Thursday 29th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 13 محرم


الشعر والجنون (3)
د, حسن البنا عزالدين

نلم اليوم بالاشارات الأساسية إلى فكرة التعلم في سياق الشعر والفن عند الاغريق، وذلك في مقابل فكرة العبقرية المرتبطة بالجنون أو بالالهام الإلهي, وسوف نمهد بذلك لتناول فكرة العلم في التراث العربي والاسلامي وعلاقتها بالشعر والجنون كذلك في الحلقة القادمة.
لم يكن لدى الاغريق كلمة تشير إلى العبقرية، او حتى القدرة الابداعية، على حد تعبير بنيلوبي مري محررة كتاب (العبقرية) المشار إليه في الحلقة السابقة، وصاحبة الفصل الاول فيه, ولكننا ندين لهم ببداية الاهتمام بطبيعة القدرة الابداعية، وبالفكرة الرئيسية عن رموز الجمال التسع رمزا لالهام الشاعر لاكثر من ألفي عام في تاريخ الحضارة الاوروبية, كذلك صاغ الاغريق افكاراً كانت مهمة وأساسية في التاريخ اللاحق لعلم الجمال, أما الفكرتان الاساسيتان المتصلتان بمفهوم العبقرية وصورة الشاعر في هذا السياق فهما أولا فكرة الإلهام الإلهي، وهو الاعتقاد الذي يعزو العنصر الذي يبدو غامضا في الابداع الشعري إلى تأثير مؤقت لقوة خارجية، وثانيا الفكرة التي ترى ان الشاعر نفسه لديه موهبة فطرية او مقدرة طبيعة توهب له بصورة من الصور، ولا يمكن اكتسابها بالتعلم, وكما تقول مري بقيت هاتان الفكرتان منذ ذلك الحين ونادراً ما أنكر أحد ما وجود عامل معين موهوب في التأليف الشعري حتى في تلك الفترات التي ركزت فيها النظرية النقدية على القواعد والصنعة الفنية او التكنيك، وسيطرت فيها الصورة التي ترسم الشاعر رجلا حرفيا.
وبجانب قيام ملهمات الفنون بمنح الموهبة الشعرية، فإنها على ما يقال تعلم الشعراء بصفة عامة: ففي الاوديسة نجد ان أوديسيوس على سبيل المثال يطري ديمودوكس قائلا: لابد من علمه هي: احدى ملهمات الفنون أو أبوللو, ويدعي هسيود أن ملهمات الفنون علمنه الانشاد الجميل, ويشير صولون السياسي والشاعر والمشرع اليوناني (638 - 559ق,م) وأحد حكماء اليونان السبعة إلى شخص ما تعلم ما وهبته إياه ملهمات الفنون, وتعلق مري على هذه المقولات بأن المعنى الدقيق لها ليس واضحا، على نحو ما علق كذلك عليها باستخفاف اليوس اريستايدز، وهو سفسطائي من القرن الثاني الميلادي بقوله: كيف تعلم ملهمات الفنون؟,, هل يكون ذلك بفتح مدرسة كمعلمي الالزامي؟
وتستدرك مري بأن استعارة التعليم تؤكد على وجه العموم مظاهر الحرفية في مهنة الشاعر، في الوقت نفسه الذي تنطوي فيه على مصدر مقدس: المقدرة الشعرية براعة، ولكنها براعة تأتي من السماء, والأمر الذي يثير الدهشة هو عدم وجود اي اشارات في الادب الاغريقي المبكر عن امكان تعليم شاعر شاعراً آخر، رغم تأكيد طبيعة حرفة الشاعر البارعة, وفي الثقافة التي تقوم على التلقين، كان على المبتدئ في الحقيقة ان يتعلم مبادئ حرفته بالاستماع إلى من هم اكثر منه خبرة، ومع ذلك كان التعليم يمنح بوصفه حقا إلهيا, ومرة اخرى يتدخل اريستايدز بتعليقات مشابهة للمذكورة اعلاه وذلك عندما يعرض لتمجيد اوديسيوس لديمودوكس بالمقولة العامة: وهي أن الشعراء الجوالين جديرون الاجلال لأن ملهمة الشعر علمتهم وهي تحبهم, يعلق اوريستايدز بقوله: كا لو ان هوميروس كان يخشى من جانبه ان يقول احد من الناس انه تعلم من احد آخر وليس من ملهمات الفنون انفسهم , والامر المهم بالنسبة للموهبة واستعارة التعليم فهو انهما يستخدمان أساسا في وصف القدرات البارزة والخصائص المميزة, وهذا في الحقيقة هو السبب في ان مصدر علمهم ليس من البشر, ولدينا موقف مناقض لهذا في شذرة من قصيدة كوميدية اغريقية مفقودة تسمى مارجيتس، أي الأبله ، وفيها وصف لشخص ما بأنه معدوم المواهب كلية لانه لم يتلق علمه من السماء, فالشعراء إذن متميزون عن غيرهم من الجماعات الاخرى في الادب الاغريقي المبكر من خلال تواتر الاشارات الى الوضع الخاص للشاعر وتأكيد صلاته بالسماء, ،مما لاشك فيه ان هذه الفكرة ناشئة إلى حد ما عن الحقيقة التي تعتبر الشعراء مصدرنا الاساسي للمعلومات في اثناء هذه الفترة.
والواقع ان الشعراء الاغريق الاوائل كما يبدو لنا، ليس لديهم اي تصور بأن الموهبة الشعرية او غيرها من الامور الاخرى المتصلة بها، يمكن ان تكون فطرية, وربما نجد بدايات هذه الفكر في ادعاء فيميوس (في الاوديسة) بأن الرب غرس فيه المقدرة على الانشاد ويترجم بعض الشراح فعل (غرس) بمعنى (نمّى) حيث تعني العبارة كلها الرب نمّى في القدرة على الانشاد , ولذلك فمن الجائز ان يكون ادعاء فيميوس ارهاصا للفكرة التي ظهرت فيما بعد والتي ترى ان الموهبة الشعرية فطرية ولا يمكن ان تكتسب.
وتذكر مري انه لا يوجد ما يشير إلى الاعتقاد بأن الموهبة الشعرية موروثة او منحدرة من جيل الى جيل، وهو امر ربما يكون مثيرا للدهشة بالنظر إلى الاهمية المرتبطة بالنسب والسلالة في اشعار هوميروس، اي سلاسل النسب المرتبطة بالعرافة والحرف ولكن لم يرو عن الشعراء شيء من سلاسل النسب هذه في العصر المبكر، وان ذهب البعض الى ان ما قاله هسيود ن ان المنشدين هم من ملهمات الفنون إنما هو تعبير قد يشير إلى الانتقال الوراثي بمعناه الحرفي لكن هذا تفسير للعبارة في ضوء ما شاع بعد ذلك من موجة تتبع اثر اسلاف الشعراء المشهورين مثل هوميروس وهسيود،وذلك من خلال الرجوع الى الشخصيات الاسطورية لاورفيوسش او موزايوس او لينوس وصولا الى ملهمات الفنون, وحتى في سلاسل النسب هذه يكون التركيز على الطبيعة المقدسة للشعراء أكثر من على مسألة الوراثة، وذلك على نحو ما نجد في حالة هسيود الذي يعتبرنفسه كائنا خاصا، وتنطوي حكايته عن الالهام الذي انعمت به عليه ملهمات الفنون، على الاعتقاد بأنه بمعنى من المعاني شخص متفرد عن الآخرين بتجربته, وفي حين يعتبر هسيود وهوميروس الموهبة الشعرية هبة ممنوحة للانسان في بعض المناسبات المهمة في حياته، يعتبرها بندار هبة الطبيعة، منحت له بطريقة مقدسة وان كانت فطرية.
وتفوق الخصائص الطبيعية او الخصائص الموروثة على التعليم موضوع او موتيفة متكررة في شعر ثيوجنيس شاعر المراثي الاغريقي الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وهو يقابل بين مقدرة الانسان صاحب التفوق الموروث وعجز من تعلم فحسب انسان بلا ضياء، يلهث هنا وهناك، ولا يدخل حلبة النضال بقدم ثابتة، ثم هو يتعامل مع الفضائل التي لا تحصى بعقل مغلق .
وفي عصور تالية صار بندار رمزا لقوة الطبيعة الساحقة، التي تبلغ قدرا كبيرا من العظمة، يتعذر معها على قواعد الفن التقليدي ان تحدها، كما صار مثالا للعبقرية الوحشية الفطرية, لكن اصرار بندار على تفوق الفطرة على التعلم يؤيد هذه الصورة التي وصف فيه هوراس بندار بأنه عميق الصوت، جدير بغار ابوللو, وقد أشرنا في الحلقة السابقة الى اهتمام المعلقين بالتناقض الذي يثيره بندار بين الموهبة الفطرية والتعلم في سياق جدل الطبيعة والصنعة حول الشعر والخطابة.
وتنقل مري الموضوع من الشاعر والخطيب الى الفنان فتجد ان مفهوم الفنان في العصور القديمة لم يكن ابدا تام الانفصال عن مفهوم الصانع الماهر, ومن السمات التي تتصل بالمواقف القديمة بالنسبة إلى الفن عدم وجود تقليد يربط الفنانين بالالهام، فالشعراء هم الذين يتلقون الالهام وليس الفنانون, وترى مري ان الامر الذي لم يلتفت إليه كثيرا، هو ان التفرقة بين الصانع وانتاجه تنطبق كثيرا على الشعر كما تنطبق على غيره من اشكال الفن، فمذهب افلاطون عن الجنون الشعري يفصل بين انتاج الشاعر كلية والشاعر نفسه، الذي يصبح مجرد ناطق باسم ملهمات الفنون، ولكن الشعراء بادعائهم انهم يتلقون إلهاما إلهيا، يؤكدون علاقتهم التقليدية بالسماء،و وبهذا يكتسبون وضعاً ينكر على المصور والنحات, ولم يحدث الا ابتداء من عصر النهضة ان تحرر الفنانون تماماً من الارتباط بالعمل اليدوي، وتمكنوا من احتلال مكانهم بجوار الشعراء، على اساس أنهم متلقون للقوة الملهمة المقدسة.
وتشير مري إلى مسألة اخرى في صدد بحثها عن العبقرية، وهي مسألة لها ما يقابلها في التراث العربي كذلك والمقصود هنا هو القصص والاخبار التي تروى عن الشعراء القدماء وحياتهم, وهي ترى ان الكتاب القدامي في نصوصهم الاخبارية هذه لا يبدون اهتماما بينابيع شخصية الشاعر كما هو المتوقع اليوم من كتاب السيرة الذاتية، كما انها ترى اننا لا نجد في تلك الاخبار القديمة عن الشعراء اي مكان للفكرة السائدة في العالم الحديث، وهي ان الانجاز العظيم يمكن تفسيره في ضوء الشخصية فتراجم حياة الشعراء والمشاهير في الكتابات القديمة لم يكن من بواعثها إلقاء الضوء بطريقة ما على عمل الشعراء والمشاهير نفسه, وقد اشارت مري إلى ان الصورة التي رسمت مثلا لسقراط في الكتابات القديمة لا تفيد كثيرا بقدر ما يذكره هو نفسه عن حياته من معلومات يمكن ان تجد مكانا لها في اي بحث عن تطور فكرة العبقرية, فبدلا من محاولة تفسير العمل الفني في ضوء حياة الفنان كانت السيرة توضح من خلال العمل الفني/ الشعري, وبالطبع لو أننا اتفقنا مع مري حول هذا الامر من حيث المبدأ فقد نختلف معها من منظور الدراسات الحديثة في اهمية تأويل هذه الاخبار والقصص عن حياة الفنانين والشعراء تأويلا رمزيا بوصفها نصا موازيا لنصوصهم، كما اننا نستطيع ان ندرسها من زاوية نظرية التلقي.
وتنهي مري كلامها بالاشارة إلى مقالة يونج في القرن الثامن عشر عن آراء حول مدلول الابداع الاصلي , هنا تعزى العبقرية إلى عقل العبقري نفسه, ان الانسان عند يونج هو مصدر قواه الخلاقة، يقول: العلم نحن نحمده، والعبقرية,, نحن نوقرها,, فذلك يهبنا المتعة، وهذه تهبنا النشوة ذاك يخبر وهذه تلهم، وهي نفسها ملهمة, وان كانت العبقرية من السماء، فإن العلم من الانسان (,,,,) العلم معرفة مقتبسة من الغير، والعبقرية معرفة فطرية، وهي ملك لنا تماما, وتؤكد مري ان تأثير العصور الكلاسيكية القديمة ادى دورا حاسما في تشكيل المراحل المبكرة لتطور مفهوم العبقرية في القرن 18 وصور الشاعر, بوجه عام بوصفه كائنا ملهما هي نظير قديم للفكرة الحديثة عن العبقرية، إذ تشارك كلتاهما في الاعتقاد الاساسي في تعذر تفسير العمل الخلاق.
إن تأمل مادة العلم في القرآن الكريم لتكشف لنا عن اعماق نفتقدها في النظرية الاغريقية، فالشعر في العربية يرتبط بالعلم، كما ارتبط الشعر بالجنون في القرآن الكريم، وكذلك ارتبط العلم بالجنون نفسه كما في آية الدخان.
وسوف نعرض لهذا محاولين التماس ابعاد للموضوع لايمكن ان تكتمل إلا بالتأمل في النص الكريم، ذلك التأمل الذي يساعدنا على اضاءة نصوص اخرى نعجز عن فهمها على وجه صحيح.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved