الشعر والجنون (2) د, حسن البنا عزالدين |
كنت اظن ان عطلة الحج سوف تريحني لبعض الوقت من البحث في (الشعر والجنون) ولكني ما كدت أجلس في صالة مطار الملك خالد في انتظار الطائرة التي سوف تقلني الى الظهران ومن ثم الى القاهرة حتى وجدت الراكب الذي بجانبي يتصفح العدد الاخير من مجلة فواصل (مارس 1999م) وقد جذبه موضوع بعنوان (من يأخذ راتب المعلمة) الذي صُوِّر كذلك على الغلاف على هيئة يد امرأة تمسك بنقود ويد رجل تمسك بها (اي بيد المرأة), وقد اعادني هذا مباشرة الى ما انهيت به مقالتي السابقة عن المرأة بوصفها عروس شعر في مقابل فحولة الشعر عند العرب وكلام آخر عن الانوثة في الثقافة العربية,, وعندها تركت كتابا حديثا عن ابي نواس بالانجليزية كنت قد اخترت قراءته في اثناء العطلة واستأذنت جاري في تصفح المجلة فوجئت بموضوع آخر داخل العدد تحت عنوان (قضية ساخنة: الجن تتلبس الشعراء,!!) وتحته عنوان آخر هو (كيف يرتجل الشاعر خمسين بيتا في نفس اللحظة؟) وفي هذه اللحظة كذلك عرفت انني سأمضي العطلة يشغلني هذا الموضوع واتخلى عن ابي نواس لفترة وقد دفعت فيه حوالي 300 ريال لأنه مجلد )Hard cover(.
في القاهرة وجدت كتابا بعنوان (العبقرية: تاريخ الفكرة) من تحرير بنيلوبي مري وترجمه محمد عبدالواحد محمد وصدر عن عالم المعرفة الكويتية في نيسان 1996م، ولم اكن قد حصلت عليه من قبل، وبدأت أراجع قراءات اخرى في مكتبتي الخاصة، وعندما عدت بعد اسبوعين اهداني الزميل والصديق لكريم الدكتور لطفي الزليطني (موسوعة اساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها) في جزءين (ط 1، 1994م) وقد حصل عليها من تونس وهي لزميله محمد عجينة من تونس,, وهنا كذلك تذكرت الكتاب الممتاز لتوفيق الزيدي (التونسي كذلك) عن مفهوم الادبية في التراث النقدي الى نهاية القرن الرابع، ط2 ، 1987م), وهكذا اصبحت اكثر تورطا في بحث الموضوع، بله في القراءة فيه لاستمتاعي الشخصي قبل اي شيء.
اما مقالة فواصل فتشير الى الاعشى ودفاعه عن نفسه في هجاء الوالي بأنه يقول ما يسمع، أي ما تلقنه الجن إياه، ثم تقول المقالة: كما يؤكد بعض العامة من الناس هذه العلاقة فيما يسمونه: بالسقوة وهو ان الإنسان سقته الجن من معين الشعر فأصبح شاعرا,, وتؤكد اقوال بعض الشعراء هذه العلاقة فهذا الشاعر سعيد الحداوي يقول:
قرينتي يا ربعنا ما لها لون
قال الحداوي ون يا زير
وهذا الشاعر سعيد بن هضبان يقول موجها خطابه لمحمد بن حوقان:
عليك جنيّة,, وعندي مية جنية
وان طاح بن حوقان قولوا سلامته
وتمضي المقالة في سؤال بعض الشعراء عن هذه الظاهرة، وقد نفى معظمهم هذا الربط بين الجن والشعر وخصوصا شعر (المحاورة)، وقد رأى بعضهم ان الشعر موهبة ومعرفة يمنحها الله لمن يشاء وتنمو بالمراس والاحتكاك واكتساب الخبرات,, في حين سلّم البعض منهم بالمسألة على الاقل في بعدها التاريخي في الادب العربي, اما الشاعر المطيري فقد ذكر ان شعراء العرضة الجنوبية تسكنهم الجن ويعلل ذلك بارتجالهم خمسين بيتا في موقف واحد,, وهكذا - كما قال - لا يمكن لشاعر ان يفعله الا بمساعدة ما .
فالموضوع إذن لا يزال مطروحا، والملاحظ ان الابيات المذكورة اعلاه تذكر بالمرأة/ الجنية/ القرينة وليس الشيطان او الجن/ المذكر,, وثمة إشارة الى موهبة الشعر التي يمنحها الله للشاعر والمراس الذي تنمو به,, وهذه الاشارة مهمة لنا سوف نعود اليها في الحلقة القادمة,, وقد طرح محمد عجينة صاحب (موسوعة اساطير العرب، ج1، ص 50) في هذا الصدد عددا من الاسئلة المهمة: لماذا كان معظم شياطين الشعراء ذكورا؟ ألان شيطان الشاعر تجريد من نفسه وإذن فهو مذكر ام لأن الكلمة والقول الفصل في المجتمع الذي وصلتنا عنه هذه الاخبار آلت الى الرجل,؟ وهل تمثل الغول الانثى (التي ذكرها كعب والراعي النميري، كما اشرنا في الحلقة السابقة) مرحلة موغلة في القدم (ربما في مجتمع امومي) يتغلب عليها فيما بعد بطل ذكر له الكلام والفعل وذلك بالرغم من وجود نساء شاعرات وكاهنات ومتنبئات قد يكنَّ بقية باقية تشهد على ذلك الطور السابق,؟
وقد تكون الاجابة على هذه الاسئلة جميعا بالايجاب.
فمعنى الفحولة ثابت في مفهوم الشعر عند العرب وفي مستوى التفاضل عند النقاد ومتلقي الشعر,, ولكن السؤال الذي طرحناه في بداية هذه الحلقات عن كيفية تطور فكرة شيطان الشعر المذكور او جنية الشعر المؤنثة/ الغول الى عروس الشعر الملهمة او المحبوبة بوصفها ملهمة للشاعر وخصوصا بعد الاسلام ما يزال ماثلا يحتاج الى فحص اكثر تعمقا.
في الفصل الاول من كتاب العبقرية المشار اليه، وهو بقلم المحررة بنيلوبي مزّي نفسها إشارات مهمة الى الشعر والجنون في الثقافة الغربية وجوانب اخرى للموضوع مهمة كذلك,, تشير مري الى بحث شهير بعنوان (عن الجليل) للكاتب والفيلسوف اليوناني لونجينوس (213 - 173 ق,م) في سياق التناقض الذي كان قد أثاره في القرن الخامس قبل الميلاد الشاعر الغنائي الملحمي اليوناني بندار (522 - 443 ق,م) بين الموهبة الفطرية والتعلم بوصفه إسهاما مبكرا في الجدل العام الذي دار في القرن الخامس حول ميزات الطبيعة والصنعة واستمر قرونا وخصوصا فيما يتصل بالشعر والخطابة، وفي النقد القديم، صار من المألوف تناول الاختلافات بين الطبع والصنعة وايهما اهم من الاخرى، ولعلنا نذكر ان الشيء نفسه عرف في تاريخ النقد العربي القديم,, ولكننا سوف نلاحظ اختلافا جوهريا بين الحالة اليونانية والحالة العربية في هذا الصدد.
وتمضي مرّي في الاشارة الى ان من المفارقات في النظر الى الفرق بين الطبيعة والصنعة في كل حالة تقريبا النظر الى الطبيعة على انها شيء أكثر من الموهبة الفطرية او الاستعداد الفطري، والاستثناء الوحيد في هذا هو البحث المنسوب الى لونجينوس المذكور اعلاه (والذي استخدمه العقاد في مقالات مشهورة له في النقد وبعض اساتذتنا كذلك)، ووفقا لما جاء في هذا البحث يعرف الجلال )Sublimity( بأنه نوع من سمو الحديث او تفوقه، وانه السمة المميزة لاعظم الشعراء وكتاب النثر، الذين يستطيعون احيانا ان يغمرونا - في عبارة واحدة - بقوة انفعالاتهم المفاجئة كالبرق، مع نقلنا رغما عنا الى عوالم الخيال الملهم، وعلى الرغم من ان لونجينوس يرفض بوجه خاص الفكرة التي تذهب الى ان هذا التأثير يمكن ان يتم عن طريق الفطرة وحدها ودون عون من الصنعة، فإن اهم مصدر للجلال هو العظمة الفطرية التي تمنح موهبة ادراك الافكار العظيمة، وقوة توليد واستلهام العاطفة كليهما,, والطريقة التي يصف بها لونجينوس (العظمة الفطرية) اللازمة للسمو والجلال هي بالتأكيد مختلفة تماما عن المعرفة التقليدية للموهبة الفطرية بوصفها امرا جوهريا للخطيب او للشاعر,,,، ذلك ان الجلال هو أثر من آثار العقل الجليل, وهذا التركيز على شخصية الكاتب عند لونجينوس وارتباطها باستخدام الكاتب (الشاعر او الخطيب) الدائم لغة الحماسة والالهام، يرفع من شأن (العظمة الفطرية) الى مستوى يختلف تماما عن المستوى العادي الفطرة المكتسبة عند النقاد الآخرين,, ويصعب في الواقع تجنب استخدام مصطلح (العبقرية) عند ترجمة لونجينوس، وخصوصا في مقارنته الشهيرة بين انتاج خال من العيوب لشخص متوسط القدرة، وانتاج انجزه بقوة فطرية عظيمة جدا شخص جليل ملهم وان اتصف بغرابة الاطوار,؟,, ان الانسان الجليل ليرتفع بنا تجاه عظمة الإله الروحية، على حد تعبير لونجينوس.
وتربط مرّي بين لغة الالهام التي يستخدمها لونجينوس في بحث لوصف آثار كل من حالات الجلال والانفعال اللازم لاحداثها، ومفهوم أفلاطون للمس الشعري، أي فكرة الالهام الشعري التي انحدرت الينا من العصور القديمة تأثيرا, فمنذ هوميروس اصبح من المعتاد الحديث عن الشعراء بوصفهم أناسا ملهمين , بيد ان هذه الفكرة كان يوازيها طوال العهد المبكر اعتقاد في أهمية الصنعة الشعرية, والجديد عن أفلاطون هو تأكيد سلبية الشاعر والطبيعة اللاعقلانية لإلهامه، والتي لا تتوافق تماما مع أي فكرة عن الصنعة والتكنيك, ففي محاورة مبكرة إيون 534 يقول أفلاطون:الشاعر مخلوق لطيف، سام ومقدس، غير قادر على التأليف حتى يصبح ممسوسا مغيَّب العقل، فاقد الرشد , وتظل هذه الصورة عن الشاعر الملهم دون تغير جوهري في عمل افلاطون الأخير وهو القوانين , فأفلاطون يصر في ثنايا عمله على ان الشاعر عندما يؤلف شعره يكون في نوبة جنونه مغيب العقل، فهو يبدع بتدبير إلهي، ولكن دون عمل بما يفعل, ويبدو ان أفلاطون هو أول من ربط بين الالهام الشعري بالجنون أو الهوس mania .
والجنون الشعري المقصود هنا هو الذي يمتلك النفس الرقيقة التي لم تمس، موقظا ومثيرا إياها في جنون بقصيدة غنائية وبأنواع من الشعر, ويرى أفلاطون ان من يأتي الى ابواب الشعر دون جنون مقتنعا بأن الفن سيجعل منه شاعرا جيدا، يكون هو نفسه مجدبا, فشعر ذي العقل السليم، يبزه ويتفوق عليه شعر المجنون, وبالطبع لا يعني هذا ان الشاعر مجنون بالمعنى الحرفي للكلمة، ذلك أن أفلاطون يؤكد ان هذا الشكل من الجنون الهامي ويميزه عن الجنون المرضي, كما ان الحالة الذهنية الطارئة للشاعر الملهم هي التي تعني أفلاطون أكثر مما يعنيه لمصطلح المس أو الاستحواذ يبقى على الصلة بالمفهوم التقليدي للإلهام، ولكنه يقبله رأسا على عقب, ففي الأدب الإغريقي المبكر تستخدم فكرة الإلهام بوصفها ضمانا لصدق الشعر وجودته، ولكن تضمين أفلاطون للفكرة يعني ان الشعراء ليس لديهم معرفة أو ادراك، وهو تضمين من الصعب اعتباره مديحا.
ويقارن أرسطو بين نمطين من الشعراء: الشاعر غائب العقل، وهو الشاعر الملهم المعنى الأفلاطوني للكلمة ، والشاعر المفطور، وهو الذي وهبته الطبيعة القدرة على التكيف أو حرية الحركة, وهذه أول صيغة واضحة في الأدب الاغريقي عن التمييز بين الالهام والموهبة الفطرية وتسميتها عبقرية كما فعل كثير من الشراح فيه تحميل للمصطلح أكثر مما يحتمل كمصدرين بديلين للابداع الشعري, وشعراء الاغريق الأوائل أنفسهم، كما رأينا، لا يميزون بين مظاهر الإلهام الوقتي والدائم, وشعر بندار هو الوحيد الذي يتضمن التمييز بين الالهام الذي يمد بالمصدر العاجل للقصيدة وبين الموهبة الفطرية، كخاصية دائمة يمتلكها الشاعر، وأن أيا منهما لا يمكن ان يكون بديلا عن الآخر, ففي ثنايا عمله تبدو العملية الابداعية نابعة من ارتباط الفكرتين، وكلتاهما في نظره عطاء, ثم ان أفلاطون كذلك حين يستخدم الطبيعة أو الفطرة في سياق الشعر، يضعها جنبا الى جنب مع فكرة الإلهام؛ إذ يقول:وسرعان ما أدركت ان الشعراء لم يؤلفوا قصائدهم عن طريق الحكمة، ولكن عن طريق الفطرة، وأنهم بذلك كانوا ملهمين كالعرافين والكهان , ومرة أخرى تبرز الفطرة والإلهام على أساس أنهما عنصران مشتركان في العملية الابداعية الشعرية، وليس أحدهما بديلا عن الآخر, وتمييز أرسطو بين الفكرتين ينبغي دراسته في ضوء تاريخ طويل من تأمين ينابيع مواهب الشاعر، كما تقول مري.
وهكذا نعود الى البداية دائما, ولكننا سوف ننطلق منها في الحلقات القادمة الى بحث الاختلافات الأساسية بين النظرية العربية والنظرية الإغريقية، والعلاقة بينهما في الوقت نفسه.
|
|
|