Sunday 18th April, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 2 محرم


من جماليات القصة القصيرة (2-2)
في مجموعة امرأة من الرياض لمصطفى محمد السدحان
بين ذاكرة التفاصيل ال(بانورامية) وأنسنة عناصر الطبيعة
سناء الحمد بدوي

يختلف كتاب القصة القصيرة من حيث عنايتهم في قصصهم بالتفاصيل التي تتعلق بالمكان والزمان والحدث، المحيطة بما يقتنصه الكاتب من الحياة سواء كان ذلك لحظة مشحونة، او مشهدا مشعا، او حالة شعورية او نفسية لانسان في لحظة او موقف معين، ولكن المفترض ان كل ما تحتويه القصة القصيرة من تفاصيل يكون له دور فعال و(وظيفة) فنية او معنوية، اذ من غير المقبول ان يُضمّن العمل الابداعي عناصر عبثية وجودها فيه مثل عدمه،, وان كان ذلك ليس دائما من السهل تحديده بشكل قاطع ، كما انه لا يمكن فرضه على المبدع صاحب الحق الاوحد في ان ينحت لنا من التفاصيل ما شاء له إبداعه.
ويبدو حرص السدحان على رسم (تفاصيل) الصورة او المشهد من بدء اولى قصص المجموعة (,,,الأقط), فبرغم ان الحدث في القصة يبدأ من لحظة ركوب البطل الحافلة متجها الى الرياض، فإن الكاتب يبدأ القصة من قبل ذلك إذ يمنحنا تفاصيل ما قبل ذلك حين تسلم البطل رد أحد مستشفيات الرياض على طلب أرسله بغرض العمل في المستشفى، مفسرا في ثنايا ذلك لماذا اختار ان يسافر برا,, إلخ، اما مشهد الصحراء التي تجتازها الحافلة فقد كان فرصة طيبة استثمرها الكاتب ليرسم لها لوحة حية - كما سيتم تناولها في موضع آخر - تجسد المكان الذي تتحرك فوقه الأحداث او الحافلة، وتتبدى دقة هذه العدسة وميل الكاتب الى الاهتمام بالتفاصيل عندما حاول فضول عيني البطل اقتحام قلعة البطلة فراح يرصد ما تمكن من اقتناصه وهو قليل، ولكنه لا يكاد يكون قد ترك تفصيلا او تضريسا إلا واتى عليه وصفا وتجسيدا.
وبنفس العدسة اللاقطة المصورة الدقيقة، المعنية بتفاصيل المشهد او الصورة، يقدم لنا الكاتب لقطة (بانورامية) للمدينة مسرح الاحداث الكابوسية في قصة ربكة في المدينة - بقيظها الجهنمي، وشمسها وغيومها وبشرها، واجهزة تكييفها (المسكينة) المعذبة المطلة برؤوسها من جحور الجدران مستنجدة بالمارة,! اما الكابوس الذي يعد الحدث الرئيسي للقصة فقد تفوقت العدسة القصصية في تصوير كل تفاصيله بالصوت والصورة متنقلة من ركن الى ركن ومن فئة الى فئة,, في قدرة فائقة على الرصد والتسجيل (يرجع الى القصة ص ص 30 - 47).
ويتصل بهذه الخصيصة التي تعكس ذاكرة لاقطة خازنة واعية حرص الكاتب على تسمية معظم - ان لم يكن كل - شخصيات قصصه، وتحديد مواقعهم او مكاتبهم، وتتتبع اصولهم وفصولهم وجذورهم، فهذا ما نجده ايضا - امتدادا لما سبق - في قصة (امرأة من الرياض)، بدءا من تسمية المحررين كل واحد باسمه ووصفهم ووصف مكاتبهم وعمل كل، ومرورا بتتبع اصل ونسب (سمراء اليمامة) بطلة القصة، وووصولا الى تتبع الاماكن التي التقى فيها البطلان القصة وخاصة في باريس.
** وخاصية - ثانية - فنية لغوية تلقانا في قصص مصطفى السدحان تلك هي استخدامه لغة شعرية استخداما يحول عناصر الطبيعة الى بشر تحس وتشعر وتعي مثلهم او يضفي عليها صفات الانسان وهو ما يسميه النقاد (أنسنة الطبيعة).
ولنقرأه يصف استثناءً من مشهد الصحراء الخالية من اي اثر للحياة، متمثلا في هيئة شجرة صحراوية تقف صابرة على مقربة من الطريق وكأنها موكلة بإحصاء السيارات المتجهة الى الرياض والقادمة منها، تتخذ الرياح من اغصانها قيثارة تعزف عليها (روندو) لا ينتهي من لحن الغربة الحزين، ويحوم حولها ذباب الصحراء الودود الذي يستقبل المرء عندما يلجأ الى ظل الشجرة بقبل متفحصة على انفه وفمه وجفنيه، وتتظلل تحتها عظام الاغنام البالية وجماجمها ذات النظرة الفارغة والبسمة الساخرة المريبة - ص (5), ويقول: كان منظر الطريق المزدوج الجبار عجيبا وهو يخترق احشاء الصحراء بخطّي اسفلت متوازيين كأنهما سهمان اسودان منطلقان في سباق محموم نحو المدينة, واعجب منه منظر المحطة التي تظهر فجأة من بعيد مغروسة في اللامكان - ص (6) ويقول استأنفت الابحار في محيط الخواء - ص (10).
وهكذا يمضي كاتبنا يضمخ لغة قصصه بهذا النسيج الشعري الذي يتضافر مع لغة السرد ولغة الحوار ويبث الحياة في العناصر الجامدة لتصنع لنا نسيجا قصصيا متميزا، تمنحه اللغة الشعرية عمقا ونبضا وحيوية، وتجنبه رتابة قد تعكسها واقعية لغة الحوار وجفاف لغة سرد الاحداث، فضلا عما تضفيه من طرافة وطزاجة في صوغ الصور، ولنقرأه في مستهل قصة (ربكة في المدينة) واصفا مناخها: ودعنا بالأمس برج الاسد بعد ان حل علينا استاذا زائرا كعادته في كل سنة، القى سلسلة من المحاضرات المدعومة بوسائل الايضاح في موضوع تخصصه: جهنم الحمراء، وحلت محله في كرسي الاستاذية اليوم السنبلة، التي بادرتنا منذ الصباح الباكر بمحاضرة مع تطبيقات عملية في نفس الموضوع,,, - ص (26) وقد المحنا في موضع سابق الى تصوير الكاتب لاجهزة التكييف في صورة بشر معذبة تئن، تطل برؤوسها من جحور الجدران,, الخ,وتتسم لغة الحوار في قصص السدحان بالحيوية والواقعية، حيث يُنطق كل شخصية بما يتناسب مع ابعادها وهويتها وجنسيتها، مما يمنحها واقعية في لغة حوارها بالاضافة الى ابعادها الاخرى من حيث المظهر والسلوك وغيرها.
ويبقى التنويه بان الاديب/ الشاعر مصطفى السدحان، قد اخطأ النقاد الطريق الى ابداعه، ربما لأنه لا يجيد (الدعاية) لنفسه او انهم يؤثرون السلامة بالابتعاد عن الابداع الذي يسعى الى اختراق المألوفية والتماس مع الخطوط الحمراء,, وهي خطوط - كما اشرت في بدء هذه الدراسة - قد يفضل آخرون الالتفاف حولها او القفز من فوقها,,, إيثارا - ايضا - للسلامة.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
حوار
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
مئوية التأسيس
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved