Wednesday 28th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الاربعاء 12 محرم


المملكة العربية السعودية ومؤسسها وتطورها السياسي*
د, محمد بن عبدالله آل زلفة**

في مطلع شهر يناير من عام 1902م استعاد الملك عبدالعزيز سيطرته على الرياض عاصمة مملكة ابائه واجداده، بامكانات قليلة من الرجال لا يزيد عددهم على ثلاثة وستين رجلا، وهو على رأسهم ومعه عدد من اخوانه وابناء عمومته قادما من الكويت بعد سنوات من العيش في المنفى مع اسرته كاملة في مغامرة عسكرية هي واحدة من المغامرات التي لا يقدم عليها الا من طلب الموت لكي توهب له الحياة حياة العزة والكرامة.
لم يكن الملك عبدالعزيز قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره حينما حقق هذا الانتصار الذي فتح له ابواب النصر مشرعة لاستعادة سيطرته على كل نجد بل استعاد بناء الدولة السعودية الكبيرة التي اقامها اجداده في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي حيث شمل نفوذها معظم انحاء الجزيرة العربية مشكلة اول دولة قوية متكاملة عرفتها الجزيرة العربية في تاريخها.
كان يحيط بمنطقة نجد - مسرح عمليات الملك عبدالعزيز - اثناء الفترات الاولى من مراحل التوحيد واعادة بناء الدولة نفوذ دولتين كبيرتين هي الدولة العثمانية من جهة وبريطانيا العظمى من جهة اخرى لكن نفوذ هاتين الدولتين ظل محصورا في المناطق الساحلية ولكن لا يعني ذلك انعدام نفوذهما على مجريات الاحداث في الداخل.
كان الملك عبدالعزيز حريصا على عدم الاحتكاك بهاتين الدولتين ولا بمناطق نفوذهما في الفترات المبكرة لتوحيد البلاد رغبة في تحييدهما من اجل المضي قدما في تحقيق مشروعه لتوحيد وسط نجد الذي ان تمكن منه سهل عليه فيما بعد التعامل مع ماهو خارجه من مناطق.
لم تكن المهمة سهلة فبلاد نجد تسكنها اكثر قبائل العرب جسارة واشدها تعصبا لبداوتها واكثرها رفضا لفكرة الحكومة المركزية وكانت كل قبيلة تعتبر نفسها دولة قائمة بذاتها وفي حالة حرب دائمة ومستمرة مع من جاورها من القبائل ومضى عليها عدة عقود من الزمان منذ انهيار الدولة السعودية الثانية وهي تعيش هذه الحالة من الحروب وعدم الاستقرار وعدم الطاعة او الانقياد لسلطة غير سلطة القبيلة.
وبما ان هذه القبائل محبة للحروب عاشقة للفروسية مشهورة بالشجاعة والكرم معتزة باصالة عروبتها ومفاخرة بعمق جذورها ونقاوة نسبها فقد وجدت كل هذه الخصال في شخصية الملك عبدالعزيز الذي بهرهم بجسارته وشجاعته التي اثبتها بشكل جلي في حادثة استيلائه على الرياض مع ما كان يحيط بتلك المغامرة من مخاطر جسام.
اما في باقي الخصال التي يعتز بها البدوي وتبهره والتي اشرنا اليها توا فانها تكاد تكون مجتمعة في شخص الملك عبدالعزيز، فهو الفارس الذي وحد بلاده على صهوة حصانه لهذا فانه يعد اخر القادة الكبار في التاريخ اذ خاض غمار حروب توحيد بلاده ولعدة عقود على صهوة جواده.
وهو الشجاع المقدام الذي تجده دائما في مقدمة الفرسان في كل حروبه وهو الكريم الذي يصرف بسخاء كل ما يملك على رجاله ولا يستأثر بشيء دونهم، وهو العربي الاصيل الذي ينتمي الى اسرة لها السيادة والريادة والقيادة، وتضرب جذور الاصالة في عمق اعماق المجتمع العربي الاصيل.
اضافة الى ذلك، بل ربما جاء فوق كل ذلك ان الملك عبدالعزيز ميز نفسه وقيادته بميزة هي الاكثر خطورة، وهي الاكثر تأثيرا الا وهي الدعوة والشعار الذي كان يرفعه، وهو رفع راية العقيدة الاسلامية التي دعا الناس الى الالتفاف حولها وجعلها هدفا اسمى يحيون ويموتون من اجلها، فبها تحيا القلوب وحولها تلتف المشاعر وفي سبيلها يتناسى الناس خلافاتهم وتتوحد تحت ظلالها، اذ لا امل لامة تود ان تقوم لها قائمة وليس لها هدف نبيل تقاتل من اجله.
ومن خلال تجارب التاريخ في الجزيرة العربية خاصة، موطن هذه القبائل التي لم تتغير في طباعها واسمائها ومواطنها منذ فترة ما قبل الاسلام اي منذ القرن الخامس الميلادي الى اليوم فلم يغير طباع هذه القبائل الا الدين الاسلامي في بداية دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم اذ دخلت هذه القبائل في هذه الدعوة منقادة حينما آمنت بها, ومرة اخرى بعد مضي اثني عشر قرنا من التجربة الاولى حينما قامت الدولة السعودية الاولى في منتصف القرن الثامن عشر داعية الى اعادة بناء الدولة الاسلامية تماما مثلما كانت عليه في عهد مؤسس هذه الدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد اقبلت هذه القبائل منصاعة طائعة للدعوة الاصلاحية التي دعاهم اليها واحد منهم, ثم هاهو عبدالعزيز في مطلع القرن العشرين يدعوهم الى ماهم اليه اكثر استجابة واكثر انصياعا اذ بغير الدين وبغير الحكم والتشريع الالهي لا تنقاد قبائل العرب بسهولة ولابد ان يكونوا واثقين من ان من يريد ان يحكم فيهم حكم الله وتشريعه هو اولى الناس امتثالا له ولقد كان عبدالعزيز نموذجا لذلك المثال.
نجح عبدالعزيز في تأليف قلوب القبائل وتوحيدها على هدف واحد، ولكي يكتمل النجاح في هذا الجانب وجد انه لا يتم والقبائل متفرقة في صحاريها متنقلة من مكان الى اخر يصعب متابعتهم في مضاربهم المتنقلة ولذلك اهتدى الى تبني اول فكرة تعرفها الجزيرة العربية وهي فكرة توطين البادية في اماكن ثابتة وساعدها على ذلك بحفر الابار وبناء المنازل واستصلاح الاراضي فاصبحت هذه المستوطنات الهجر مع مرور الزمن مدنا، واصبحت خلال فترة التوحيد معسكرات دائمة تخرج منها السرايا للقتال حينما يجد القائد ضرورة لتسيير الحملات العسكرية وهو قبل فكرة هذه المستوطنات كان يعاني في تجميع البادية التي هي قوام جيشه اذاحان لزوم استدعائهم اضافة الى قدرته في السيطرة عليهم.
وفي هذه المستوطنات اقبلت البادية على تعلم اصول دينها من خلال معلمين بعثهم عبدالعزيز الى هذه المستوطنات فشهدت البلاد اول حملات شبه منظمة في سبيل القضاء على الامية وان كانت في بدايتها محدودة في القضاء على الامية الدينية.
كانت البلاد قبل مجيء عبدالعزيز اضافة الى الحروب المستعرة بين ابناء القبائل البدوية كانت ايضا هناك حروب دائمة بين القبائل البدوية من جهة والسكان المتحضرين من جهة اخرى.
وكانت هناك حروب ايضا بين المدن والقرى فيما بينها، فلم يكن هناك قرية او بلدة في نجد الا وهي مسورة بما فيها الرياض العاصمة نفسها تغلق ابوابها في اوقات معينة وبوابتها محاطة بابراج الحماية ترقبا لاي هجوم قد يحدث في اية لحظة.
جاء عبدالعزيز ليزيل كل هذه المخاوف ومن خلال المؤاخاة بين الناس والضرب بيد من حديد وحسب احكام الشريعة على كل مارق على القانون, ولم تمض مدة على عودته الى الرياض وسيطرته على معظم بلاد نجد حتى خرجت البلدان من اسوارها واصبحت الاسوار خبرا تاريخيا.
توسع الملك عبدالعزيز خارج منطقة نجد
كانت البلاد التي اصبحت تتكون منها المملكة العربية السعودية اليوم، تنقسم الى عدة وحدات سياسية منها ما كان تحت الحكم العثماني المباشر مثل الحجاز وعسير والاحساء ومنها ما كان يتمتع بوضع سياسي خاص تحت نفوذ المظلة العثمانية مثل امارة آل رشيد في شمال نجد، وهي امارة قبلية بنت لها نفوذا سياسيا نتيجة لغياب الدولة السعودية وكل هذه الاجزاء او الوحدات السياسية المختلفة كانت قد انضوت جميعها تحت حكم الدولة السعودية الاولى التي قضي عليها في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي بواسطة الدولة العثمانية ومتبوعها محمد علي باشا حاكم مصر.
في خلال اقل من عقد من الزمن تمكن الملك عبدالعزيز من احكام سيطرته على وسط نجد واصبحت معظم قبائله تدين له بالطاعة واصبح نجاحه هنا يهدد المناطق المجاورة لنجد ويهدد النفوذ العثماني نفسه لكنه لم يعد يخشى ردة فعل الدولة العثمانية ولا من يسير في فلكها من الحكام المحليين لان الدولة نفسها لم تعد قادرة على ان تشكل تهديدا لانها لم تعد تملك القدرة على ذلك واصبحت تواجه الكثير من المشكلات في اكثر المناطق التي تحكم عليها سيطرتها المباشرة ولم تعد قادرة على تثبيت الامن والاستقرار مما جعل ابناء تلك المناطق يتطلعون الى الملك عبدالعزيز ويعتبرونه منقذا لهم من اضطراب الامن وعدم الاستقرار في مناطقهم اسوة بما احدثه في منطقة نجد التي كان الامن فيها والاستقرار اكثر انعداما قبل قدومه اليها.
وكان اكثر الناس الحاحا عليه في تخليص منطقتهم مما يحدث بها من قلاقل هم سكان الاحساء التي كانت تحت الحكم العثماني منذ عام 1871م وكما سبق الاشارة اليه فان الملك عبدالعزيز لم يكن يرغب في الدخول في صراع مع العثمانيين لكنهم لم يبادلوه الرغبة نفسها اذ حاولوا الحاق الاذى به من خلال حلفائهم آل الرشيد في حائل ومن خلال شريف مكة في الحجاز.
وتمثل الاحساء التي كانت جزءا من مملكة آل سعود قبل عام 1871م تمثل اهمية اقتصادية واستراتيجية بالنسبة لعبدالعزيز ومستقبل بلاده السياسي والاقتصادي فهي الواجهة البحرية الاولى والوحيدة لنجد على الخليج العربي ولا مستقبل لقيام كيان سياسي في نجد لا تكون الاحساء جزءا منه ولذا فقد سارع الملك عبدالعزيز الى الاستيلاء على الاحساء عام 1913م وطرد الحامية العثمانية منها دون ان يريق دم جندي واحد بل رحلهم محتفظين بسلاحهم الشخصي الى البصرة عن طريق البحرين.
هذا التطور في تاريخ بناء مملكة عبدالعزيز جعله وجها لوجه امام بريطانيا صاحبة المصالح التقليدية في منطقة الخليج والتي لها تاريخ طويل من الصراع مع السعوديين حول فرض السيادة على هذه السواحل ولكن عبدالعزيز مرة اخرى لايريد ان يدخل في مواجهة مع بريطانيا صاحبة النفوذ القوي في المنطقة وخاصة في هذه المرحلة المهمة والحاسمة من تاريخ تطور بناء المملكة التي ما زالت في مراحل التكوين.
تمكن عبدالعزيز بحكمته ومهارته السياسية من الحفاظ على علاقة متوازنة بينه من جهة وبين بريطانيا والدولة العثمانية من جهة اخرى وخاصة اثناء سنوات الحرب العالمية الاولى التي اندلعت بعد سنة واحدة من احتلال الاحساء فبعد ما كان يخشى من ردة فعل الدولة العثمانية من جراء احتلاله الاحساء بالقوة ويخشى من بريطانيا التي دائما تخشى من تنامي قوة السعوديين ونفوذهم في منطقة الخليج وتهديدهم لحلفاء بريطانيا في المنطقة حدث العكس تماما اذ سارعت كل من الدولة العثمانية وبريطانيا اثناء اندلاع الحرب الى كسب ابن سعود الى جانب كل منهما لكنه بحنكته السياسية مرة اخرى لم يتورط في مساندة اي من الطرفين وآثر البقاء على الحياد ووعد كلا من الطرفين بان بلاده لن تكون مجالا لاي نشاط معاد لاي منهما ووقع مع كل من الطرفين اتفاقية تضمن له حكمه ولا تجبره على الدخول الى جانب اي منهما وبهذا الحياد انشغلت القوى الكبرى في الحرب وبمن دخل الى جانبها من بعض الحكام العرب اما عبدالعزيز فقد انشغل بما هو اهم وهو توحيد اجزاء البلاد واحدا بعد الاخر.
ما ان حطت الحرب اوزارها في عام 1918م حتى اصبحت معظم اجزاء البلاد موحدة تحت حكم الملك عبدالعزيز ما عدا الحجاز الذي رمى حاكمه شريف مكة بكل ثقله الى جانب بريطانيا فتخلت عنه بعد انتهاء الحرب وكان قد فتح باب الحرب مع ابن سعود على امل ان يستمد العون من بريطانيا التي وقف الى جانبها في الحرب ضد الدولة العثمانية لكن بريطانيا خذلته واعتبرت الحرب بينه وبين ابن سعود شأنا داخليا وكان ابن سعود يعتمد في حروبه ضد خصومه على امكاناته الذاتية وقوة القبائل التي انطوت طواعية تحت حكمه تمكن من التغلب على الشريف والقضاء على حكمه في الحجاز عام 1925م وضمه كآخر منطقة الى حكمه وبذلك اصبح ابن سعود الذي كان لقبه الرسمي في نجد قبل ضم الحجاز سلطان نجد اصبح يلقب بعد ضمه الحجاز ملك الحجاز وسلطان نجد.
وفي عام 1930م قضى على امارة الادريسي التي اقامها في الركن الجنوبي الغربي من المملكة والتي كانت تتمتع بحكم شبه ذاتي وتحت حماية عبدالعزيز ومنذ ذلك التاريخ اعلن الاسم الجديد والدائم للمملكة فأصبحت تعرف باسم المملكة العربية السعودية وبالتالي اصبح الاسم الرسمي لعبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية.
بعد ضم الحجاز في عام 1925م سارعت الدولة الاجنبية الى الاعتراف بدولته دولة مستقلة وتبادل مع الكثير من الدول الاوروبية والاسلامية والعربية المستقلة السفراء والاعتراف المتبادل وفي عام 1927م انهى اتفاقية عام 1915م مع بريطانيا تلك الاتفاقية التي كانت تحد من سيادته كاملة تخوفا من جانب بريطانيا ان يقف مع اي من خصومها او ان يقوم بمد نفوذه على اي من البلاد المطلة على الخليج العربي والداخلة تحت نفوذ بريطانيا وهيمنتها.
بعد هذا الاستعراض المختصر لحوالي ثلاثة عقود من الحروب المتواصلة التي خاضها الملك عبدالعزيز لكي يوحد بلاده، ويقضي على ماكان سائداً بها من الفتن والقلاقل لم يكن يدر بخلد أي من المراقبين والمحللين السياسيين والعارفين بالظروف الصعبة لأوضاع الجزيرة العربية وطبيعتها الجغرافية القاسية وطبيعة أهلها الصعبة ان يتم انجاز هذه الوحدة الوطنية الكبرى التي تعتبر من أهم منجزات الملك عبدالعزيز في الوقت الذي قسمت فيه بقية البلدان العربية إلى بلدان صغيرة تحت الحكم أو الانتداب الأجنبي.
ولهذا السبب احتل الملك عبدالعزيز هذه المكانة العالمية المرموقة في التاريخ الحديث، حيث احتل مكانه الذي وضعه لنفسه إلى جانب عظماء صناع الوحدة في التاريخ العالمي، ومن أجل هذا احتل الملك عبدالعزيز مكانته الخالدة في نفوس أبناء بلاده.
بناء المؤسسات
فرغ الملك عبدالعزيز في المرحلة الأولى من مراحل بناء الدولة، وهي مرحلة التوحيد التي استغرقت مايقرب من ثلاثة عقود، والآن يبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة بناء المؤسسات وهي مرحلة لاتقل صعوبة عن المرحلة الأولى ان لم تكن أكثر منها تعقيداً، اذ تتطلب مقومات تفتقر البلاد إليها أهمها العنصر البشري المدرب والبلاد تكاد تكون خالية منه تماماً وكذلك قلة موارد الدولة وصعوبة الطبيعة الجغرافية للبلاد، واتساع مساحتها بشكل مذهل تحتاج إلى مقومات تماسك الوحدة والقدرة على السيطرة في الحفاظ على تلك الوحدة التي كان ثمنها غالياً من الجهود والدماء والعرق.
إن البلاد التي أصبحت تتكون منها المملكة العربية السعودية واسعة المساحة اذ تقدر بحوالي 2,248,000كم2 أي مايعادل مساحة النمسا 26,81 مرة.
لم يكن بهذه البلاد الواسعة أي مقوم من المقومات الحضارية الحديثة مثل الطرق المعبدة أو السكة الحديد ولم يكن بها مدارس ولامستشفيات ولاوسائل اتصالات حديثة مثل: البرق والهاتف أو حتى مكاتب عادية للبريد ولم يكن بها نظام اداري منظم أو نظام قضائي بشكل منظم أو نظام مالي أو جهاز حكومي يقوم بالتنظيم والإشراف عدا ماكان الملك نفسه يجتهد فيه لتسيير الأعمال الإدارية والمالية والعسكرية بطريقة هي أكثر إلى البدائية،لكنها كانت فعالة في أثناء مراحل التوحيد.
وكان أهم مؤسسة يستعين بها الملك قبل الانتهاء من سنوات التوحيد هي المؤسسة القضائية والمبنية على تطبيق الشريعة الإسلامية، ولم تكن الأمور قد تعقدت على المستوى الاجتماعي فكان القضاة مع ضآلة تحصيلهم العلمي يعرفون بشكل جيد أهم الأسس التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية والحكم بموجبها فيما شجر بين الناس من خلاف.
ولذا فإن عام 1925م وهو العام الذي اكتمل فيه انضمام الحجاز، حيث تقع المدينتان المقدستان مكة والمدينة، شهدت البلاد خلاله تطورات مهمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والإدارية والتنظيمية، وحتى القضائية في مسيرة بناء الدولة ودخولها إلى عالم مفهوم الدولة الحديثة والذي دفع بها إلى ذلك عدة عوامل:
1- العامل الأول هو رغبة الملك الجادة في بناء مؤسسات حكومية وجهاز اداري فعال يساعده على بناء دولة عصرية حديثة، هذه النظرة تعكس العقلية المتفتحة والمستنيرة التي يمتاز بها الملك عبدالعزيز.
2- الاستفادة من بقايا جهاز اداري ونظام حكومي قائم في الحجاز منذ العهد العثماني.
3- الاستعانة ببعض الكوادر البشرية الموجودة في الحجاز وهي وإن كانت قليلة فإنها متمرسة على ممارسة العمل الإداري في العهد العثماني.
4- ضمان بعض الموارد المالية الدائمة،وان كانت قليلة ومعظمها تأتي عن طريق الحج سنوياً ومايقوم عليه من تجارة موسمية.
ولعل أهم نقلة حضارية في سبيل بناء دولة مؤسسات هو رغبة الملك عبدالعزيز في توسيع قاعدة المشاركة في تسيير أمور الدولة ووضع القواعد والأسس التي تبنى عليها تلك المؤسسات، حينما دعا إلى تشكيل مجلس للشورى، وهو ربما أول مجلس من هذا النوع تعرفه الجزيرة العربية, يتكون أعضاء هذا المجلس من أهل الحل والعقد والمعرفة والمهارة في الشؤون الإدارية وأوكلت إلى هذا المجلس مهام وضع الأنظمة والقوانين والتشريعات الإدارية والمالية والتجارية وغيرها.
أما القضاء فقد ظل مؤسسة مستقلة وكل ماأحدثه في هذا الجانب هو تنظيم الهيكل الإداري لهذه المؤسسة، ولكنها ظلت غير خاضعة لأي تغيير أو تبديل للأسس التي تستمد منها قوتها وهي القرآن والسنة.
كما قام الملك بوضع نظام لولاية العهد، وحصر ولاية العهد في أبنائه الذكور الأكبر فالأكبر، وبوضعه لهذا النظام قضى على ما سيكون سبباً للخلاف حول هذه القضية المهمة.
كما عمل على ادخال الوسائل الحديثة في مجالات المواصلات والاتصالات التي تمكنه من السيطرة على دولة متباعدة الأطراف والحفاظ عليها، ولاوسيلة لمعرفة مايحدث فيها وكيفية التعامل معها إلا من خلال توظيف الوسائل الحديثة، وقد واجه في سبيل ادخال هذه الوسائل الجديدة والغريبة على بعض فئات المجتمع مقاومة شديدة لأنهم فسروها تفسيراً دينياً خاطئاً.
كما ان هذه الفئات وقفت كثيراً في سبيل كل ماهو جديد إلا أن الملك بما يملكه من مهارات قيادية وحنكة قد تغلب على ما اعترض مشاريعه التحديثية بالحكمة والصبر والحجة والمنطق في الإقناع.
كما أمر باصدار جريدة بدأت اسبوعية منذ الأسبوع الأول لدخوله الحجاز كانت تبشر بتطلعات العهد الجديد، وهي أول جريدة تصدر في المملكة في العهد السعودي.
ولمواجهة النقص في الكوادر البشرية فتح الأبواب للاستعانة ببعض الكفاءات العربية وحتى غير العربية والاستفادة من خبراتهم في مجالات الإدارة والطب والتعليم والتنقيب عن موارد المياه والمعادن والبترول فيما بعد أي أن سياسته في الانفتاح على الآخر مكنته من بناء دولته والتغلب على الكثير من مشكلاته وخاصة مشكلة الموارد المالية التي كانت شحيحة في بلاد بطبيعتها الصحراوية شحيحة الموارد وأهمها شح المياه.
وكان قد استقدم خبراء للبحث عن المياه رغبة منه في توسيع دائرة الأرض المزروعة لسد نقص الغذاء في بيئته الصحراوية، ولكن على هامش البحث عن المياه تم العثور على مكامن البترول في مناطق كان يعتقد بعض الخبراء انها خالية من هذا المصدر الذي أصبح يشكل المصدر الأول للمملكة العربية السعودية إلى اليوم.
ففي عهده تم اكتشاف البترول بكميات تجارية ضخمة وان كانت سنوات الحرب العالمية الثانية قد أخرت تسويقه بشكل تجاري لكنه سرعان مااستؤنف تسويقه والبحث عن المزيد منه.
فبهذه الثروة وعلى يد هذا القائد العظيم انقلبت حياة شعبه من قبائل متفرقة فقيرة إلى مواطنين مستقرين ينعمون بحياة آمنة مستقرة، ولم يمت في مطلع عام 1953م إلا وقد اطمأن قلبه إلى مستقبل شعبه وبلاده.
المملكة تشكل عاملاً مهماً
من عوامل الاستقرار في المنطقة
أثبتت المملكة ومنذ اعادة بنائها في عام 1902م انها تشكل عاملاً مهماً من عوامل الاستقرار في المنطقة اذ مكنتها مساحتها الواسعة وحدودها الدولية الطويلة، التي تزيد على 8,000 كم والمشتركة في حدود أكثر من دولة واطلالتها على أهم ممرين مائيين على طرق التواصل بين الشرق والغرب، من أن تؤدي كل هذه العوامل أو هذه الخصائص دوراً مهماً ونقلة نوعية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لسكان هذه البلاد الواسعة.
وبالتالي تظهر انعكاساتها وبشكل مباشر على كل ماحولها من بلدان.
فلقد حرص الملك عبدالعزيز في جميع اتفاقيات الحدود التي وقعها مع الدول المجاورة لبلاده، تلك التي تمت بشكل مباشر مع حكومات تلك البلدان أو من خلال وسطاء وخاصة بريطانيا التي نابت عن العديد من هذه الدول أثناء توقيع اتفاقيات الحدود، حرص الملك عبدالعزيز على العامل الأمني الذي توفره هذه الحدود وهو القضاء على كل ماكان سبباً لتعكير صفو الأمن والاستقرار وخاصة من قبل القبائل البدوية التي لم تكن تولي قضية الأمن أهمية, وحرص منذ البداية لتكوين دولته على أن يكون العامل الأمني من أهم مقومات الدولة العصرية وبتنفيذ سياسته هذه لم يحقق الأمن لبلاده فقط، بل حققه لكل البلدان المجاورة له ولتبنيه هذه السياسة الحكيمة والصارمة تحولت جزيرة العرب التي كان يضرب بها المثل في اضطراب الأمن إلى واحة أمن واستقرار يضرب به المثال إلى اليوم، اذ تعد المملكة من أهم الدول المستقرة في العالم، ومن أكثر بلاد العالم أمناً، وهذا بفضل السياسة التي تبناها الملك عبدالعزيز منذ بداية بناء دولته، وهي السياسة التي حافظ عليها أبناؤه إلى اليوم.
ان قيام المملكة ككيان سياسي احتل أهمية قصوى على الأمن السياسي والاستقرار السياسي في المنطقة العربية والبلاد الإسلامية, فلقد وفرت المملكة بحكم موقعها الديني وبحكم احتضانها للمقدسات الإسلامية لكل زائر لهذه البلاد كل وسائل الأمن والاطمئنان.
كما ساهمت المملكة بوصفها أول كيان سياسي مستقل في المنطقة العربية في كل أنواع الدعم والمساعدة لكل البلاد العربية التي كانت تكافح من أجل التحرر والاستقلال من الحكم الأجنبي، وكان لتأثيرها السياسي بما تحتله من مكانة بوصفها احدى الدول الأولى المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة عام 1945م تأثير كبير على مساندة الاستقرار في العالم أجمع.
ولقد فتحت المملكة أبوابها لكل العرب الذين تعرضوا لأي شكل من أشكال الاضطهاد من جراء ممارسة الحكم الأجنبي، ثم وقفت مع القضايا العربية العادلة وكذلك القضايا العادلة في العالم بكل ثقلها السياسي والاقتصادي، خاصة بعد أن أصبحت الدولة الأولى في تصدير البترول والدولة الأولى في المخزون الاحتياطي من البترول، هذه الثروة التي أخذ كل انسان في العالم منها نصيباً إذ فتحت المملكة أبوابها لكل طالب عمل من أي جنسية كانت إذ فاز كل منهم بمردود مادي مكنه من تحسين وضعه الاقتصادي على المستوى الشخصي، وساعد في التنمية العامة لبلاده, هذا بالاضافة إلى مساهماتها الكبيرة في دعم المنظمات الدولية التي تقدم خدمات انسانية وحضارية للإنسان أينما كان بصرف النظر عن موقعه ولونه ودينه، لأن المملكة تنطلق في سياستها من منطلقات راسخة تمليها مثل الإسلام وخلقه وتسامحه.
إن البلد الذي أكمل الملك عبدالعزيز بناء وحدته قبل سبعين عاماً ولم يكن به حينذاك مدرسة واحدة أو مستشفى واحد أو طريق معبد واحد أو طبيب سعودي واحد أصبح اليوم بلداً متحضراً به عشرات الآلاف من المدارس للبنين والبنات وبه ثمان من الجامعات تعد في مصاف الجامعات الكبرى في العالم تخرج العلماء والمتخصصين في كل فروع المعرفة وبه أحدث المستشفيات يعمل فيها آلاف الأطباء السعوديين والسعوديات في كل التخصصات الذين تخرج أكثرهم من كليات الطب في الجامعات السعودية وأصبح في المملكة شبكة طرق برية هي الأكثر تقدماً في بيئة جغرافية صعبة، وأصبح بها عشرات المطارات الدولية والإقليمية.
كما أصبح يربط المدن والبلدان والمناطق المتباعدة شبكة اتصالات متقدمة جداً, وأصبح المجتمع السعودي بتركيبته السكانية المتجانسة بذكوره وإناثه يعيشون في مجتمع عصري ويشاركون بتفاعل في بناء مجتمع انساني يعمل على مافيه خدمة الإنسان على وجه هذا الكوكب، الذي تحول بفضل ماحققه الإنسان من تقدم في المجالات العلمية إلى قرية كونية واحدة.
العلاقات السعودية النمساوية
مع أن العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والنمسا بشكلها الرسمي لم تبدأ إلا في نهاية الخمسينات من هذا القرن ولم يكن للنمسا سفير مقيم في المملكة إلا في عام 1967م.
فإن العلاقات بين البلدين مالبثت أن تطورت على جميع المستويات الدبلوماسية والتجارية والتعليمية حتى أصبحت على ماهي عليه من الازدهار الآن, إذ تمثل النمسا بسياستها المعتدلة والمحايدة الدولة الأوروبية الأكثر جنوحاً إلى السلم والعاملة على ايجاد المناخ الملائم للأمن والاستقرار الدوليين.
وبالقدر نفسه الذي تقوم به النمسا على الساحة الأوروبية تقوم به المملكة العربية السعودية في منطقة الشرق الأوسط إذ تعد من أكثر البلدان حباً في السلام وواحة للأمن والاستقرار.
ولكننا إذا رجعنا قليلاً إلى التاريخ، فإننا نجد ان امبراطورية النمسا التي كانت تعد من أكبر الامبراطوريات وأهمها في العالم وقد استمرت في المحافظة على تلك المكانة إلى الحرب العالمية الأولى، كانت لها علاقة واسعة مع البلدان العربية ومنها الجزيرة العربية التي تتكون المملكة الآن من ثلاثة أرباعها, تلك العلاقة كانت في معظمها علاقات حضارية وثقافية واقتصادية وعلمية.
وكانت العملة الأكثر تداولاً في الجزيرة العربية منذ القرن التاسع عشر أو ربما قبله والى مطلع النصف الثاني من القرن العشرين هي العملة النمساوية أو الريال النمساوي الذي سك في عهد امبراطورية النمسا العظيمة ماريا تيريزا Maria Therisa وبذلك فإن الكل في الجزيرة العربية يعرفون النمسا من خلال تداول هذه العملة، وإن كان تداول هذه العملة قد اختفى الآن، فإنها أصبحت جزءاً من تاريخ الجزيرة العربية الاقتصادي.
أما على المستوى الثقافي فإن للعلماء النمساويين وللأكاديمية النمساوية في فينا وبعض الجامعات في البلدان التي كانت تشكل أجزاء من الإمبراطورية النمساوية، جهوداً بارزة في مجالات علم الآثار واللغويات والدراسات الأنثروبولوجية فمن العلماء البارزين جلاسر وموزل Alais Musil وموللر وغيرهم, ومن الشخصيات النمساوية البارزة التي عاصرت فترة قيام المملكة العربية السعودية منذ فترة الحرب العالمية الأولى وظلت على صلة قوية بالملك عبدالعزيز الصحفي والسياسي ليوبولد فايس Leapold Wiess والذي أصبح يعرف فيما بعد بمحمد أسد وكتابه الشهير الطريق إلى مكةThe Road to Mecca .
وكان للإمبراطورية النمساوية قنصلية في جدة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر وظل القائمون عليها يرعون الشؤون والمصالح النمساوية وخاصة في الجوانب الاقتصادية حيث كان للنمسا نشاط اقتصادي في البحر الأحمر، وكذلك نشاط سياسي ظل قائماً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى, ومن المؤكد ان التقارير التي كان يبعث بها القناصل النمساويون المتعاقبون في جدة تعد ثروة تاريخية واقتصادية واجتماعية مهمة في تاريخ غرب الجزيرة العربية، ولكن يبدو أن عامل اللغة حال بينها وبين الباحثين السعوديين, فلا أعلم أن أحداً من الباحثين السعوديين حاول أن يسبر أغوار الأرشيف النمساوي لمعرفة حجم مايحتوي عليه من وثائق تخص الجزيرة العربية وأهميته، مع يقيني بانها حصيلة مهمة ومنذ عدة سنوات وقعت حكومة كل من المملكة العربية السعودية وحكومة النمسا اتفاقية ثقافية، أثمر عنها تعاون علمي بين جامعة فينا وجامعة الملك سعود بالرياض عن دراسة اثنوجرافية عن جنوب غرب الجزيرة العربية قام بها فريق مشترك من الجامعيين وكان رئيس فريق البحث العلمي الأستاذ الدكتور والتر دوستال الأستاذ بجامعة فينا Walter Dostal ورئيس جمعية الشرق النمساوية والعالم المتمكن في معرفة التاريخ الاجتماعي لكثير من مجتمعات الجزيرة العربية, ونتطلع إلى المزيد من التعاون بين الهيئات الأكاديمية النمساوية والسعودية في جميع المجالات,
كما نتطلع إلى المزيد من فتح آفاق والتعاون بين البلدين على جميع المستويات.
*ترجمة للمحاضرة التي ألقاها الدكتور محمد آل زلفة في أكاديمية العلوم السياسية النمساوية بفينا بتاريخ 6 محرم 1420ه 22 ابريل 1999م.
** أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الملك سعود
عضو مجلس الشورى.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
محاضرة
منوعــات
ملحق الغاط
عزيزتي
ساحة الرأي
المحرر الأمني
الرياضية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved