Thursday 29th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 13 محرم


الثقافة رهان حضاري إرث الثقافات
أ,د, كمال الدين عيد

يتردد في عالمنا المعاصر تعبير الموروث الثقافي، والصحيح انه التراكم الثقافي الذي يتجمع هنا وهناك, وتقودنا لفظة Culturoiog التي اطلقها الالماني س, بوفاندروف S.pufenorof لاول مرة في نهاية القرن 17 ميلادي الى التعرف على الثقافة نظرية ومذهبا وعلما.
فالثقافة لا تورث لانها حركة ديناميكية دائمة تتغير وتتشكل بفعل الظروف والاحوال وسياسة الحكومات وقابلية او عدم قابلية استهلاكها من الجماهير والاجدر القول بأنه لابد من امتصاصها من قبل الجماهير وحتى يتم هذا الامتصاص فانه من الضرورة بمكان لمتجرع الثقافة ومستهلكها ان يتعرف على خطوط الاعلام فيها وفك شفرتها او رموزها (الكود Code), فما الثقافة الا نظام شفري يحوي مجموعة مبادىء او قواعد تظهر مصاغة في رموز شفرية وحتى يعرف الانسان واجباته في الحياة الثقافية والاساس في الثقافة هي اللغة كما ان المشكلة الاساسية فيها هي بناء التعبير اللغوي وبين الاساس والمشكلة تظهر طبيعة ومستوى النماذج الثقافية واختلافاتها.
ونعترف ان تعبير لفظة (الثقافة) واسع عريض (ومطاط) Elastic وهو يدخل في كل مناحي الحياة الانسانية ومع ذلك فان حدودا فاصلة حادة تفصل بين هذه الوحدة او التوحد في الثقافة، واراهما في الثقافة الحياتية والثقافة الروحية (الوجدانية) فالاولى معينها ومصدرها حياة المواطنة وحالة البيئة ودساتير الدولة اما الثانية فتستمد قواها من كبح جماح الانسان واحاسيس ذاته الداخلية وطرق التعبير عنده عن الحرية الخالصة وتبقى الثقافة في النهاية درجة من درجات التطور الاجتماعي التي لا يمكن رفصها او السكوت عن الاعتراف بها,, وما هو عامل ونذير التفاؤل في الثقافات عامة لكن هل سلمت هذه الصورة التفاؤلية من النقد؟ بالطبع لا.
فها هو الفيلسوف جان جاك روسو J.I. Rousseau يحذر من التفاؤل واضعا خطا احمر تحت متضادات الثقافة التي يلخصها في القوى الضاغطة او لنقل الكارهة على مقررات الثقافة وعلى دورها الانعاشي في الحياة حتى لتكاد تفقد اهم خصائصها التنويرية للانسان لكن روسو - مع ذلك - يعترف بجبروت الثقافة في بعث الفهم واحياء المشاعر وسيادة القانون وكلها عناصر تنويرةي لعقل الانسان الحر المثقف.
ويشارك في هذا المسار التنويري في الربع الاخير من القرن 18 الميلادي الفيلسوف الالماني كانط Kant باعلانه تعبير (الثقافة الانسانية الجديدة، Neohumane culture ) التي كشفت عن دور ومهام الثقافة بالنسبة لانسانهم المتردي آنذاك وفي تركيز كانطي (نسبة الى كانط) على فعل الطبيعة في النفس وعلى العقل كأهم عناصر نقل الثقافة واعظم مستقبل لها عن طريق الفهم والمشاعر والاحاسيس والاخلاقيات وتنمية كل هذه وتلك باعتبارها قاعدة المتطلبات الانسانية في أية حياة ثقافية, صحيح ان الانسان يميل في كل هذه العناصر السابق الاشارة اليها الى افعال الطبيعية وتفاعلاتها لكنه قادر بفعل الاشعار الثقافي والاصرار على الارتقاء - ان يحرر ابداعه الادبي والفني في الثقافة الى رفعة وسمو، والى توازن متناغم منسجم يرفع معها الابداع الى صفات الفضائل وقنوات التهذيب.
هذه الهوة الواسعة بين الانسان وثقافته المتردية وبين الانسان والثقافة الانسانية الكانطية تكشف عن وجود عامل ثقافي مضاد وخصام وعداء Antagonism وتظهر في صور خصام ومقاومة ومعارضة تشير الى الانانية الكامنة في نفوس البشر ولا يبقى من الموقف المتضاد هذا الا التغلب على الطبائع المولودة مع الانسان، وقدرته الذاتية على استعمال عقله وتشغيله وتفعيله والاستئناس في ذلك بالتطور التاريخي في عالم الثقافة, بعدها يمكن فقط جني ثمار الثقافة.
وطالما تعرضنا لرأي كانط في الثقافة فلا يجب اهمال زميله الفيلسوف الالماني هجل Hegel الذي استعمل تعبير (التثقيف) في فلسفته بشكل مكرر للوصول الى التطور والتقدم وهو يرى ان نظام العالم تحكمه بابة مركزية Category يسميها (عالم روح الاغراب) وتقصد التسمية القول بان العالم يتغير دوما من تلقاء نفسه في الزمان والمكان ودون اية اعتبارات لحرية الروح او النفس والانسان في هذا العالم يبرز بذاتانياته ليتقابل في الحياة مع الاهداف والاغراض Subjectivism والتي تقيم معرفته كلها على اساس من خبرته الذاتية.
هذا الموقف الانساني يتفاعل ايجابا مع الاهميات رغم ميله الى الطبيعة القديمة وتاثيراتها الكامنة في النفس البشرية ومع ذلك فان (الحدث Action) في نفس الموقف ينتصر بالايجاب خادما بطريقة غير مباشرة الروح الداخلية وهكذا كلما تمعن الانسان في الروح، كان اقدر على تكثيف الحدث والفعل تجاه التطور البشري, فالتفكير في التثقيف - بحسب تعيير هجل - يلزم النفس البشرية على ارتياد طرائق النظرية الثقافية والتعود على فحصها واكتشاف آفاقها نحو التقدم الثقافي ويرى هجل ان التثقيف - كتعبير - ليس مضمونا فقط لكنه اشكال اتصال كذلك ينبغي الاطلاع على دياليكتيكية وجدلية التأثيرات المتبادلة في هذه الاشكال ففي فلسفة التطور المعرفي نتعرف على مستويات تسبق هذا التطور تتضمن الدين والاخلاق والفن كما ان التثقيف في مراحله الفلسفية الاولى قد سعى الى التعريف بالعلاقة التاريخية للانسان وارتباطها بالحاجات الثقافية له, وهو نفس الهدف الذي بحث فيه علم الانسان (الانثروبولوجيا) مؤخرا لاكتشاف هذه العلاقة الابدية التي قدم فيها الانسان متأرجحا بين الطبيعية والنفس في ثنائية الهية.
وفي علم الثقافة يكتب الالماني كليم ZG. klemm كتابة من جزأين بعنوان (الاتجاه التاريخي للثقافة الالمانية، يناقش فيه نشوئية الثقافة culture Evolutionism رابطا بين الاشكال والمظاهر التاريخية للثقافة والاثنولوجيا (علم الاعراق البشرية) مكتشفا العلاقة في (روح الشعب والافراد) والتغيرات الطارئة عليها والتي ينتج عنها استمرارية حياة تطرح في عالم الثقافة وعلومها ميلادالنشاطات الثقافية ومن ثم تطورها وازدهارها ثم انتهاء فترتها, وبذلك يرسم كليم دورة الثقافة في فلسفة انبثاقها، في اعتماد على الذات الانسانية (والمقصود هنا ابداعاته الثقافية) في انتاج من نبع ثقافي صاف وفي اعتراف بالتضاد بين الطبيعة والنفس، ولكن في تأييد لتصدير الحقيقة الحياتية,, الطريق الاوحد الى مرحلة الحضارة, هذه الحقيقة التي عادة ما تحمل مشاعل التقدير والتثمين والجمال والحق والفضيلة والعقائد الدينية السمحاء وتضعها في الدين والفن والعلم لتجسيد الحياة الثقافية بصفات وعلامات وامارات عقلانية مؤثرة في الانسان وعالم الانسانية، من الطبيعي ان تؤثر بحكم الانتقائية Election والاصطفائية التي تحملها بين جنبيها والتي من شأنها السماح بالسيطرة على خطط الثقافة ومقدراتها, تظهر كل هذه النتائج - عمليا وسلوكيا وتصرفات - على صدر الانسان في النظام، والاحترام والانضباط ، والنظافة، والرقة في المعاملات، والجمال وتقديره، كل خطوات الانسان وتصرفاته لحظة بلحظة وفي مواجهة لكل المتضادات وكبت للنزوات والطبيعيات والغرائز الحمقاء في بعث جديد للفرح والبشر والسعادة والتفاؤل وفي اطار من السمو والرفعة Sublimity فالسمو ثقافة ايضا ترى وتظهر في ابداعات الفنون خصوصا حيث يعمل الفكر على مستوى عال محلق, وحيث تسجن الغرائز في خزائن الميثولوجيا القديمة العتيقة تطمسها المعرفة الانسانية ومكتسبات الحياة الصالحة المرتكزة على التفكير الانساني العقلاني وحده.
وفي قرننا الحالي تعلو صيحات الثقافة العملية الوظيفية Functional المتميزة بالفعالية والتي حاصرت اغلب متضادات الثقافة لتكون ثقافة نفعية ينتفع بها البشر في قرن العلوم والاتصالات منتفعة بكل الآراء الفلسفية السابقة عند اديلونج، هردر، كليم والانجليزي ب, تايلور.
Adelung, Herder Klemm, E.B. Tylor.
بحوث علمية في الثقافة
ساعد على استتبات امر الثقافة المعاصرة اتجاه عديد من الفلاسفة الى تشريح الحياة الثقافية متناولين بحوثهم بالتحليل والتفسير, فاضافة الى ما اشار اليه كل من كانط، هجل في تأملاتهما الفلسفية المتصلة بالانسان وحياته نعثر على اصدارات كاملة لمشكلات الثقافة.
فكتب تايلور عام 1871م كتابه (الثقافة البدائية)، كما كتب ل, ه, مورجان L.H. Morgan (المجتمع الاثري) وكتب و, ج, سومنر W.G. sumner (عادات الشعوب) وكلها مؤلفات القت جميلا من الضوء على عالم الثقافة والانسان الا ان كتابات ل, هوايت L. White قد اضفت جديدا على الفكر الثقافي عندما تعرض في عدة بحوث متصلة في الثقافة تتعلق بالمذهب النسبي Relativism (وهي نظرية تقول بان الحقائق الاخلاقية تتفاوت تبعا للفرد والزمان والظروف) وتكمن اهمية بحوثه في تعارضه مع النظرية وما تقوله في ميدان الثقافة فهو يعتبر ان الانسان هو الكائن الحي الاوحد الذي يمتلك الثقافة فالثقافة عنده (جدارية اضافية ممتازة) Somatic تظهر ولا تظهر على جسد الانسان وتتمتع بالامتداد والاستمرارية والتطور الذي يبرز على السطح في رموز يحافظ عليها انسان الثقافة بفعل قدرته على التصرف فما علم الانسان (الانثروبولوجيا) الا لمعان تصرفات الانسان ذاته وامام هذه البحوث العلمية يصعب على المرء فهم الارث الخالص للثقافات.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved