في عصر تطغى عليه الثقافة الالكترونية والفضائية، تحلو لي مجالسة كبار السن لاستقاء الحكمة من احاديثهم التي عادة ما تتخللها الامثال الشعبية ذات الدلالات الصادقة على الموروث الحضاري والاجتماعي, ولاشك ان الامثال الشعبية هي من المأثورات اللسانية التي تمثل نوعا من اصدق فنون الادب والبيان, فهي المرآة التي تعكس عادات الشعوب وثقافتها وانماط حياتها, كما ان فيها مقياساً صادقاً لقيمها ودليلاً على ماتمتلكه من الحكمة والذوق وسرعة البديهة وضروب الفنون والآداب كما تعبر عنه بلسان العامة التي وان افتقرت الى الاسلوب المدرسي في التعبير عن افكارها، لاتعدم سحر بيان الحكمة في بساطة الكلام وجمالياته، ولاسيما في لغتنا العربية حيث التباين واضح بين فصيحها ودارجها.
المثل هو القول السائر بين الناس المسجل في نصه الاصلي الذي ورد فيه، وبذلك يختلف عن الحكمة والكناية وان كان في كثير من الاحايين يشملهما, ان لكل امة تجاربها ذات الابعاد الحضارية والانسانية, ومن هذه التجارب، تولد الامثال السائرة على ألسنة ناسها التي كثيرا ماتتشابه في التعبير عن مشاعرها او افكارها بأسلوب يقرب من توارد الخواطر ان صح التعبير، ان لم يكن مطابقا تماما وكأنه يستقى من معين واحد, ويتبين من ذلك أن الامم والشعوب مهما تباعدت المسافات فيما بينها وتعددت اهواؤها ومشاربها وتباينت اصولها العرقية وتطوراتها الانثروبولوجية ، فان التجارب والخبرات الانسانية التي تكتسبها تكاد تكون متشابهة ان لم تكن متماثلة في بعض الاحيان, وربما يلعب عامل الفطرة او الطبيعة التي جبل عليها بنو البشر بما تنطوي عليه من مرجعيات في المشاعر والنوازع التي تتولد منها العلاقات الانسانية، هو القاسم المشترك في هذه التجارب التي تصاغ منها الامثال.
لنتأمل على سبيل المثال اليوناني او الروماني: حتى هوميروس لاينجو من الزلل ونماثله في لساننا العربي: لكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة , فيتضح المعنى المقصود من كليهما واوجه الشبه او التطابق في معنييهما، وان تباين اللفظ شيئا ما, فالمرء عند الاغريق او الرومان او العرب او غيرهم من الشعوب غير معصوم من الخطأ, ولئن كان هوميروس شاعر الاغريق الكبير وحكيمهم الخالد لم ينج من الخطأ، وزلة اللسان او القلم، كما اشيع على لسان الشاعر الروماني هوريس قبل ميلاد القرن الاول من تاريخنا المدون، فانا قد نلتمس العذر لعالمنا العربي ان هفا، او جوادنا ان كبا!.
اما المثل الفرنسي القائل: لكل ميدالية وجهها الآخر يقابله اكثر من مثل في لغتنا، منها: لكل وردة شوكها , وكلاهما يعكس تفكيرا مشابها للشعبين في بعد النظر والتسليم وقبول امور الحياة بايجابياتها وسلبياتها مواقف وشخوصا, ولاتقتصر الحكمة من الامثال على التجارب المشتركة بين الشعوب، فهناك القيم والمبادىء التي تتجسد في ثوابت السلوك الاجتماعي ومرجعياته, فالمثل الالماني: افقر الشعوب تلك التي تعيش بدون امل يدل على اهمية اليقين في بناء الاقتصاد الوطني, في حين ان المثل الصيني: الف يوان وحدة الصين النقدية لاتستطيع ان تشتري بها ضحكة واحدة محمَّل بمدلولاته الفلسفية المرتكزة على الايمان بالجوهري والروحاني بدلا من المادي, والمثل الانجليزي: احلك الساعات تلك التي تسبق الفجر , أليس عندنا اشتدي ازمة تنفرجي , ففي المثلين، مع تباين الشعبين، تتضح الحكمة من التمسك بالتفاؤل مهما عتت المصائب واستفحلت النوازل وعظمت حتى في احلك ساعات الامبراطورية العظمى التي كانت لاتغيب الشمس عن ممتلكاتها، واضحت في جزيرتها تكاد لاترى الشمس!.
الجانب الآخر من تباين فلسفة الشعوب، واختلاف نظراتها الى الحياة مجبرة ام مختارة، قد يعبر عنه المثل المصري الشعبي: يعطي الحَلَق للي بلا ودان , أليس ذلك تسليماً بالقضاء والقبول بالحظ والقسمة؟ وان يكن ينطوي على فكاهة ساخرة اشتهرت عن الشعب المصري سواء في معايشة الواقع والتسليم به او رفضه بطريقة لاأدريّة او لاارادية يتمكن معها من التغلب على ظروف الحياة اليومية بشقائها وعنتها.
مهما تقدم العلم وارتقت التقنية لتحل مكان ادق تفاصيل حياتنا، وتجلب معها الرخاء الاقتصادي الذي يغير انماط الحياة ويؤثر في سلوكياتنا الاجتماعية، تظل ثوابت المجتمع النابعة من تراثه هي الاساس في بقائه واستمرار وجوده, ويؤلمني غياب الامثال فصيحة ام دارجة عن ألسنة أجيالنا الصاعدة وأحاديثهم، متوهمين انهم بذلك ينفصلون عن ماض ليس فيه مايبعث على السرور او المفاخرة، وقليلا مايعلمون انهم لايضيرون الماضي بقدر مايسيئون الى مستقبلهم.
جميل ان نعطي موروثنا الحضاري حقه، وان نرعاه بالمحافظة والحدب, وعودة الى مناهل الحكمة من امثالنا، فيها الكثير من المتعة والتأمل, فهي ليست مجرد حلقة وصل لربط الشعوب بتراثها وموروثاتها، ولكنها حلقة وصل حضارية بين مختلف الشعوب, انها التراث الانساني، مهما اختلف في ظاهره، يبقى واحداً في جوهره.
بديعة داود كشغري