Thursday 29th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 13 محرم


مساقات
المساق 126: طقوسية التبادل
د, عبدالله الفيفي*

قطرةٌ واحدة
قطرةٌ ثم أخرى
قطراتٌ طوالٌ على هذه النافذة
كنقاط التعجّب,,.
بعد حينٍ يغادرُ نيسانُ
محتملاً، مثل رحّالةٍ، روحهُ وروائحَهُ
تاركاً للغبارِ نقاطَ التعجّب
تاركاً لي البقاء
(س, يوسف).
,,,,,,.
هكذا تتركنا المواسم، ثم نتركها نحن,, (بادانا صاحب الجرجاني بعد صمت مريب استمر وقتاً)، مثلما تتركنا النصوص تاركة للغبار نقاط تعجبها عبر السنين والأجيال,, وهكذا تنداح دائرة التلقّي,, وتتسع الشقة بين المعنى الكامن في النصوص والمعنى الكامن في النفوس, وليست كل هذه المساقات إلا آثاراً من هذه العملية، التي تسعى لأن تحتكم إلى حد أدنى من العلمية، التي لا يمكن إلا أن تكون مقاربة لا مطابقة.
وفي سياق المداخلة المستمرة مع كتاب صاحبنا (ابن مصلح) "حجاب العادة (أركيولوجيا الكرم، من التجربة إلى الخطاب)"أشير في مساق سالف إلى "التفسير الطقوسي لقصيدة المدح",, ل(سوزان بينكني ستيتكيفيتش) في الفصل الأول من كتابها "أدب السياسة وسياسة الأدب"- حسب ترجمة الزميل د, حسن البنا - تحت عنوان "قصيدة المدح وطقوس الفداء في الجاهلية"، وذلك عن بائية علقمة الفحل، لما لهذا الموضوع من علاقة بأطروحة ابن مصلح العتيدة، وإن لم تك علاقة مباشرة، وهو ما يُستأنف في هذأ المساق الحديث فيه.
فقد انتهت إلى أن قصيدة علقمة الفحل المعلّقة "طحا بك قلب في الحسان طروبُ"، نموذج للمديح بوصفه مقايضة طقوسية، مستدلة بسياق القصيدة من قصة افتداء علقمة أخاه شأساً من أسر الملك الغسّاني الحارث بن جبلة، مع عدد من بني تميم، قبيلة الشاعر,, ولا غرو فالشاعر كان يؤدي مهمّات جلّى كثيرة في ذلك العصر لا تُعرف له في غيره,, ذلك ان التاريخ والفني والطقوسي في ثقافة العصر الجاهلي كانت شيئاً واحداً أو كالواحد,, وما لم نقرأ شعر العرب إذ ذاك على هذا الكيف فلن نفهم الشعر ولن نفهم تاريخ القول أو تاريخ القائليه,.
ومع ان الباحثة تدهشك قراءتها المقارنة التي ترى في أدبنا ما لم تره عينانا قط - فضلاً على ما تحمله قراءتها من دليل على طقوسية الكرم، الذي تحدثت عنه المساقات السالفة، من حيث هو الآخر سلوك اجتماعي يتداول (كرماً بكرم، أو كرماً بحمد ومديح) في وظيفة تقايضية طقوسية مَرعِيَّة، عَرَّى أساسها بيتُ "وإنّا لنجفو الضيف,,,"، السابق تحليله - مع ذلك كله فإن منهجها في تلك القراءة بدا الاسقاط عليه طاغياً؛ لأنها أقامت النظرية - التي اشتقتها عن البحث الرائد في مجال التبادل الطقوسي لمارسل موس Marcel Mauss "مقال عن الهدية، الاشكال القيمة للتبادل"، الذي يفسر فيه مميزات التبادل الطقوسي ووظائفه _ كأساس، جاءت القراءة تلتمس نظائره في النصّ، وكان المنهج ان يأتي النصّ أولاً ليقترح نظريته,, لا العكس.
ها هنا يكمن الخلل المنهجي، حين تسيطر على الباحث نزعة أو نظرية او فكرة، يودّ ما وسعه الودّ أن يعبّر عنها او أن يبرزها - أو حتى ان يبرز ذاته هو من خلالها - فإذا هو يلبسها نصّاً قد تقصر عنه او تطول أو تضيق عليه او تتسع، فيفسد النص والنظرية في آن.
ولئن كانت براعة المقايسة والترقيع عند حرفيي مثل هذا المنهج قد تحول دون تهرؤ النظرية أو تشوه النصّ فتأتي دراساتهم مدموغة بجاهزية القالب "في ضوء,,,"/ "في إطار,,,"/ "من منطلق,,,"، دون أن تشكّل هي من ذاتها ضوءاً أو إطاراً أو منطلقاً منهجياً، عجزاً عن استنباط خصوصية مختلفة عن قالب ناجز - لئن كان ذلك كذلك فإن جرة الباحث/ الباحثة من هذا النوع لن تسلم له/ لها في كل مرة؛ لأن حاملها وهو يتهادى بها ليحطها في غير موطنها إنما يشق على نفسه مشقّة تهون عندها مشقة التنقيب في نطاق مادته، وفق معطياتها وظروفها النوعية.
لا ينفي هذا قدراً من الشركة الثقافية الإنسانية، ولا يلغي مشروعية الإفادة من تجربة في درس تجربة شبيهة، كما لا تنصب هذه المقدمة من المساءلة المنهجية كليّاً على عمل سوزان ستيتكيفيتش، لكن عَرَضاً واحداً ينبهنا عادة إلى ما يمكن أن يكمن وراءه من داء عضال يؤذن باستفحال مرضي مستقبل، فلا أقل من أن نفحص الحالة قبل أن نؤخذ بالاطمئنان إلى مظاهر اخرى تبشّر بالعافية والسلامة.
لقد ذهبت ستتيكيفيتش تفهم قصيدة علقمة المعلّقة فهماً خاصاً لا يتساوق ومنطق الضمائر في النص، كما يفهمها القارئ العربي، فمن ذلك قولها عن الأبيات التالية في مدح الحارث الغساني في قتاله المناذرة:
27- فقاتلتَهم حتى اتقوك بكبشهم
وقد حان من شمس النهار غروبُ
28- تخشخش أبدان الحديد عليهم
كما خشخشت يبس الحصاد جنوبُ
29- وقاتل من غسّان أهل حفاظها
وهنب وقاس جالدت وشبيبُ
30- كأن رجال الأوس تحت لبانه
وما جمعت جل معاً وعتيبُ
31- رغا فوقهم سقب السماء، فداحضٌ
بشكّته لم يستلب وسليبُ
32- كأنهم صابت عليهم سحابةٌ
صواعقها لطيرهن دبيبُ
33- فلم تنج إلا شطبة بلجامها
وإلا طمرّ كالقناة نجيبُ
34- وإلا كميّ ذو حفاظ كأنه
بما ابتل من حد الظبات خضيبُ
35- وأنت الذي آثاره في عَدُوِّهِ
من البؤس والنعمى لهنّ ندوبُ,,.
حين تخدعها استطرادية القصيدة الجاهلية المألوفة، فتقرأ الإشارة إلى خضاب الكميّ الناجي من جيش المناذرة (البيت 33-34) على أنها إشارة إلى الكميّ البطل (الذي هو الملك الحارث الغساني نفسه! (الذي قاتلهم في البيت 27)، "وقد خضبت يديه الدماء السائلة على حد السيف مثل خضاب الحناء, ولمّا كان تخضيب اليدين بالحناء من شعائر الزواج نستطيع أن نرى في هذه الصورة الجمع بين بعث الحيوية والخصب، عن طريق سفك الدماء في الحرب من ناحية والخصب والإحياء عن طريق الزواج وإنجاب الأولاد من ناحية أخرى,, وأن التضحية بالدم من أجل إنتاج حياة جديدة(!)",, (ص 71).
(لكننا هنا مضطرون للتضحية ببقية المساق لصالح كاتب آخر، لنكمله في مساق آت، إن شاء الله).
* آداب جامعة الملك سعود - قسم اللغة العربية.

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved