Sunday 9th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 23 محرم


كتابة في الضوء الخافت (2)
نورة الغامدي

الجدة وقدح الذهب,, الحياة تأخذنا وايام العام تطوينا متشابهة تطوينا وترحل تاركة لنا ذاكرتنا التي تركناها لها عاما بعد عام,, وهي اثمن ما نملك نتركها لها تمارس عليها التعتيم الذي نباركه ولا نبالي ونحلم بأيام اجمل - بذاكرة اجمل,, فاذا ما طرقت المواسم الأضلع وأتى عام جديد انتكست تلك الذاكرة وعادت الينا واعادت الزمن الى موضعه,, وتماوتت اللحظات المرهونة في تلك اللحظات التي ظننا انها بادت وان جديدا سيأتي ولكن كما هو الأمس,, هو اليوم,, لا جديد يذكر.
وأول ما يبرق في الذاكرة حاملاً معه كنوزنا المفقودة وجه الجدة,, في ليل جنوبي,, حيث الظلمة,, الظلمة السحرية تتهامس بألق مع رائحة الياسمين وبذر البرتقال الذي يشي بذاكرتنا التي تختبىء في غصن رمان او جذع نخلة او تحت ندى البرك الراكدة,, وخلف الأبواب الخشبية العتيقة التي نبت العشب تحت سيسانها, فانفرجت عتباتها الضخمة عن سعفات رفيعة تنبىء بمقدم نخلة تظلل عريه,, تظلل شيخوخته,, وها هو العام الجديد يدخل الينا فارداً عباءته الزرقاء.
من اين يا ترى جاء وبابنا القديم موصد بالصدأ وبالقدم وبالقفل العتيق,, وبجذع نخلة فرشت ظلالها عليه صوت الجدة من قاع التراب هاتفاً.
دعيه يدخل وادخلي معه,.
من اين ندخل وهذه الكائنات صامتة,, انها لا تعرفني ما زالت صغيرة وانا كبرت,, قبر الام التي ماتت,, والحجر الرمادي الذي يتكىء عليه بابنا الشيخ مال الى الامام.
اعيدي وضعه,.
صوتها الذي خفت مع تقادم الدهر,, اعادها حية تقف جنباً إلى جنب مع العام ذي العباءة الزرقاء التفت اليها مجيباً وأصلح وضع عصابتها الحمراء,, جلسا معي قرب المجرى المائي الاسود,, حيث كان الزير والمشربية العود والمدخنة المذهبة والباب الأسود الداخلي,, وحجرة الجدة,, الجدة البيضاء جداً كالثلج,, ذات الشعر المحلوق من الخلف المفروق من الامام - قامتها القصيرة التي ارضتني يوم بلغت الخامسة عشرة,, عندما اصطدمت ببنات عمي الأطول ضاحكات,, - انت قصيرة,,!
تنتفض في مكانها وتقفز لتقف بجانبي وتجذبني فأبدو اطول منها,, فتزغرد الفرحة في صدري لأنها تنصرني عليهن وتجعل من نفسها المقاس الأمثل لجسدي الضئيل,, جدتي مخلوق وجد قبلي على هذه الارض - ليس من اجل ان يطعمني ويلبسني,, انها مخلوق وجد ليربي مشاعري.
تجمعنا كل مساء,, حولها,, حين تسكن مواتير المياه وتبدأ حشرات الليل في الغناء والفراشات بالرقص حول بقع النور,, تجلس امامنا منتبذة بنا مكاناً لا نرى فيه والدينا وقت هجعتهما,, نتحلق حول السراج الاصفر,, يتوهج خداها حين ترى في عيون احدنا نظرة فوق نظرة,, تمد يدها الى الرأس الكئيب.
تعال واجلس هنا قربي,, وان كانت فتاة,, مسحت بيدها على رأسها وأنامتها على حجرها - جدتي - ما عادت هنا,, لقد ذهبت,, خرجت من الباب القديم برفقة عام رحل معها,, وبقي ذلك الباب القديم الذي استحوذت عليه تلك النخلة وأوصدته الى الابد,, ولم يبق منها الا كنوزها.
وما اعظم كنوز الجدة تلك التي عبأت بها ارواحنا وكنزها الاثير الجليل,, كان يا ما كان,, يوم كان كل شيء يتكلم وكل كائن يتكلم حتى هذا الخنفساء الصغير يا صغيرتي كان يتلكم,, وذاك القدر الضخم النحاسي كان يتكلم,, والحمامة والكلب.
- كنت انصت الى حكاياتها عن حيواناتها وأوانيها التي تملأ المكان وأشيائها الثمينة التي تعلقها في الحيطان,, اتبعها كظلها وهي تحبو بين الشجر تجث النجيلة,, وتلتقط حبات الرطب الناضجة وتدلي بدلوها الذي اقسمت انه كان يتكلم في سالف الزمن البعيد في البئر لتشرب وتسقيني,, كل ذلك وهي تحدثني عن الرجل القط,, والرجل الديك,, والرجل الكلب والرجل الحمار,.
والرجل قدح الذهب والمرأة الوقف والمرأة باب النحل، والجنية ورجلها الأنسي كانت تركض في الحياة وتسرع نحو الموت وأنا اركض نحو النضج وأسرع نحو الحياة.
وافترقنا,,!!.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved