Thursday 6th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 20 محرم


الوقف الإسلامي وخدمة الكتاب ودور العلم

يعتبر الوقف من اهم منجزات الحضارة الإسلامية والذي بواسطته بنيت دور العلم والمستشفيات والمنافع الخيرية والتكامل الاجتماعي والمساجد والطرق ومياه الشرب وحمامات المدن وأماكن الترفيه فيها وو,, ولم يكن هناك مظهر حضاري انجزته حضارتنا الاسلامية في عصور ازدهارها الا ونجد الوقف عاملاً مهما في وجوده,, وبالوقف تمت المحافظة على كل هذه المظاهر والمنجزات الحضارية, اذ لا تقوم منشأة كبيرة كانت او صغيرة تهدف الى مصلحة عامة أمر بإقامتها محسن او حتى رجل دولة الا ووضع لها وقفاً لكي يضمن لها الاستمرار، وما من منشأة أقيمت على هذا الاساس الا واصبح مضموناً لها البقاء فكانت حتى الدول الاسلامية المتعاقبة ما تنشىء مصلحة مثل المساجد او المستشفيات او دور للمسنين او مدرسة للاطفال او دورا للحديث او للطب او للصيدلة الا وأوقفت له وقفاً يدر له دخلاً مستمراً ومضموناً للإنفاق عليه, وبهذا اصبحت الأوقاف اهم مؤسسة في تاريخ حضارتنا الاسلامية.
وظلت كذلك مؤسسة فعالة الى الفترات المتأخرة من تاريخنا عندما اهمل الاهتمام بهذه المؤسسة وما قام عليها من منجزات هي غرر المظاهر الحضارية في تاريخ حضارتنا الاسلامية.
وحيثما وجدت بناءً ضخماً في اي مدينة اسلامية الا والوقف وراء انجازه والحفاظ على استمراره,, وبما ان الوقف اخذ صفة دينية فقد اصبح لزاماً على كل جيل الحفاظ عليه والالتزام بتنفيذه كما اراد له الموقف الأول.
اهمل المسلمون هذه المؤسسة فأهملوا بإهمالها الحفاظ على الكثير من اهم منجزات حضارتهم العظيمة، وانتقل مفهوم الوقف من المسلمين الى غيرهم حيث اولته الحضارة الغربية التي اقتبسته اصلاً من حضارتنا الاسلامية فالجامعات الكبرى في الغرب تصرف على نفسها من عائداتها الوقفية فجامعة كمبريدج البريطانية الشهيرة تعتمد في المقام الاول في الانفاق على طلابها ومبانيها ومعامل الدرس فيها ومكتبتها على الأوقاف التي اوقفها الرواد الاوائل والمتعاقبون والى الوقت الحالي، وكذلك جامعة اكسفورد وجامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية.
فلقد شهدت بعيني خلال سنوات دراستي في جامعة كمبريدج ان قام احد سكان المدينة، أي مدينة كمبريدج الاثرياء، ببناء كلية متكاملة بكامل مرافقها وهي من احدث كليات الجامعة على نفقته الخاصة واوقف لها اوقافاً واستثمارات تدر عليها وهذا الثري كون ثروته من تأجير واصلاح الدراجات العادية على طلاب الجامعة حيث تعتبر هذه الجامعة العريقة بمدينتها العريقة مدينة الدراجات الاولى في اوروبا والسبب ان الجامعة تحرم على طلابها اقتناء السيارات اما القصة الثانية فتتعلق بأستاذتي التي كانت متخصصة في الدراسات العثمانية ومن جامعة كمبريدج تخرجت وفيها اصبحت استاذة وعندما داهمتها الوفاة في عام 1986م اوصت ببناء مكتبة خاصة بكلية البنات في نفس الجامعة وأودعت بها كتبها التي بها اندر المخطوطات والكتب النادرة من تركية وايرانية وغيرها واوصت بوقف يستثمر لصالح تلك المكتبة والمستفيدين منها وخصصت لهذا الغرض مبلغا كبيرا فهي لم توص ببناء مكتبة فقط بل اوقفت لها أموالاً تستثمر لصالحها لكي تضمن استمرارها ولكي لا تصبح عبئاً على ميزانية الكلية فيما بعد.
لا ادري لماذا استشهدت بأمثلة من خارج ثقافتنا ولدينا مئات بل آلاف الأمثلة في بلادنا هنا دعك عما هو خارجها ولعل الفرق بيننا وبينهم ان اوقافنا ظلت عبارة عن وثائق تاريخية لأوقاف كانت حتى اصبحت الأوقاف لدينا ممثلة في العقار والمزارع امام مشكلتين إما الاهمال المخيف او التعدي عليه من قبل من لا يحفظ للوقف حرمته, واعتقد الناس ان ما تقوم به الدولة من تقديم خدمات شبه متكاملة في المجالات التي كانت تقوم على الاوقاف ستستمر في حالة اقتدار على القيام بهذه الأعباء، وقد تستمر ولكن الى حين، ثم ماذا بعد؟ اليس للجامعات والمستشفيات ودور المسنين وروضات الاطفال حقٌ في اموال اغنياء هذه البلاد الذين حباهم الله بثروات طائلة وهم معفون من كافة انواع الرسوم والضرائب, ودولة انفقت بسخاء وبدون حدود يوم كانت مداخيلها من ثرواتها الطبيعية عالية, اما وقد قلّت الموارد وزادت الاعباء وارتفعت اعداد السكان بشكل مذهل وكثرت اعداد المسنين والمحتاجين واصبحت الحاجة ملحّة الى مشاركة المواطن القادر ليس من خلال التبرعات الوقتية او الموسمية ولكن من خلال اعمال وقفية منظمة تقدم الخدمة وتضمن استمرار تقديمها للمستفيدين منها.
كم عدد اثرياء بلادنا الذين اوقفوا بمستشفى جامعي قسما متخصصا في امراض الشيخوخة؟ او مختبرا متقدما للحد من انتشار الملاريا في منطقة تهامة او كلية متخصصة في امراض النساء والاطفال او انفقوا على فريق علمي لدراسة مظاهر التصحر في بيئتنا الصحراوية القاحلة,, إن اوجه العمل الخيري من خلال عمل الوقف المنظم كثيرة ولكن اين الموقفون وأين القواعد المنظمة للوقف وتفعيله.
آثار كل هذه الشجون في نفسي مناسبة المؤتمر العلمي الأول الذي سينعقد في المدينة المنورة عن المكتبات الوقفية في المملكة تحت اشراف وزارة الشؤون الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد وبمشاركة نخبة من الباحثين من جامعاتنا السعودية.
ان هذا الجانب الذي خصص لهذه الندوة او المؤتمر يعتبر على قدر كبير من الاهمية لما يحمله من مدلول ثقافي حضاري خدمة للوقف الاسلامي وخدمة للمحسنين من خلال الوقف الاسلامي وتذكيرا او عرفانا بالجميل لاولئك الرواد الصالحين ارجو ان تتبع هذه الندوات ندوات تعالج الجوانب الاخرى التي خدمها الوقف الاسلامي.
ان اختيار المدينة المنورة لعقد هذه الندوة لم يأت من فراغ، ففي المدينة اكثر المكتبات الخاصة التي اوقف عليها مؤسسوها ما ضمن لها الاستمرار لفترات طويلة وحظيت بالرعاية والعناية ليس فقط في حجم محتوياتهامن المخطوطات النادرة بل حتى في مبانيها الفاخرة التي كانت تضم مدارس علمية خرجت افواجاً من العلماء والمتعلمين, وبكل اسف فإن الكثير منها قد اختفى بسبب ما شهدته المدينة من تطور فاق كل تصور حيث حلت الجامعات والكليات المتخصصة محل تلك المدارس واصبحت مكتباتها تغص بعشرات الآلاف من المجلدات المطبوعة ومع كل هذا فان الثقافات والبناء المعرفي هو كم من التراكمات الشبيهة بالبناء الذي لا يمكن ان يعلو شامخاً دون ان تكون له اساسات قوية, فمكتبات المدينة القديمة هي تلك الأساسات التي كان في استمرارها ما يزيد من قوة البناء وعلو قامته وإن تكن قد اختفت آثار تلك المعالم الخالدة في التاريخ فإن الأمل في اقامة مجمع لمشروع ثقافي حضاري متميز يحتضن بين جنباته محتويات مكتبات المدينة القديمة ويلحق بذلك المجمع مدارس شبيهة بتلك المدارس التي كانت ملحقة بتلك المكتبات ويصرف عليها من اوقاف المدينة ويضاف الى تلك الاوقاف ما يمكن اضافته من اوقاف يوقفها اهل الخير من القادرين, وأقترح ان يسمي ذلك المجمع باسم مجمع الملك عبد العزيز الثقافي بالمدينة المنورة وهل هناك من هو اكثر جدارة من عبد العزيز لكي يحمل هذا المجمع اسمه، فهو الذي حول احوال المدينة من الخوف الى الأمن الذي كانت تفتقده في معظم مراحلها التاريخية, وما هذا الأمل او الأمنية بعزيزة على ملك هذه البلاد الذي تشرف بحمل اسم خادم الحرمين الشريفين مفتخراً بهذا اللقب الذي اطلقه على نفسه في مدينة طيبة الطيبة فإن تلقبه بهذا اللقب زاده مكانة واجلالاً بين ملوك التاريخ الاسلامي وهو بحق من ينطبق عليه هذا اللقب حقاً وحقيقة، ففي عهده الذي سيبقى خالداً في التاريخ بلغت توسعة الحرمين الشريفين اوسع مدى وانجزت هذه التوسعة على احدث واضخم ما يكون عليه البناء إذ انفق على هذه التوسعة بكل سخاء وكان يتابع بنفسه خطوات البناء لحظة بلحظة، فكنت ترى السعادة في عينيه وهو يشهد تقدم هذا البناء الذي سيظل خالداً يحمل اسم مؤسسه مدى التاريخ كتب الله له الأجر في الدنيا وفي الآخرة وسيظل الحفاظ عليه - البناء - أمانة في أعناق كل من يتولى أمر هذه البلاد زادها الله تشريفاً وقوة ومنعة.
والحديث عن مكتبات المدينة التاريخية ودور الوقف فيها سيكون لنا معه وقفة بإذن الله.
د : محمد بن عبد الله آل زلفة*

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved