الخلفيات الجمالية والفلسفية للتراسل (2) د, نذير العظمة |
لم يصبح استلهام الصورة المرسومة او المنحوتة او المنقوشة غرضا شعريا بحد ذاته وغالبا ما اندرج في شعرنا في اغراض اخرى كالوصف, ان تحولات الصور البصرية في الرسم والنحت والنقش الى صور منطوقة شعرية فتحت الشعر على هذه الفنون ولكن التراسل كغرض شعري يتطور داخل القصيدة عبر العصور ولا يستقل عنها إلا في احوال نادرة.
وفي عصر النهضة توسعت نظرية الاغراض فاستحدث الشعراء الشعر التاريخي والاجتماعي والوطني, وحظيت الأوابد التاريخية، كالقصور والقلاع والمدن القديمة باهتمام القصيدة العربية منذ ايوان كسرى للبحتري إلا ان تحولات الصورة المصنوعة في الفنون البصرية بقيت متعلقة بأغراض القصيدة المعروفة حسب مقتضى الحال, وغالبا ما رفدت الوصف ولكنها في احيان اخرى تعلقت بالمدح والغزل والاستدعاء الاسطوري والتاريخ.
وافراز الصورة الشعرية من صورة في الفنون الاخرى كثيرا ما سما إلى مرتبة الشوارد ولاسيما إذا اسعفت المخيلة العين، بالصورة المطابقة، فنسترد بالسمع بالقصيدة المتطوقة ما ترسله العين الى المخيلة.
والسؤال هو هل هنالك مخيلة انسانية واحدة وعيون مختلفة ام عيون واحدة ومخيلات متعددة؟ وكيف تشترك المخيلة المتعددة من هذه السنسكريتية وفارس وحضارة العرب في ابداع الف ليلة وليلة ثم تتحول هذه الى سمفونية اي ملحمة موسيقية على يد عبقري روسي ويستلهم آخرون منها افلاما وباليهات (رقصات ايماثية) من الحضارة الغربية الحديثة (أوربا والولايات المتحدة) ويتحول المقروء إلى لوحات بصرية راقصة عبر تحوله إلى عمل موسيقي سمفوني.
ان التأثير والتأثر مع توفر وثائقه التاريخية احيانا ليس كافيا لهذا الابداع المشترك الذي تقوم به شعوب متعددة بجهاز مخيلة انسانية مشتركة.
إن التراسل بين الحواس في الابداع الفني حقيقة واقعة اكتشفها الرمزيون في فرنسا في الرسم والشعر ومارسوا تداخلها في ابداعاتهم الى حد التماذج وورثها عنهم السرياليون ولكن برؤيا فلسفية مختلفة.
ان تحولات البصري الى سمعي والسمعي الى بصري وتداخل الحواس جميعا وتناغمها ان هو إلا معبر عن النفس الانسانية الواحدة فليس عجيبا ان تتجلى هذه الوحدة عبر المخيلة التي تعود بالمتعدد إلى الواحد في الاعمال الفنية,إن تراسل الحواس عبر المخيلة امر يثير الدهشة فما ينقشه فنان على زجاج كأس صورة مجسمة من خلال الرؤية والعين تبدعه مخيلة شاعر آخر بالكلمات في قصيدة شعرية.
وكم من آية كريمة استوحى منها الخطاطون والحروفيون لوحات تدهش العين بامتداد الخط وانكساره واستدارته واستوائه والتفافاته, حتى يصير الشكل بحد ذاته معنى للعين في تواصل جمالي والمخيلة التي تحول البصري إلى السمعي او السمعي إلى البصري هي واحدة، وقدرتها على تجسيد الصورة بالنقش او الكلمة او اللون هي ذاتها, والصورة هي الصورة سواء تشكلت بالرسم او النقش او النحت او الكلمة وتصدر جميعا عن المخيلة, والسؤال هو هل تمسك المادة الصورة او الصورة هي التي تمسك المادة؟، ان المادة سواء كانت صخرا أو معدنا في النحت او قماشا في الرسم او صوتا في النوطة الموسيقية تلد ولادتها الفنية من خلال المخيلة بالصورة، فالصورة هي التي تهبها لا الشكل والوحدة فحسب بل تغرس فيها ايضا المعنى الانساني سواء أكان فكرا أو انفعالا عاطفيا او تأملا فلسفيا.
والوحدة العضوية التي تكلم عنها كولبردج ان هي إلا الصورة للمعنى الانساني الذي تبدعه المخيلة شكلا في كل موحد يؤثر فينا من خلال الحواس ويثير ذائقة الجمالية, والجوانب ان هي الا شبكة مرور انسانية لمخيلة مشتركة, وتذوق الفنون عام بين الناس في كل الثقافات, المخيلة هي الجهاز الذي يركب المفردات المتباينة في كل واحد منسجم ولكنها في تعاملها مع الطبيعة من خلال الوجدان تمارس حرية اوسع في تشكيل الصورة فما ينطبع فيها عبر العين انطباعا مؤثرا يتشكل صورة بواسطة اللغة وتلعب رهافة حس الفنان او الشاعر دورا بارزا في التقاط المؤثرات عبر الحواس وتحويلها الى المخيلة التي تركب المرئيات والمحسوسات والملموسات والمشمومات والمسموعات في صورة موحدة تضم الجزئيات المفردة والمركبة.
لكن المخيلة الشعرية في تعاملها مع الصور الجاهزة في الرسم والنحت وغير ذلك اقل حرية وحركة في انتاج الصورة, والجاهز من الصور في الفنون البصرية يشكل تحديا اكبر لاستنفار المخيلة الشعرية وقدرتها على انتاج الصورة لكن الجماليات التي تحكم ابداعات المخيلة في كلا الحالين واحدة, ان التصوير الطبيعي للأسد او النمر، او تصويرهما او اعادة تصويرهما وهما مصنوعان في الرسم والنحت، يقوم على قدرة المخيلة في محاكاة الاصل او ما اسماه الاغريق بال)Mimises( فإذا كانت الصور الطبيعية في الشعر والفن التي يأخذها الفنان او يستوحيها من الطبيعة الحية بعيدة خطوة واحدة عن الحقيقة فإن تصوير الصور المرسومة سلفا وتحويلها من البصري المرسوم الى الشعري المنطوق او بالعكس بعيد عن الحقيقة خطوتين, ومع ذلك فإن الشعراء والفنانين الذين يستلهمون الطبيعة، لم يستنكفوا عن استلهام التاريخ واستلهام الاسطورة، بل لم يستنكفوا أيضا عن استلهام الفن من الفن, فإذا كان الفنان يحاكي الطبيعة في فنه فإن اية محاكاة لفنه لفنون اخرى، كالشعر والرسم، او كالشعر والنحت، او كالشعر والموسيقى تصبح (هذه المحاكاة) لا محاكاة للطبيعة بل محاكاة للمحاكاة، لذلك يصبح ابداع المخيلة في هذا الاطار اكثر صعوبة, ونجاح الفنان في تشكيل الصور المحولة من فن إلى فن اكثر ادهاشا في احوال محددة وإن كانت اقل حيوية وهكذا تكون محاكاة الفن للفن من ينابيع الالهام الاساسية في تاريخ الحضارة والفنون الى جانب محاكاة الفن للطبيعة.
ان يرسم المتنبي معركة الحدث الحمراء في حضوره للمعركة فإنه يحاكي الطبيعة (البشرية) ولكن اذا جاء رسام واستوحى قصيدة المتنبي فإنه يحاكي الطبيعة المجسمة في الشعر بصورة مرسومة او منحوتة,والتعبير بالصورة هو فعالية مشتركة في كل الفنون فالشاعر والرسام والنحات والنقاش يمتلكون مخيلة متشابهة وان انتجوا أو شكلوا صورهم بمفردات ومواد مختلفة من كلمة ولون وحجر ومعدن.
وتحويل الكلمة الى صورة شائع في فن السينما والتلفاز وما يستهلكه الروائي من صفحات في وصف الخلفيات المكانية والزمانية ووقوع الحدث وجزء كبير من رسم الشخصية يتم في الافلام عبر الصورة فالرواية المصورة غير الرواية المقروءة وإن كانت القراءة اكثر تحريضا للمتلقي على التخيل وأكثر اثارة من التلفاز والسينما.
كذلك ان كثيرا من المبدعين في الرواية والشعر كثيرا ما يحولون الصور الى كلمات وبيانات لغوية فعل المخرج في الافلام تحويل الكلمات الى صور.
وهكذا يكون التعبير بالصورة قاسما مشتركا بين الفنون، ذلك لأن كثيرا من المبدعين يفكرون بواسطة الصورة وهو السر وراء تراسل الفنون وتحويل الصورة الى فكرة والفكرة إلى صورة، وتبادل الصور بين البصر والسمع وغيرهما من الحواس.
ولأن الصورة تحليل لمفردات الطبيعة الحية وتركيب لها في كل مجسم مؤثر تقوم به المخيلة لكن العين هي الكاميرا التي تبصر من خلالها هذه المخيلة من خلال اللغة المكتوبة او المنطوقة بينما الالوان والمعادن والاخشاب والاحجار هي المادة التي تتشكل منها الصورة في الفنون الاخرى.
ان ليل امرئ القيس صورة والجيش والمعركة في قصيدة الحدث الحمراء للمتنبي صورة، وحريق عمورية صورة، وربيع البحتري صورة، لكن الجهاز الذي شكل هذه الصور ان هو إلا مخيلة شعرية مبدعة مشتركة لأفراد ينتمون الى عصور تاريخية متباعدة وبيئات مختلفة,وهناك صورة اللون وصورة الحجر وصورة المعدن وصورة الكلمة، وسائل مختلفة تستخدمها المخيلة للتفكير بواسطة الصورة، وهذا التفكير بحد ذاته هو وراء التحولات من شكل الى شكل ومن حاسة الى حاسة النفس واحدة والمخيلة واحدة بحواس متعددة.
ان متعة العين والسمع والذوق وغير ذلك من الحواس رغم انها غاية للفنون المعنية الا انها غاية ووسيلة في آن للوصول الى النفس لأن بهجة النفس تعمق متعة الحواس وتتحرك بها صوب الواحد.
وكما يقود تعدد الحواس إلى النفس الواحدة فإن جوهر النفوس المتعددة يقود إلى الواحد الذي خلق هذه النفس البارئ المصور للكون الذي يشير الى الواحد ويقود اليه, وان الفنون المتعددة القائمة على هيكلية الحواس ان هي الا تعبير عن وتجليات النفس الواحدة التي تحن الى بارئها.
|
|
|