Sunday 9th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 23 محرم


مساحات بيضاء
رؤى النقد الأسطورية
ريمة الخميس

كثيرا ما نتوقف في قراءاتنا عند افكار اصبحت تجري في الكتابة النقدية مجرى المسلمات، يقول احد الكتاب مثلا وقد مثلت هذه الاعمال ارهاصا بحساسية جديدة بدأت تتشكل بعد ذلك في تيار هو ما عرف بكذا ,, لنفهم من ذلك ان ما يطلقون عليه حساسية جديدة هو انعطاف في ذائقة التلقي ربما، وان الاعمال التي يشيرون اليها هي بالتأكيد اعمال ابداعية استطاعت ان تتشوف في تلك الذائقة انعطافتها فاتجهت الى التعبير عنها.
وقد أقطع هذا السياق لاطرح سؤالا يفرض نفسه عند قراءة مثل هذه النصوص:
هل للنقد دور في الكشف عن تلك القيمة الجديدة في الاعمال الابداعية التي استبقت غيرها في التبشير بحساسية جديدة؟، هل يلعب النقد دورا في الدفع بالذائقة العامة الى الخروج عند مسارها وتوجيهها الى تلك الانعطافة التي اصبحت هي تلك الحساسية الجديدة؟ لعلنا لانكاد نلحظ شيئا من هذا كله، سواء ما يتصل برؤى الابداع او باجتهاد النقد او بوعي الذائقة.
في دراستنا لتاريخ الحركات الفنية والادبية الكبرى، وحتى ما تولد عنها من اتجاهات ، نعرف انها غالبا ما تأتي صادمة لتسيد ذوق عام يريد هؤلاء ان يبدلوا شيئا فيه ونادرا ما تكون استشرافا لتحول لم يعلن عن نفسه بعد في ذائقة التلقي فقد لان تستطيع ان نتذكر لهذه الحالة الاخيرة الا مثالا كالمجموعة الشعرية المشتركة التي اصدرها ورد زويرث وكوليردج والتي اشارت مقدمتها الى ان ثمة تحولات في الذائقة العامة قادم يوشك ان يعلن عن نفسه، وجاءت القصائد داعمة لهذا التحول الذي لم يتشكل بعد ومباركة لخطاه ، وابعد من هذا اننا نكتشف ان الحركة النقدية التي رافقت تلك الاتجاهات في الابداع قد شابها كثير من التخبط، بين رفض قاس وبين انحياز انفعالي لا يجد لنفسه المبررات الكافية التي يستند عليها، وبين هذين الطرفين تكثر امامنا الامثلة التي انخرط فيها النقد والابداع معا في تكريس واحد باتجاه واحد يرسخ لمسار جديد، وامامنا مما كتبه - إميل زولا عن الحركة الفنية الجديدة - الانطباعية - ثم اتبعه برواياته التي تصادق على رؤاه النقدية وكتابات بلزاك النقدية واعماله الابداعية وغير ذلك,, لكننا في مقابل ذلك هل نستطيع ان نعثر على مثال مشابه في المشهد العربي؟
حين كتب العقاد تحال الى لجنة النثر للاختصاص على مجموعة شعرية كان قد تقدم بها صلاح عبدالصبور للمجلس الاعلى للفنون، هل كان العقاد آنذاك يضع امامه اسسا نقدية صارمة، او تعريفا مانعا جامعا للشعر رأى ان حساسية جديدة يعبر بها شكل جديد في قصائد عبدالصبور ليست الا خروجا بالشعر من مملكة الشعر الى هاوية النثر؟ هل كانت تحكمه اهواء خاصة ومزاج فريد، وقناعة لا تقبل تنازلا او مساومة بان الشعر هو عمود الشعر حتى وان خلا من روح الشعر؟ والا لما قدم لنا العقاد قصائده الخشبية التي جفت فيها شاعرية الشعر؟
وعلى طرف نقيض حين قدم ناقد اخر لنفس هذه القصائد لصلاح عبدالصبور وقال انها تمثل رؤية الشعر في زمن قادم، وانها تقبض على حساسية جديدة لم نتبينها نحن بعد، هل كان يتمتع ذلك الناقد بحرية تقربه من حرية الابداع ذاته، فلا تتحكم فيه القواعد والشروط والمقاييس؟، هل كان - كالشاعر - وهو ينهض برسالته الابداعية - ينهض بدوره برسالة نقدية؟ كلاهما يملك شفافية الرؤية التي تستطيع ان تلمح في الافق ما لا تراه العيون العادية؟ لكن ذلك حقيقة.
- الانحياز ضد او مع - لا يمثل الواقع الاعم في ذلك المشهد العربي لاننا - على صعيد الابداع - لم نر بعد ذلك العمل الذي اخترق الرؤى السائدة الى المابعد القادم الوشيك ولم نر - على صعيد النقد - تلك الرؤية النقدية القادرة على الانصاف او التسفيه محتفظة في الحالين بعدالتها ووجاهة استناداتها فاما اننا ازاء اتهام للنص بفضفضة تطيح بهيبة العمل الفني لتهوي معه الى عادية التغيير وانشائيته، او اتهام بمباشرة وخطابية زائدتين عن الحد يسقط عليهما مقصلة النقد بالتشذيب والتهذيب بادعاء تنقيته وتصفيته او اتهام بما يتجاوز التكثيف القادر على التفجير والاثراء الى الاختزال المخل الذي يوسع النص بالغموض والاستغلاق، واخطر من هذا اننا في كثير من الحالات نقرأ الاتهامات كلها عن عمل واحد، هؤلاء يصمونه بالتزبد والانشائية والفضفضة واولئك يسمونه بالغموض والاستغلاق!! وثقة بوعي النقد ونزاهته لابد ان نتساءل: اي المقاييس كان يضعها نصب اعينهم هؤلاء وايها كان يضعها اولئك؟ لاننا دون البحث عن اسباب موضوعية لهذه المواقف النقدية نكون قد وجهنا اتهاما الى النقد بغياب الوعي والضمير، وجعلنا منه اداة مزاجية يثبت بها الناقد وجوده فحسب غير مبال بدوره في اكتشاف القيم الايجابية في النص في ظل حساسية قائمة، فما بالنا بدوره في التبشير والمناصرة او المناهضة ,, لحساسية جديدة لم تطرح نفسها؟!
بروكروتيس شخصية اسطورية، كان يجلس عند مفترق الطرق بانتظار مسافر او عابر يمر، ويحتفظ الى جواره بسريرين احدهما بالغ القصر، والآخر بالغ الطول، حتى اذا ما مرت به ضحيته ، اذا كان طويلا انامه فوق السرير القصير وقال له: كل ما يخرج عن السرير زيادات لابد ان نستأصلها فقطع من جسمه مايزيد على السرير، وان كان العابر قصيرا انامه على السرير الطويل فظلت منه مساحة كبيرة لا يطولها جسده عندئذ يقول له: انت اقصر من اللازم ولابد ان نشدك حتى يملأ جسدك السرير ويشده بحبال وآلة مثبتة في السرير الى ان يتفسخ جسد الرجل,, اليس حال النقد على نحو ماعرضناه اشبه ما يكون بعمل تلك الشخصية الاسطورية بروكروتيس؟ غير ان هناك فارقاً جوهرياً بالغ الاهمية هو أن تلك الشخصية الاسطورية لم تكن الا قاطع طريق,,!!
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved