادياً,, ياعسكري,, اقبل احدهم يتباهى, وقف امام المكتب الخشبي المهترىء, جاء صوت العريف:
-خذ مانع ال,.
خشيت ان يقولها، أن يقول مانع البهلول.
-ماذا قلت اسمك؟
-مانع الازدي ياحضرة العريف.
-خذه الى معسكر التدريب.
تبعت العسكري في صمت, اراد ان يمد جسر الحديث بيننا:
-قلت اسمك مانع الازدي؟
-نعم.
-عاشت الاسامي.
اعقب ذلك شيء من الفتور, جاء صوته مصحوباً بالحياء:
-عيبان,, عيبان القرني.
-هذا اسمك؟
-نعم.
عاد السكون, لم تفلح محاولته في الحديث, لعلي لم اساعده على المضي في الحديث, ليكن ذلك، لكن عن اي شيء اسأله؟! ابدو جاهلاً بهذه المدينة, لم تبدأ ألفة العشاق بيننا, هي لاتعرفني, انا لا اعرفها , كلانا يجهل نقاط الضعف والقوة, اي قوة؟! اي ضعف؟! عن اي شيء اتحدث؟! لست بحاجة لهذا الهذيان, كل مافي الامر ان قلاع الصمت مازالت محصنة, اجل محصنة كدار رحمة, كم يذكرني الصبح الوليد برحمة, كل يوم اراها تولد, ترقص في عيني وحدي,, آه يا رحمة السماء الكبرى .
جاءت ثرثرة العسكر من الغرفة المقابلة, تساءل عيبان عن هذه الجلبة بحثاً عن الحديث الضائع في سراديب الصمت, التفت الي:
-هم كذلك دوماً, حتماً ستعرف طبعهم، هم طيبون مثلك.
لا اريد ان يقولها ثانية, هذه الطيبة بلادة في قريتنا, لا احب ان ألبس ثوب البهلول هنا .
عاد صوت رفيق الدرب يسأل:
-أكنت تهذي؟
-من قال ذلك؟
-عيناك,, وجهك,, حالتك النفسية.
-ابداً,, انا متعب من السفر الطويل.
-عفواً,, كان يجب ان تفصح عن تعبك,, يمكنك الهدوء والراحة.
في الميدان اجتمع العسكر وأنصاف العسكر, العريف دائماً يحب ان يقول للمبتدىء نصف عسكري, كت انا من اصحاب النصف, وكثيراً ما ضاق بنا العريف، وطبق الجزاء مراراً، لكنه كان يقول انا او انتم في العسكرية، ولعله كان واثقاً من نجاحه.
***
ثلاثون يوماً مضت, امام الصندوق وقفت, صف طويل اعوج تكدس في اعماق الفرحة، كل يزرع احلامه,, ياحلمي الوحيد, هل تكبر؟ هل نأيك الممقوت يقترب؟ اريد بندقية اشدها على كتفي, اقول من خلالها يا مانع الطموح لتقتل الصوت البليد، وقرية لاتعرف الاصول .
قبضت مرتبي, لبست ثوب فرحتي، لكنه قصير, قلبي يمزقني، لأن (رحمتي)بعيدة, يقتاتها الذئاب, لاكنت ان لم احمها, بهيبتي ينهد حمقهم, كم قلتها لهم: ومانع لايمتشق سيف الكذب, يظل ركضه جرحاً يؤرق المستحيل.
وجاء فجري الموعود بركضه البطيء, تسعون يوماً مضت، ولحظة التتويج تختال في عيوننا, واصطفت العساكر , تراقب التوهج, من منبر النجاح توالت الاسماء, تهز فينا النشوة الكبرى, وضاقت الاصداء من اسمي العنيد, يامانع الطموح,, أقبل, ركضت ركض العساكر, توسل الغبار تحت ارجلي من ضربة التفجير والثبات, اديتها,, نعم,, تحية التقدير والقبول, حملتها,, نعم,, وبندقية سمراء خلتها من الجسد, تبادلت عشق الكتف, يا يومي البهيج,, لو انها تراني من برجها المكنون، لكن غداً تمضي رواحلي.
***
في قريتي التي تنادم النعاس، ايقظتها, اطلقت صوت بندقيتي, قطعت سوط السخرية، ليعلموا انا الازدي انا! في محفل غريب سمعت شيخهم يقول:
-يامانع الشرف رفعت رأسنا, حملت بندقية الحكومة اليوم انت ضيفنا.
حل المساء رأيت رحمة تعانق السحب، تباهي القمر, وبوحنا يضج في الصدور, وفي الغد القريب نكون روحين يضمنا الحب والصبر الطويل.
في منزل الضيافة ترجلت عن صهوة الترفع, علقت بندقيتي, ادخلت عيني في مخدع الحلم الجميل, ياعالمها الطري,, اريدها حورية معطرة، حجابها الضفائر المنمقة.
كان الصبح يلفظ فرحتي يجلد هامتي, عيناي تحفران الجدار, الغرفة بكل مافيها، لا اثر للبندقية في احضانها, اين توارت؟! قد تكون سرقت, هل يعقل ذلك؟ ربما لأنني ب,, اعوذ بالله, لا اريد ان ارجع لعفونة الماضي.
خرجت انشد ضالتي, ولحظة الاجهاض ترسم بعداً للهذيان, سمعت صوتهم يدك عقلي الجريح:يا مانع البهلول,, انتهى الحلم، وضاعت البندقية!! .

********************
القاص أحمد الدويحي:
البطل يفاجئني في أغلب الأحيان
من المسلم به أن بطل النص القصصي، قد لا يكون بشراً من لحم ودم, فقد يكون رسالة أو ريحا، أو موقفا، أو مكانا أوزمانا يلتقط روح اللحظة, فهو إذاً روح النص وبطله في ذات الوقت, لكنه في يد وعقل وقلب فنان, يجيد ملاحقة سرد نصه، ويكيف أنسنه الجماد، ليصبح بطلاً، لا شخوصاً هلامية، وقد تكون ضرورة فنية, تفرضها طبيعة الكتابة الفنية، في حواش تبرز خلفية اجتماعية وفكرية وثقافية.
والكاتب الذي يجيد اختلاق وضاعة بطل نصه، يجيد ابتداع الاداة الفنية، التي تيسر له انجازه لنندمج في هذا النص الذي ربما يكون برمته بطلاً.
والواقع أن بطل النص القصصي يفاجئني في أغلب الأحيان كما لا يفعل هذا معي بطل النص الروائي، لما تقتضيه طبيعة النص الروائي من معايشة وملازمة لكي يكون أكثر تدفقاً وخصوصية, واقتفاء أدق التفاصيل التي تخدم النص وتتوجه في الصورة التي يريدها الكاتب لا بطل النص القصصي.
وأصل هنا إلى ما أهدف إليه، بمفاجأة بطل النص, وقد احتل مساحة واسعة من قلبي وعقلي, فهو فنتازي حالم، يقاوم اليأس والانكسار، ويأتي بدون موعد مسبق بيننا.
وفي هذه الخاصية أستطيع بدون تحفظ أن أصف نتاج مرحلة جيل كامل، أنها وقعت في هذا المطب الكبير حيث الشخصيات الهلامية والمتعبة، والتي لم تصل فيها الكتابة إلى حد التشخيص والتي ربما فرضتها ظروف المرحلة.
والبطل في نصي بالذات يشبهني إلى حد ما, وفي أحيان كثيرة أتماهى معه، فلا أحدنا يدري، أي منا يسكن فضاء الآخر,, وهو يشبهني مندفع ومتمرد على القوالب الساكنة الجامدة، ليخرج من يأسه ولابد ان طريقه هي خياره الوحيد ذاته.
هذا البطل يرفض اعتسافه، ولا يقبل مني قمعه واختزاله, في ذات الوقت، كأن أبدأ بمواصفات لبطل، تتوفر فيه سمات وملامح، يتطلبها النص، ثم ينهض النص ويسقط البطل !! في الواقع, ثم أكمل من عندي من خلال شخصية أخرى, وبمواصفات وسمات اريدها كمنتج للنص, فالشخوص والرؤية والتكنيك الفني, هي طموحي المتجاوز أبداً، دون الوقوع في هذه الإشكالية والفن دائماً يعبر عن نفسه بصدق.
********************
قصة:
الخط
وقفت مليحة في نهاية ساقية، تشير له بعصا قبضت عليها بيدها اليمنى تجاه الماء ، في صوتها شيء من ثقة ممزوجة بادعاء عميق، ورثته عن اسلافها الاموات قائلة:
-اشرب,, اشرب لاتخف.
اندفع رحيم (المعتمد) مدير التعليم كما ظل الناس يدعونه، ويتفقون على تسميته به، نحو ساقية ماء، ينزفها ثوران من قاع بئر طيلة نهار, تثأبت فيه ادواته، وعوت بكرات الدلو، تروي الارض العطشى، انكب على بطنه, وضع وجهه على صفحة ماء، ينساب الى فلجان، ويتحول الى قصبات نبتت فيها عيدان الذرة اليمانية البيضاء، وتقف ام واطفال صغار في نهايتها، يستنزفهم الخوف كلما ظهر هذا المكتنز الجسم، باشارت من يديه، دون ان يجزم احد انه قد سمع تمتمات الرجل الغريب، توحي بكلمة مما يريد، وظل يغمس وجهه في الماء، يشرب دون ان يرتوي,, وبصوت ليس فيه حياد، فجأة(!) نهرته مليحة بنت السادة:
-خلاص,, يكفي,, يكفي.
رفع (ابو عابد) كما شاع اسمه بين الناس راسه للوراء, كف عن وضع وجهه في ساقية الماء, مضى في الطريق التي ظهر منها، ليغيب بين اشجار الطلع، في الناحية الاخرى، حيث غار تقيل النسوة فيه، بعد ان يكن قد بعن حمولتهن من الحطب، والبرسيم والدواجن والجائن، واقبلن يحملن في ذهابهن فرحة يوم السبت من التمر والحناء وحوائج السوق.
لحظتها انفلت عقال مليحة, تروي لنساء عقد الخوف السنتهن وخطواتهن، في نهاية نهار ملىء بالتعب والشقاء، وحينها رفع فتى راسه في وجه مليحة، يستقرىء نافذة للخوف، فقالت له بثقة:
-مهر امك ثقيل,.
وخطت وجه الارض بعصا، تسوق الدواب بها، وتذرع بها بلاد الناس واملاكهم، كلما طرأ شجار بينهم، واستخرجت كتب ابيها واخيها، وفي حوكتها البيضاء باقة اعشاب منوعة، وتحت مسفعها الجرجيك روائح عطرية، جمعتها لتعدل بها راسها، ودون ان يعرف احد سبب خطوطها فوق وجه الارض، قبل ان يقف (ابوعابد) عندها في اليوم التالي طويلا، بعينين كعيني ذئب مخاتل لآب بين الجبال، كانه آتٍ في أثر فريسة، يتبعها من نهاية الخط الترابي.
وقبل ان يتراجع فجأة (!) خطوات ثلاث، دون ان يقفز فوق الخطوط التي وشمت بها وجه الارض، ويعود من حيث آتي، لمكان يمضي غرباء اوقاتهم فيه، في مثل هذا الوقت، يطلون على حياة الناس في حقولهم، ويردد طفل بهزء (تع ياولك تنضر بك شرنقة) لينتزع ضحكات التلاميذ من سطوة، في حقيبة سوداء، بها امصال الحصبة والجدري، يغرسها رجل نحيل في جلود الصغار الطرية، فيكاد الخلق يفقدوا ايمانهم، بما ورثته مليحة من طب، يقارن بما لدى رجل نحيل يشاهدونه، ياتي مع الغرباء الذين في الجبل.
اما فواحدا منهم لم تفلح خطوط مليحة في ثنيه، فقد قالت للام المشدوة بحدسها:
-قولي لهم,, لوكانت حبوب (ابوسهيل) وشرنقاته فيها خير لنطقت ابنتك,,, وكانما تحاول امتصاص روح اشاعة، بعد ان تناقل الخلق، اسرار اولئك الغرباء، الذين اتى من بينهم هذا الثور الهائج، وحده كسر العزلة، وجاء الى الناس في حقولهم، واضمرت في داخلها، ان تضع له حدا، ولتلك الإشاعات، فهيئته لاتدل على انه شحاذ، وليس بواحد من اولئك الذين ربما يفعلها احدهم، من اجل عيون فتاة احبها، فهام على وجهه بين القرى ليجد من يعينه، فمن تراه الان امامها (هملا)، لايعتمر كمرا به سلاحة كالرجال، ادركت مليحة ببصيرة نافذة، ان قضيتها الحقيقية، في يد الآخر النحيل، الذي سلب الرجال عقولهم وايمانهم, و استعاضوا عن اعشابهم وطبها، الذي تطببوا ببه هم واطفالهم ونساؤهم، بما تحمله حقيبته السوداء، ويرددون ببلاهة، الكلمات التي يسمعونها في الغار ا لمشؤوم، حتىصاروا اسرى لهذا اللجين,.
عاد الرجال في الليلة الفائتة لاطفالهم، بنصائح واحلام قمرية، تاخذهم في فيافي، من الوهم والتسلية البريئة، لم يات احد بشيء ذي بال، هم يثرثرون بتلك الكلمات الغريبة، لينسجموا مع صوت (سافر ياحبيبي وارجع ,, الله اعطاك الهيبة,, يابه,, الله اعطاك الهيبة,)، وياتي الصوت طازجاً من صندوق خشبي، وضعه صانع القرية في زاوية الكير، ومددوا هم ارجلهم المتعبة، بقرب النار متكئين على الجدران العارية، ينتظرون سن فؤوسهم، ومحاشهم وادوات الحطب، ويمضغون حكايات لأولئك الذين ابتلعتهم المدينة، وهؤلاء الذين ياتون من ديار بعيدة، يحضرون معهم غرائب الاشياء، ويلتم الاطفال حولهم، كانهم اتوا من كوكب آخر، فيعمد الكبار الى طردهم، لئلا يكتشفوا سوءاتهم، فتبدوا لهم غير تلك الوجوه المالوفة.
وحدهم رعاة الغنم يغشون اي مكان، يتيسر لقطيعهم ان يقودهم له، فلا باس ان يرعى القطيع في مكان حول الغار، الذي صار ماوى اثير للغرباء، لعلعهم يحظوا بشيء من بقايا سكر وسجائر، ومما قد تركه الغرباء، في الغار القصي من الجبل، زادا لهم في غياب التين الشوكي، الرمان، والعنب، والحماط، ومما تجلبه لهم البنات، في قفاف من الوادي، في نهاية كل نهار,
عادت والشمس تماري الغروب، ووشمها مسكون على الخط الترابي، كشفت مليحة ضياع الغلة، وافتضاح سر غياب الرجال، ولقاءهم الغرباء في اقصى الجبل، فقالت لام كان مهرها نقود حصاد موسم كامل:
-الليلة يجئك علم,,!
فجأة (!) ظهر (ابو عابد) والشمس تكاد تغيب هناك خلف الجبل، والناس يودعون نهارهم المليء بالشقاء، وحدها مليحة بنت السادة، وكأنها كانت تنتظر بفارغ الصبر، وبحزم ظهر في نبرات صوتها، عندما راته يهم قفز وشمها، وخطوطها فوق وجه الخط الترابي، قالت آمرة:
-ارجع,, ارجع وراءك,,.
وكانما ذهبت كلماتها في واد سحيق، رفعت العصا في وجهه، تكاد تضعها في عينيه لئلا يحاول مد خطواته نحوها، ظل مشدوها يرقب الخط بعينين زائغتين، وبصوت اكثر حدة صاحت به، وقد نفذ صبرها:
-يامجنون ماتخاف الموت,, ارجع وراك,.
ويكاد يندفع فوق الخطوط التي وضعتها، يرتفع قفصه الصدري ويهبط، وتنقطع انفاسه، فصيحة يطلقها كالعواء فارا، يتعثر ويسقط قبل ان يغيب بين اشجار الطلح,.
اودعت مليحة ليلتها الفائتة، متمددة فوق (قعادتها) الخشبية بيأس ضئيل، وقد عزمت على تنفيذ مانوت فعله، حينما تذكرت الذين تنكروا لخدماتها، لكنها ابدا لم تكن لتفقد تفاؤلها العتيد، بان الشمس غدا ستشرق، وانها ستستقبلهم فرادى وجماعات، كما يفعلون في كل مرة، حينما يحتاجون فيها الى خدماتها,.
صادف ان وصفت لام وصفة، تعطيها لابنتها التي لم تنطق بعد، قائلة خذي قرصا من قمح العثري، اطبخيه قبل طحنه وعجنه، ثم اطرحيه في صاج، ليس لناره لهب، وخذيه في حوكتك النيلية البيضاء، واذهبي به الى سوق الحطب ، والدواب ، والحبوب ، الجلود ، والسمن، والبرسيم,, اياك وابواب الدكاكين، كانك شحاذة في سوق يوم السبت,.
اخذ القطيع يعبر الخط الترابي، وفتى خط الشعر خيطا رفيعا، فوق شفته العليا، وقد ملأ بطنه بثمار التين الشوكي والعنب، وخبأ في جيوبه بقايا سجائر ومعلبات، وجدها والفتاة التي كان الناس في حقولهم، يطربون لصوتها في كل عصر، حينما تكون في طريق عودتها قبل الغروب، في اثر قطيعها من المراعي، وتغني بلثغة غير مفهومة، قبل ان يستولي هولاء الغرباء على المكان المرتفع فوق الجبل ,(البارحة الرادو الملعون غنى فريد,, حتى ام كلثوم غنت هي وليلى مراد,,), وقد منعها شقيقها الاصغر من الغناء، وبكى حينما نهرته امها، لئلا يغضب شقيقته، بسبب اولئك الغرباء، واردفت لابنها الغاضب قائلة:
-الناس الذي (بذونا) في الوادي والدار مافادونا.
ويتراقص سرب القطيع، بين الفلجان واشجار الطلح، وقد اصابه شيء من التخمة، تنقل من جبل الى آخر ، ومن واد الى واد، في آثره الفتى وفتاة قبلهما مهام اخرى، اشد شقاء وتعبا، قبل ان ياوي كل منهما الى فراشه.
وفي مدخل من بين الطلح، ينحرف القطيع من فوق احد الخلجان، وقد حفرتها مياه الامطار وعمقتها، يحاول الفتى استرداد قطيعه، قافزا فوق اخاديد الخلجان، يتحرك شيء تحته في المجرى، يظنه في البدء واحدة من قطيعه، قبل ان يتبين الشيء الممدود في مجرى الخليج، رجل مقيد بسلاسل في قدميه، مماجعله يطلق صرخته في الهواء محذرا الفتاة، قبل ان تطأ قدماها الارض
-المجنون,, المجنون,,!
تاكد الفتى مما راى بعينيه، رجل ممدود في الخليج، سلسلت قدماه المقروحة كجثة كثور مذبوح، له فم مفتوح بابتسامة باهتة، ويصف للفتاة التي مشت وراءه في فرح، طيلة نهار مشبوب بالخوف في نهايته، وقد رات الرجل الممدود في بطن الخليج، فصاحت متسائلة:
-ارايت السلاسل في رجليه,,(؟)
نظر الفتى في وجهها بدهشة، وقد ابصر الخوف مرتسما على ملامحها، اجابها بهدوء:
-ربما هرب من بيت الفقيه، يقولون انهم يهربون، قبل ان يعيدهم الى سلاسلهم,.
وحبس الفتى في داخله بعض كلام وخوف، وكاد آن يبلغ فتاته انه مجنون قالوا عنه (ابو عابد) قد هرب، والمصيبة انه مجنون خطير,.
واشيع في ذات الوقت انه في ليلة فائته، فهاموا على وجوههم بين الاودية والبيوت, وعمد الفتى الى اهله لتاويل ما رآه، بعد ان فرغ من ايواء قطيعه، يصف لهم والجيران، منظر الرجل الممدود في الخليج.
تذكر الفتى بقايا السجائر التي حملها معه خفية في النهار، لينتهزخروج والده لصلاة العشاء، وليغافل امه، وقد فرغ من تناول (رشاقته) من خبز وسليق، ويسرق علبة كبريت، يخرج بها الى الغار المجاور لبيتهم، يدخن واحدة من تلك اللفافات، ثم يذهب الى بيت السليمان، ليسهر ويلعب مع انداده، الذين تعلموا في المدارس كلمات غريبة، وليخبرهم بما راه والفتاة في النهار، حينا يستقر به المكان.
استخرج واحدة من تلك اللفافات، ووضعها في فمه، يهم ان يشعل بها عود ثقاب، فجاءة(!) جاءه صوت آمر، آت من جوف الظلام:
-عطني سيجارة,,!
اصوات سلاسل حديدية، قيدت بها ساقي رجل ضخم الجثة، هو ذاته تكاد يده الان، تنتزع سيجارة معلقة في فم مفتوح، فيصرخ الفتى بصوت مفجوع، وتنتابه حالة هستيرية تستولي عليه حتى صباح السبت، وفي حينها نامت مليحة ليلتها بهدوء، وقد ادركت بحدسها انها فاقت مارمت اليه، وشاع في القرية تاويل ماحدث.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved