التنمية بين الاقتصاد والسياسة د, علي الدين هلال |
تعتبر العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد، وبين العوامل الاقتصادية من ناحية والعوامل السياسية من ناحية أخرى، واحدة من بديهات التحليل الاجتماعي المعاصر والتي تلقى قبولا واسعا بين الباحثين والخبراء على اختلاف توجهاتهم واقتناعاتهم الفكرية, بل يصل البعض الى القول بأن السياسة والاقتصاد وان الاوضاع السياسية وتلك الاقتصادية في مجتمع ما ماهما الا وجهان لعملة واحدة او لنفس الظاهرة، وان علاقات التداخل والتأثير بين الاثنين يأخذا اشكالا مختلفة ومعقدة.
ويستطيع الانسان ان يقدم عشرات الامثلة للدلالة على ذلك، فالاستقرار السياسي - او غيابه - يرتبط بالظروف الاقتصادية في المجتمع والحرمان الاقتصادي او سوء التوزيع الفادح للدخول والثروات في مجتمع ما يقود الى مظاهر مختلفة للاغتراب السياسي او الاحتجاج الجماعي او حتى استخدام العنف, والشعور بالدعة الاقتصادية وبالامان تجاه المستقبل له آثاره النفسية او المعنوية ايضا فالشعور بالامان والاستقرار يؤدي الى الهدوء والسكينة عل مستوى العلاقات الاجتماعية والعكس صحيح.
نفس العلاقة تجدها على مستوى السياسة الخارجية والعلاقات بين الدول, ولا يمكن لمحلل ان يفصل بين العلاقات السياسية الدولية والعلاقات الاقتصادية الدولية والدور القيادي الذي تقوم به دولة على المستوى العالمي او الاقليمي لابد ان يكون له اساسه الاقتصادي في مواردها وقدراتها, ويعلمنا التاريخ ان القوى السياسية للدول قد تراجعت تدريجيا مع تقلص القاعدة الاقتصادية لها، وبالمثل فان الطموح السياسي للدول لعب ادواراً اكبر تتزايد مع اتساع قاعدة اقتصادها وعلى سبيل المثال، ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر قادت اسبانيا حركة الكشوف الجغرافية في العالم الجديد وتنافست هي والبرتغال وهولندا على التوسع الاستعماري ومع الصعود الاقتصادي لكل من بريطانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر تحول التنافس الدولي ليكون بين لندن وباريس ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تراجع الدور الاوروبي لصالح القوى الامريكية الاقتصادية الصاعدة ومع قرب نهاية القرن العشرين، انهارت القوة العظمى الثانية، الاتحاد السوفيتي، نتيجة عجز مؤسساتها الصناعية والتكنولوجية عن مجاراة الدول الغربية في مضمار التطور الاقتصادي, من ناحية اخرى فان سعى كل من المانيا واليابان اليوم للقيامم بدور سياسي اكبر على المستوى العالمي يعكس القدرة الاقتصادية المتزايدة للبلدين.
وهكذا، تتضح العلاقة الوثيقة بين السياسة والاقتصاد واذا كان الاقتصاد يؤثر في السياسة فالتقدم الاقتصادي او نجاح سياسة اقتصادية ما له شروط ومتطلبات سياسية، وهو ما تشير اليه البحوث العلمية وتقارير المؤسسات الاقتصادية الدولية، وفي دراسة اعدها البنك الدولي عن الموضوع ركز فيها على ان نجاح الاصلاح الاقتصادي في اي دولة يتطلب اوضاعا سياسية معينة وان الطريقة التي تدار بها امور الدولة تلعب دورا اساسيا في نجاح او اخفاق برامج التنمية الاقتصادية وان التنمية الاقتصادية تتطلب وجود نظام عقلاني وقواعد مستقرة لصنع السياسة، وجهاز اداري محترف، وحكومة مسئولة، وكل ذلك في اطار القانون.
وقد ترافق اهتمام البنك الدولي بهذا الموضوع مع النقاش الدائر في الاوساط العلمية والمنظمات الدولية حول التغير في دور الدولة في ظل اقتصاد السوق وحرية التعاملات التجارية والتحول من وضع الاقتصاد المخطط الذي كانت فيه الدولة تسيطر مباشرة على وسائل الانتاج وتدير العملية الاقتصادية بقرارات ادارية الى وضع آخر، ويحدد تقرير البنك الدولي دور الحكومة في ايجاد البيئة المناسبة لكي يستطيع القطاع الخاص ان يقوم بدوره بحيث تركز الحكومة على اقامة البنية التحتية، وعملية التنمية البشرية، والمهام التي لا يستطيع القطاع الخاص ان يقوم بها.
فعلى ضوء التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم في كل المجالات، وبالنظر الى حالة اللا يقين والتنوع في الاحتياجات والاحتمالات المستقبلية، فان الاتجاه السائد بشأن دور الدولة يتمثل في قيامها بتحديد قواعد العمل الاقتصادي والاجتماعي، ومراقبة تنفيذ تلك القواعد، وعقاب من يخرج عنها كما يتثمل في خدمات التنمية الاجتماعية الرئيسية وابرزها التعليم والصحة والاسكان، وخصوصا بالنسبة للفئات محدودة الدخل وغير القادرة وليس ضروريا في هذا المجال، ان تقوم الهيئات الحكومية ذاتها بتقديم الخدمة فقد تلجأ الى الاستعانة بالقطاع الخاص ومنظمات النفع العام التي تقوم بادارة تلك المرافق وفقا للقواعد التي تحددها الدولة, وفي كثير من دول العالم فان المطارات والموانىء والجمارك تديرها هيئات خاصة بتكليف من الدولة، بل وصل الامر انه في عدد من المدن الامريكية والانجليزية فان ادارة المطافىء والسجون تتم بواسطة شركات خاصة.
ولكي تستطيع الحكومات ان تقوم بهذا الدور على نحو فعال فانها ينبغي ان تمتلك من الكوادر والمؤسسات والنظم القانونية ما يسمح لها بذلك ففي اطار حرية الاسواق، تزداد اهمية النظم القانونية التي تحكم هذه العلاقات، كما تبرز اهمية موضوعات مثل قوانين حماية الملكية وقواعد التحكيم الدولي وقوانين الافلاس، والنظام القضائي الذي يتعامل مع هذه الامور كما ان حرية الاسواق تتطلب من الحكومة مزيدا من الشفافية في اعمالها بحيث تتم هذه الاعمال تحت اكبر درجة من الشفافية والعلانية منعا للانحراف او سوء التصرف وبالذات عندما يتعلق الامر ببيع اصول رأسمالية تقدر بمئات وآلاف الملايين من الدولارات, وتكفي الاشارة الى ان ما قامت به روسيا في النصف الاول من حقبة التسعينات ونقل شركاتها ومصانعها من ملكية الدولة الى الملكية الخاصة يعتبر اكبر عملية بيع في القرن العشرين.
كما تحتاج الحكومة للقيام بهذا الدور الى بناء المؤسسات والقدرات المؤهلة لذلك، ويتضمن ذلك تأهيل الافراد واقامة النظم ويقصد تأهيل الافراد توفير العناصر البشرية المؤهلة للتعامل في الاسواق والبورصات المالية واقامة النظم التي تسمح لتلك العناصر بالعمل بفاعلية وباتخاذ القرار في الوقت المناسب.
والخلاصة ان نجاح عملية التنمية الاقتصادية او سياسات الاصلاح الاقصادية في اي دولة لا يعتمد فقط على كفاءة السياسات الاقتصادية، وانما يرتبط ايضا بالبيئة السياسية والاجتماعية، ومدى توافر الشروط والمتطلبات التنظيمية والادارية والبشرية التي بدونها لا يمكن للتنمية ان تتحقق او تستمر.
|
|
|