Thursday 29th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الخميس 13 محرم


أفق
مشهدنا الشعري,, تفريغ الوعي من التأمل الوجودي,,!
محمد الحرز

لماذا لا تقع تجاربنا الشعرية في منطقة التأمل الوجودي - الذاتي للحياة!!؟ ,, سؤال ينطوي على نوع من المجازفة لانه - اولا - يقودنا الى اصدار الاحكام القيمية ضد التجارب وان كنا نرى ان مشروعية السؤال لا تزال قائمة ولانه - ثانيا - يشير ضمنيا الى تفريغ الوعي الشعري من عنصر التأمل الوجودي بوصفه تأملا يدفع بالتجربة الشعرية الى اقصى قدر ممكن من استيعاب الحياة واستلهام اكثر عناصرها شاعرية وحساسية وهذا امر ينبغي ان يعيه العمل الابداعي اذا ما اراد ان يؤسس لشاعرية تكون قادرة على الاختراق والتجاوز في ظل استطالات شعرية تجاوزت زمنيتها واستعادت نفسها اكثر من مرة، وبالتالي استحالت لاى ترسبات اندماجية في تربة الشعر الحالي، لا تنفك تجاربنا الشعرية تستعيدها سواء من قريب او من بعيد, واذا كانت التجربة الشعرية في ساحتنا لا تخضع باستمرار للمساءلة النقدية في اللحظة ذاتها التي يتشكل فيها العمل الابداعي بأي شكل كان فان ذلك لا يفضي بالضرورة - في ساحتنا - لشحنها بتصورات او مقولات وهمية ترى ان الشعر اذا لم تواكبه حركة نقدية لحظة بلحظة فانه يظل قابعا في مؤخرة الركب او يظل منزويا على نفسه وعلى حركته ان هذه المقولات وما يأتي في سياقها، لا تنظر الى الشعر الا من خارجه بمعنى: انها ترتكز في استنتاجها حول علاقة الشعر بالنقد من الخارج وكأن الشعر لا يستطيع ان يسائل نفسه من الداخل او يجعل حدوده (الشعر) مع النقد في حالة متماهية مع بعضها البعض داخل النص نفسه الامر الذي يكون فيه النص - دائما في حالة تجريب مستمر،لايتوقف عند حدود معينة في الشكل والمعنى بل تنفتح حركته على كل ما هو شعري بحيث يجده منطمرا في الحياة اوفي الوجود او في الانسان او في التاريخ ولكن المسألة من الداخل ترتهن اساسا بالوعي وعلاقته باللغة والواقع ومن ثم يتشكل الوعي الشعري بوصفه تجليا من تجليات الوعي بشكل عام وهذا الامر يتضح كثيرا في تمظهرات القصيدة في شكلها النهائي بيد المتلقي حيث لا يبدو ان القصيدة في مشهدنا يستقطبها هذا الوعي المرتبط باللغة والواقع ولا يبدو كذلك ان الوعي الشعري الملازم للقصيدة يحمل في داخله عناصر البحث والتنقيب عن جماليات فنية هي في العمق منها تراكمات معرفية وثقافية تأملية واذا كان يحدث في القصيدة في بعض التجارب نوع من الازاحات الاستثنائية التي يتحقق من خلالها بعض من الجماليات الشعرية المتفردة عندنا الا ان ذلك لا يمس مفهوم بنية الشعر بوصفه مفهوما ينبغي ان ينظر اليه - في مشهدنا - على انه جزء مركزي في حياتنا اليومية وليس بوصفه شيئا عابرا ومألوفا وطارئا في بعض الاحيان وهنا نحن نعني تلك المسافة التي تفصلنا عن الشعر,, تلك المسافة التي نملؤها بالقيمة التي نعطيها للشعر في حياتنا اليومية هذه القيمة التي يتم من خلالها التعرف على الكيفية التي نتعامل بها مع الشعر وكيفية ممارسته في الخارج بمعنى آخر,, اننا معنيون بالدرجة الاولى بتفكيك الرؤى والمفاهيم التي ترسخت في اذهاننا عن الشعر,, اي تفكيك الذاكرة واعادة صياغتها من منظور الواقع في سيرورته الحياتية في شتى جوانبها وعناصرها المستقبلية التي تنبىء عن المجهول في حدود تعالقاته الادبية والثقافية والمعرفية الامر الذي لا يتطلب التمييز فقط بين ما هو خارج الشعر وما هو داخله,, بين ما ينبغي ان يكون عليه الشعر من الداخل وما ينبغي ان يكون عليه الشعرمن الخارج فمهم جدا من الناحية التنظيرية - الاجرائية الفصل او التحديد بين ما هو خارج وداخل في الشعر ولكن الامر لا يتوقف عند ذلك وانما تجاربنا اليومية في الحياة لها الدور الاكبر في توسيع مفاهمينا وتصوراتنا الاساسية والشعر احدها بمعنى: ان التحفيز المتواصل لعنصري الخيال والحواس يؤدي تلقائيا الى ممارسة جمالية تتحول شيئا فشيئا الى ممارسة لفظية تندمج في مرحلة متأخرة من النضج في تركيبة الوعي الشعري للنص وبالقدر الذي يتأسس النص الشعري على مجموعة من الافرازات الجمالية التي هي وثيقة الصلة بالتجربة اليومية وكذلك بالقدر الذي يكون فيه (النص الشعري) قد اقترب بصورة او بأخرى من التجربة الوجودية للكائن، فان انعكاسات ذلك سوف تتجلى بوضوح على مشهدنا الشعري الحالي بحيث تصبح علاقة الشعر بالانا هي علاقة مقاومة ضد اسطورة الحياة نفسها ومحاولة للادراك والفهم واللافهم وليست علاقة يحكمها الطابع التقليدي الذي يسعى دائما الى التساكن والركود.
اذن بهذه الكيفية التي سبقت لا يمكن ان نجزم تماما ان علاقة الشعراء - عندنا - بتجاربهم الشعرية هي علاقة تثويرية،، تخلخلية للاشياء والموجودات وان كانت تحاول الانفلات من تبعية التقليد والجمود ولكنها تظل في جميع الاحوال تحافظ على مفهومها للقيمة التي تعطيها للشعر ومؤثراته اللاشعورية وموقعه من الذات والحياة والوجود هذه القيمة الشعرية التي لها حضور ميتافيزيقي في الممارسة الكتابية لا تتشكل من معطيات الواقع فحسب وانما الذاكرة لها التأثير الاكبر على هذا التشكل يضاف الى ذلك ان الذات الشاعرة لم تحسم ارتباطها بالشعر بالشكل الذي يجعله يمثل هاجسا مؤرقا للذات وعالما يستعصي على الادراك والمعنى والوضوح ولم تسع في تخطي العقبات المعرفية التي تواجه الشعر بشكل عام.
قد يشكل هذا المنظور مأزقا حقيقيا يطال مشهدنا الشعري طالما - اولا - كانت الممارسة النقدية لا تأخذ على عاتقها مهمة قراءة المشهد بوصفه وحدة تلتئم اجزاؤها في علاقة تكاملية منتظمة في سياق واحد اذ له من السمات اللاواعية التي تؤثر على تجاربنا الشعرية سواء كان هذا التأثير مباشرا اوغير مباشر بينما من جهة اخرى يتم التركيز في اغلب الممارسات النقدية على النص الشعري بوصفه كيانا معزولا عن المشهد في حركته التاثيرية الواضحة عليه وطالما - ثانيا - ظل الاحتراب في قضايا الشعر يكرر الاسئلة ذاتها التي لا تخترق الشعر من العمق وظل - ايضا - يغيب تحت تجاذباته الصراعية خصوصية المشهد وعمومية النص الامر الذي يصعب معه القفز على هذه الاشكاليات او تخطيها الى غيرها دون ان يكون لنا موقف نقدي ضد افرازاتها في الساحة ودون ان تتكون لدينا تصورات تنهض على اعتبار انها آليات عمل تستطيع ولو بصورة مبدئية ان تنجز عملا جادا يوجه الساحة الى منطقة قلما طالته الافكار واستحفرته المفاهيم والتصورات ولعلنا بالطبع نعثر على استثناءات من هذه الناحية ويمكن ان تدرج على سبيل المثال - لا الحصر - كتاب (حداثة مؤجلة) لمحمد العباس بوصفه كتابا ينطوي على جانب منه على مساءلات تأخذ بعين الاعتبار - وهنا المهم - حساسية تلك التحولات المؤثرة بحق - وان بشكل خفي ومستور - على معظم الابداعات الحداثية التي تشكلت في اطار تلك التحولات التي طالت الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بوجه عام.
ان الوعي بعدم واقعية اللغة كما يقول رولان بارت لا ينمو او يتشكل الا اذا كانت هناك مراجعة شاملة لمفهوم هذا الوعي كما اشرنا سابقا - ولآليات انتاجيته على مستوى النص الابداعي والثقافي واذا اخذنا بعين الاعتبار مقولة جوناثان كلر (لابد ان ينتهك العمل الادبي الصلة الضمنية بين المؤلف والقارىء) فان الذي يبدو عندنا ان النص الادبي متصالح تماما ما قارئه حتى في بعض اكثر التجارب حداثة، بمعنى انه لا توجد مقاومة للادراك والتفسير المرتبطين بالنص والقارىء على حد سواء فالنص كما يقول والاس ستيفنس: (ينبغي ان يقاوم الادراك بنجاح في معظم الاحيان) وهذا ما لم نجده في معظم تجاربنا الشعرية الحالية لذا فنحن ندرك تماما اهمية طرح السؤال الذي بدأنا به كلامنا من حيث هو يفضي بنا الى البحث عن كلمة الفعل عوضا عن فعل الكلمة,, الى الخروج من جسد الكلمة الى كلمة الجسد,, من تأمل المعنى الى معنى التأمل,, من ضيق المعنى الى سعة اللامعنى.
اننا هنا - ومما سبق - نطرح مجرد,, تأملات حول المشهد ليس بوسعها ان تكون حكما تيميا قاطعا ضد تجاربنا الشعرية وانما بوسعها ان تتحول الى قضايا ومسائل تجادلية تنجذب حولها الاسئلة والاشكاليات بالقدر الذي تبتعد فيه عن تشنجات الخطاب الادبي وسجاليته وربما - بذلك نكون قريبين من افق الشعر فيما الشعر يدخل في نفق المتاهة والتأمل والابداع.
محمد الحرز

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved