Thursday 6th May, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 20 محرم


قضية للنقاش
مبادرة صلح صربية مرفوضة
رضا محمد لاري

يفرق القانون الدولي العام بدقة ووضوح بين شرعية الأسر في الحرب وبين جريمة اختطاف الرهائن ذلك لأن احكام هذا القانون تنظم العلاقات الدولية في زمن الحرب بما في ذلك أسر الجنود في ميادين القتال بينما تحرم نفس الأحكام الاختطاف في السلم والحرب وتجرم من يقوم بها بالإرهاب.
وبعد ان استطاع القس الامريكي جيسي جاكسون اطلاق سراح الرجال الثلاثة السرجنت الشاويش كريستوفر ستون، والجنديان اندرو راميريز وستيفن جونز اليس من الاحتجاز في بلجراد والعودة بهم الى أمريكا، بدأ النقاش يدور في الأوساط السياسية الامريكية حول الوضع القانوني لهؤلاء الرجال الثلاثة في أثناء احتجازهم داخل سجون الصرب لتحديد شرعية الاحتجاز بالأسر او عدم شرعيته بالاختطاف.
قد اوضح جيمس شهيه المتحدث الرسمي باسم الناتو حلف شمال الاطلنطي من بروكسل ان هؤلاء الجنود الامريكيين الثلاثة قد تم اختطافهم في داخل أراضي مقدونية أثناء قيامهم بمهمة استطلاع رسمية وهم عزل بدون سلاح وبالتالي تنتفي عنهم صفة الأسر للجند التي تتم في ميادين القتال، وتصدق عليهم صفة الاختطاف في مواقع مدنية لا علاقة لها بالقتال مما يجعلهم رهائن وليسوا أسرى.
صدق صفة الرهائن على الأمريكان الثلاثة لا يبدلها تصريح الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش من داخل المركز الإعلامي للجيش الصربي في وسط العاصمة بلجراد بقوله أمرت باطلاق سراح الأسرى الأمريكان والسماح لهم بالخروج من البلاد .
لم يشفع هذا الأمر الصادر من الرئيس الصربي باطلاق سراح الرهائن الأمريكان عند واشنطون التي تصر على ملاحقة سلوبودان ميلوسيفيتش على جرائمه ضد الإنسان في داخل اقليم البلقان وعلى ممارسته للإرهاب باحتجاز الرهائن والمساومة عليهم مقابل تحقيق مكاسب في داخل صربيا تضر بالعدالة الدولية وتتناقض مع حقوق الإنسان على المستوى العالمي.
وساطة القس الأمريكي جيسي جاكسون لانهاء القتال الدائر بين حلف الناتو، وبين النظام القائم في بلجراد، كالخمر ضررها أكثر من نفعها لانها تدفع العالم الى التعامل مع سلوبودان ميلوسيفيتش مجرم الحرب باللجوء الى السلاح لضرب كوسوفا، ومجرم السلام باستخدام الرهائن في إرهاب العالم.
وعلى الرغم من معارضة الناتو لوساطة القس السياسي جيسي جاكسون التي يشفع بها لوقف ضرب بلجراد فانه اخذ يواصل ضغطه على البيت الأبيض ليقبل استقباله واستلام الرسالة المرسلة الى الرئيس بل كلينتون من الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، ووظف في سبيل ذلك كل روابطه الحميمة مع بل كلينتون ووقوفه معه في أثناء ازمته مع مونيكا ليونسكي.
لم يقم جيسي جاكسون بهذا الدور السياسي المضني لوجه الله وإنما لخدمة مستقبله السياسي بتطلعه الى شغل منصب نائب الرئيس في حقبة الحكم القادمة من خلال الانتخابات الرئاسية في السنة القادمة عام 2000م.
في الحقيقة ان القس جيسي جاكسون يلعب على الحبلين ليضمن ترشيحه لمنصب نائب الرئيس القادم مستغلا موقعه في داخل الحزب الديمقراطي بزعامة الجناح اليساري فيه، وموظفاً روابطه الحميمة بالحزب الجمهوري من خلال التصاقه بالكتلة اليمينية به، ودافعا الدهلزة الصهيونية بوعود الانصياع لها للضغط على الحزبين معا ليختاره احدهما نائبا للرئيس الامريكي في قائمة ترشيح الانتخابات الرئاسية القادمة، خصوصا وان احكام الدستور الامريكي لا تتناقض أحكامه مع ازدواجية الموقف للأفراد مع الحزبين الرئيسيين في البلاد، لأن انتخاب الرئيس ونائبه يتم للشخص ذاته بانتمائه او عدم انتمائه الحزبي، وكل ما يضيفه الانتماء الحزبي هو زيادة فرص الفوز للمرشح.
نحن لا نريد مواصلة القفز الى نتائج هذه الوساطة لانها لا تزال في علم الغيب ونسرع بالعودة الى ما كشفت عنه حجب الغيب لننقل لكم ما أعلنه القس جيسي جاكسون عن رغبة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش في اللقاء بالرئيس الامريكي بل كلينتون، غير ان هذه الرغبة لم تحدد مكان اللقاء او زمان انعقاده، مما يجعلها مجرد رغبة تدور داخل أطر دوامة النظريات العاجزة عن تقديم سبل التنفيذ.
ليس العائق فقط في اتمام هذا اللقاء عدم تحديد موعد له او مكان انعقاده، وإنما يأتي العائق ايضا من اصرار سلوبودان ميلوسيفيتش على مواصلة أدواره العدوانية ضد إنسان واقليم كوسوفا، في نفس الوقت الذي يسعى فيه الى الصلح مع امريكا ومن ورائها حلف شمال الاطلنطي الناتو .
تتضح هذه الحقيقة من المشروع السلمي الذي صاغته بلجراد على لسان رئيسها سلوبودان ميلوسيفيتش وحمله الى امريكا القس جيسي جاكسون، ويتضمن هذا المشروع السلمي الصربي على اربع نقاط أولها عودة لاجئي كوسوفا وثانيها نشر قوة حفظ سلام دولية في الاقليم وثالثها إنهاء أعمال العنف من كافة الأطراف ورابعها تسوية سياسية يتم التفاوض عليها.
في الوقت الذي كان يتحدث فيه جيسي جاكسون عن المشروع الصربي للسلام الذي يتفق مع رغبات حلف شمال الاطلنطي، فجر الموقف من جديد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش مشروعه السلمي بتصريحه انه لن يقبل او يسمح بدخول قوات منتمية لحلف الناتو الى أراضي بلاده لتساهم في تشكيل قوة حفظ السلام لأنه يرفض ان يعطي هذا الحق للذين قصفوا وطنه وقتلوا شعبه.
لم يدمر هذا التحفظ وحده على قوات حفظ الأمن المبادرة السلمية، وإنما قضى عليه تماما التأكيد بأن عودة اللاجئين لن يكون بالضرورة الى اقليم كوسوفا وإنما لمناطق أخرى من اقاليم الصرب ومعنى ذلك بأن التهجير سيتحول من خارج الصرب الى داخل الصرب حتى يتم تفريغ كوسوفا من سكانها الألبان المسلمين واعطائها للمسيحيين الأرثوذكس الذين يعتبرون عاصمتها بريشتينا أرضا مقدسة عند الكنيسة الشرقية.
هذا التوجه في تبديل سكان الارض الذي يهدف الى تشتيت المسلمين في اقاليم متعددة داخل صربية لكسر شوكتهم لا يتناغم مع الدعوة المطالبة بانهاء أعمال العنف من كافة الأطراف، لان فصل الإنسان عن اقليمه سيصعد مقاومة شرسة ضد هذا المسلك الصربي بكل ما يترتب على ذلك من أعمال عنف متبادلة بين أهل كوسوفا وبين الراغبين في الاستحواذ عليها بدون حق.
اما الدعوة الى تسوية سياسية يتم التفاوض عليها فصعدت ضد سلوبودان ميلوسيفيتش تمردا شعبيا عليه وانتقادا سياسيا له يستندان الى منطق يتساءل عن سبب رفض التسوية السلمية في مرحلة ما قبل الحرب، والقبول بها بعد تدمير البلاد وقتل المواطنين، وأخذت المعارضة بدعم شعبي قوي تطالب بعزل سلوبودان ميلوسيفيتش من السلطة وتقديمه الى المحاكمة لأن تدمير الوطن وقتل المواطنين يمثل جريمة كبرى يستحق المسؤول عنهما العقاب الصارم حتى لا يتكرر هذا العدوان مرة اخرى ضد الشعب والارض بسبب اطماع كاذبة وسوء تقدير لإمكانات المواجهة الفكرية.
هذا الفهم للمبادرة السلمية الصربية التي حملها القس الامريكي جيسي جاكسون الى واشنطون جعل المتحدث الرسمي عن حلف الناتو جيمس شهيه يعلن رفض الحلف لها لانها غير جادة في أهدافها بالتحفظ عليها ولوي دلالاتها وتصاعد المعارضة الداخلية في الصرب ضد سلوبودان ميلوسيفيتش.
وقرر جيمس شهيه بوضوح ان قوات الحلف ستواصل عمليات الضرب لبلجراد وغيرها من اقاليم الصرب حتى يخضع الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش للارادة الدولية التي تقرر ضرورة الحكم الديمقراطي في كل دول اقاليم البلقان لانها صمام الأمان الاستراتيجي لكل القارة الأوروبية.
واضح ان اسراع بروكسل في اعلان موقفها من المبادرة السلمية الصربية ترمي الى اثبات بانها صاحبة القرار لحلف شمال الاطلنطي الناتو وليس واشنطون لتثبت ان للحلف استقلالية عن الولايات المتحدة الامريكية على الرغم من كونها أكبر أعضاء هذا الحلف العسكري.
لم يكن ما قاله جيمس شهيه مجرد تهديد بالقتال لان أقواله ترجمت عمليا بمواصلة ضرب قوات الناتو للصرب التي كانت آخر أهدافها محطات توليد الكهرباء بصورة جعلت بلجراد وغيرها من مدن صربية تغرق في الظلام الدامس، وهو ما زاد من سخط الشعب على الحاكم وزاد من خوف الحاكم من نتائج القتال الذي يستهدف اسقاطه من سدة الحكم وإلقاء القبض عليه وتقديمه الى محكمة دولية باعتباره مجرم حرب بكل ما يترتب على ذلك من أحكام تصل الى الحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
لا يزال ملف الصرب مفتوحا على الساحة الدولية وسيواصل الناتو أعماله العسكرية ضد ارهاب الدولة الصربية حتى يرضخ الحاكم في بلجراد للإرادة الدولية التي لم تعد اليوم القبول بالتسوية السلمية التي كانت سببا للقتال وانما تسعى هذه الإرادة الدولية الى محاسبته عن جرائمه الارهابية ووضع الضوابط التي تضمن عدم تكرارها كنتيجة طبيعية للحرب.
ان التورط بالدخول في الحرب لأسباب دفعت اليها، فان ذلك لا يعني بالضرورة إنهاء الحرب بنتائج ترفع تلك الأسباب وهو ما تريده بلجراد بمبادرة الصلح التي ارسلتها الى واشنطون,, لان الحرب في كل زمان ومكان تبدأ بأسباب وتنتهي بنتائج لا علاقة لها بالأسباب التي اشعلتها وهو ما تسعى اليه بروكسل بمواصلة جند حلف الناتو للقتال لتصل الى النتائج التي توازن الوضع الاقليمي في البلقان وتبعد عن تخدير تلك الأوضاع في البلقان برفع الأسباب التي دفعت الى قيام الحرب بها.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved