Thursday 15th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 29 ذو الحجة


الثقافة رهان حضاري
(7) غث وغثيان في الثقافة ؟
أ,د, كمال الدين عيد

هل يمكن ان نعثر في الثقافة على الغث والغثيان اللذين أشار اليهما الشيخ الامام محمد بن ابي بكر بن عبدالقادر الرازي رحمه الله في مختار الصحاح؟
يذكر الامام ان (الغث) هو الحديث الرديء الفاسد، ويشرح الغثيان بانه خبث النفس، لكن,, هل من المحتمل ان نجد لهما مكانا في عالم الثقافة؟ واقول نعم.
فأصل كلمة غث في اللغة الالمانية kitsch التي انتشرت في القرنين 19، 20 الميلاديين منبثقة من مدينة ميونيخ munchen ومتداولة في عالم التجارة والاسواق وعنت اللفظة تحديدا نفايات الخضروات والفاكهة الفاسدة، كما اطلقت على الذوق الرديء للمواطنين، واللوحات الزيتية الهزيلة الرخيصة في ميدان الفنون التشكيلية, توسع استعمال اللفظة - بنفس معناها - في بقية فروع الفنون وامام هذا التوسع والانتشار فقد اقر علماء الجمال بان الغث هو احد الانواع السلبية في الفنون، ويتضمن عدة مجالات مختلفة، الهدف من عملها ونشاطها البعد عن الصدق الفني, والغث على هذه الصورة لا يمثل خطرا علىالفنان الذي يجتهد في صناعة الفن وفق الاصول العلمية والفنية, الا ان عودة علماء الجمال - بعد ذلك - الى اصدار ما أسموه (بنظرية الغث) داخل تصنيف متدرج ، قد لفت النظر - نظريا على الاقل - الى الانتباه الى هذا القادم الفاسد والمفسد الذي يدس انفه في عيون فنون الآداب والفنون التعبيرية والتشكيلية والجميلة.
طبيعي انه في مجال الفنون لايمكن لمبدع ان ينتهج الغث موضوعا و مضمونا لعمله الفني، لكنه يمكن لنفس المبدع ان يحرص شديدا على تكوين الابداع الفني بعيداً عن اشكال الغث وخطوطه، طالما هو يعرف فروق الجيد والغث والحسن والرديء، وما يلهب احاسيس الجماهير المشاهدة وما يصيبها بالغثيان، وهو نفس ما اقترحه علماء الجمال حين بحثوا ثم كتبوا حلول الحيطة من خصائص الغث في الفن، برسم الصورة المثلى للعمليات الفنية بكل ما تحمله من الجمال والصدق والالتزام.
الفيلسوف المجري جيرج لوكاتشي lukacs gyorgy واحد من علماء الجمال وابرز كتّاب البحوث في موضوع ونظرية الغث, وهو في تحليله النظري يصل الى ان الاهميات في الغث تكمن في عملية الغثيان نفسها التي تنشر اوهاما كاذبة وتخيلات مريضة Illusions وتلونها بألوان باهرة ساخنة ملفقة، كما تجمل من صورة العلاقات الاجتماعية زيفا، رافعة الانسان - في اي مجتمع كان - الى أعلى عليين، وفي صورة تخالف الواقع وتتناقض معه مثل هذه الصورة الزائفة يقول عنها لوكاتشي بالحرف الواحد صورةُ وسيلة شكلية بدائية , ويبقى خطر الغث ومستتبعاته قائما في كل عصر مما يحمله من مضامين خربة وتخريبية في عصب الفنون، وفي كل عمل فني يعرض نصف الحقيقة ويلقي بظلال ومتاهات على نصفها الآخر, وهذه او تلك ليس من مهام الفنون ولا من اهدافها ايقاع الجماهير في الحيرة والتذبذب, لعلني اشبه صورة الزيف بنشرة الارصاد الجوية meteorology عندما تخبر الجماهير بطقس صاف واذا بالرعد والبرق (والزعابيب) تحتل مكان الصفاء فتقلب الصورة رأسا على عقب.
* الفن والغث
ينهج الغث طرقا ملتوية لتحقيق اهدافه, ففي فنون الملاحم والدراما والسينما عادة ما تظهر المتناقضات الاجتماعية - بحكم تواجد الصراع الارسطي - لكن الغث عبر اشكاله المتلونة البراقة الى حين يستبدل أس المتناقضات بالاختلافات الفجة والعبارات اللطيفة التي لا تعبر فيها الكلمة عن حقيقتها, وتنتهي الملحمة وزميلاتها نهاية سعيدة Happy - end وتضيع كل المضامين الدرامية الفعالة آنذاك.
وفي الغث العاطفي Lyric الذي استشرى في درامات العصر الرومانتيكي (القرن 19 ميلادي) فان ثيمة الحب التي سيطرت على حياة وانسان العصر واصابته بالآلام والدمار، تفقد حميّة العاطفة في الغث، ويحل محل صراع الجنسين (الشاب والشابة) من اجل البقاء، رثاء ناعم وبكائيات لافائدة منها اشبه بسفسطة السوفطائيين.
يقود علماء الجمال الناس الى فهم طبيعة الغث, فهو ليس جميلا كما يبدو لكنه متجمل ان صح التعبير، قشرة ذهبية مزيفة يصنعها كتّاب او كتبة للفن ان اردتُ الدقة في التعبير, كتبة بعيدون عن فكرة وجوهر الفن ومعناه وهدفه، كلماتهم تطرقع كألعاب العيد، لكنها عادة لا تصيب المرمى، ومع ذلك فهي بألوانها وعباراتها المختارة تخلب اللب وهي خالية من اللب في الحقيقة مع الاعتراف بسحر القشرة الذهبية المزيفة.
فاذا ما بحثتُ في التجسيد الفني لقصة او رواية او درامة، فان منطق العمل الفني يجبرني على ان ابرزه بكل جوانبه الاجتماعية والحياتية، وبالوصول الى الجذور فيه وبعرض الحقيقة كاملة بكل ما تحمله من آلام وقبح واكاذيب, اما ان استبدل الألم بالفرح والشقاء بالسعادة والجمال بدلا من القبح، فانني اصل ساعتها بالعمل الفني الى التحريف والتشويه والتزييف Falzification ولا تبقى الا صورة التمويه وحدها كنتيجة حتمية لفعل الغث في الفنون، وهي صورة هابطة تهبط بكل عناصر التلوين الفني.
ان التطور التاريخي للبشرية يكشف عن الصراع الدائم في حياة البشر (الحياة كفاح) ومن هنا خرجت الفنون لتعبر عن الانسان في صيغ وابداعات فنية متعددة الاشكال والفنون وليس لنا حاجة لنستقبل اكاذيبا في اي علم فني لايضاهي واقع الانسان او حياة البشرية فالصراعات في الفنون التعبيرية مستمرة لبقاء النوع الدرامي التعبيري، والمفارقات والفروقات تحكم طبقات المجتمعات، والحروب على قدم وساق بين الانسان واخيه الإنسان في فلسطين وصربيا واثيوبيا وارتيريا والصحراء الكبرى وافغانستان وغيرها وكل متصل بالحرب يخسر ساعة بعد ساعة الرجال والعتاد, فأي جمال او تجميل للعالم وللفن معه يمكن ان ينسينا هذه الحقائق الواقعة فعلا، والتي نصبح ونمسى عليها؟ واكاد اطلق تعبيرين على الحياة فهي اما مأساوية تراجيدية او هي عبثية Absurd بحكم ما نراه الآن لكنني مع ذلك لا افقد أملا حقيقيا وليس غثا باذن الله.
* تشاؤم أتعارض معه
كنتيجة طبيعية لوضعية الحياة المعاصرة تعددت في العقدين الاخيرين كتابات في فنون الادب - وخاصة في القصة والرواية - لعدد من المبدعين العالميين الذين يعانون هم الآخرون من ازمة الحياة ولا يفهمون خطوط الغث الجميلة والمريحة والمطمئنة لانسان العصر، والمبشرة له بمستقبل اكثر جمالا ولذة حياة ومنهم هابرماس، أدورنو ، هورخايمر، مركيوز.
habermas, adorno, horkheimer , marcuse وكلهم ذوو شهرة عالمية في قاراتهم الا ان هذه الشهرة قد ارتبطت باجماعهم على ان ثقافة الانسان قد صارت الى الحضيض (الدرج الاسفل) وقد حطموا بهذا الرأي كل الانتصارات العلمية في القرن، وكل تقدم للتقنية وابهاراتها، معتبرين الانسان عبدا لحضارة الاقتصاد التي سيطرت في قبضة محكمة على المشاعر والاحاسيس ان لم تكن قد الغتها من قاموس البشرية حتى اصبح الانسان احاديا ذا بُعد تفكيري واحد يدور بداخله دون جدوى من محطة تالية تنقذه من الهوة المخيفة, لم تكن الآراء جديدة على الثقافة، فمنذ قرن من الزمان تنبأ غيرهم بموت البطل التراجيدي في الدراما, لكنه لايزال يعيش ويتنفس على مسارح العالم حتى كتابة هذه السطور.
بل لعلني لا اتفق تماما مع نظرة هربرت مركيوز التي يرى فيها ان التفكير النظري ليس بمستطيع عبور الهوة العميقة والفجوة الواسعة بين الحاضر والمستقبل وهو لا يلجأ الى الاشارة او حتى التنبؤ بأي امل، انه يضع الإنكار للفكر الروحي المستقبلي، ولنقل للثقافة ايضا، ان رأيه يمتد الى (اللافن anti - art) مؤيدا انطلاقه والرضاء بما يقدمه من اساليب وبتأثيراته المباشرة على الجماهير وهو يصل الى نتيجة مفادها انتهاء كل الفنون وضياعها ومن ثم تجمدها وسط الحياة اليومية.
فاذا كانت الحياة - من زاوية مركيوز - على هذه الصورة البائسة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ولا وجود لبصيص من الامل المشرق، فلماذا لا نأخذ طريق الغث لإنقاذ هذه الحياة وتلوينها بالكذب والخداع؟,ان العالم يتحرك كل لحظة، والحياة تلعب دورها في انتظام دقيق, تتغير الاشياء، ويتبدل الناس، وتطفو مجتمعات على السطح وتهبط اخرى, ألا يدل كل ذلك على دينامية الحياة؟
* الغث في الفن التشكيلي
لما كان الجمال في اللوحة التشكيلية معناه اتقان العمل الفني، فان الحكم على الغث في الفنون التشكيلية يسير وفق قياس خاص بهذا الفن، لذلك افردت له عنوانا خاصا.
فوظيفة الفن التشكيلي في المجتمع نقل انطباعات جميلة, وكلما تمتعت الانطباعات بالخبرات الجمالية، كان ابداع العمل مؤثرا اما العمل السيىء فهو في نقل انطباعات جميلة في صورة غير جميلة (سيئة)، ونعرف من خصائص نظرية الغث انها رمز لكل ذوق هابط عند انصاف المتعلمين واقزام الثقافة ليس فقط للتزييف والتحريف الذي يتضمنه الغث، ولكن لان الطبقات الواعية بالثقافة والفنون لا تقبل الصور المليئة بعناصر الغث والسقوط، لانها تبدو في مواجهة الواقع والمراجعة الذهنية، صورة كوميدية ساخرة.
ثم ,, كما ان الحقيقة نسبية، فان الجمال نسبي ايضا، فمن منا اليوم يستطيع ان يقول ان الاكسسوارات التي تستعملها نسوة فقيرات ليست جميلة، مع انها غث لا يساوي شيئا، ومع ذلك فهي تبهر النسوة ويطير مشهدها عقولهن, حادثة صغيرة اذكرها للتدليل على ان الغث موجود وقائم، ويسعى دوما للقفز على كل ابداع وجديد في كل مجالات الحياة لتحويرها وتحويلها عن مجراها لينفث مادته القشرية غير الاصيلة, في عام 1839م قدم الفرنسي اراجو arago في جلسة الاكاديمية العلمية الفرنسية (اعلى هيئة علمية في فرنسا) وسط احتفال مهيب ما توصل اليه من نتائج في فن التصوير الدَّنَمري daguerro type (وهي طريقة قيمة في التصوير الفوتوغرافي على الواح فضية), لكن لم تمض سوى اربع سنوات على هذا الابداع، حتى امتلأ فن التصوير الزيتي الهادف وكذلك فن التصوير الفوتوغرافي آنذاك بالصور الاباحية pornograph بل لقد انتقل الغث ليشمل الكتابات والكلمة الداعرة ايضا,ألا تُقدم هذه الحادثة التاريخية دليلا دامغا على وجود الغث منذ قديم الزمان في كل مساحات ومجالات الآداب والفنون ؟ ومن هنا يجيء هذا المقال لتحذير العاملين في فنون الثقافة بعامل من عوامل الهدم في عملية التكوين الفني والابداع، قلّ ان يشار اليه في مجالات الثقافة والفنون، اللهم احمنا من الغث في حياتنا الثقافية العربية باذن الله ,, آمين.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved