Thursday 15th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الخميس 29 ذو الحجة


أفق
في شعرية المعاناة: اللغة تجادل الأشياء الأكثر قرباً من الذات
محمد الحرز

إن انفلات الذات الشاعرة واندفاعها إلى عوالم اكثر حرية واكثر تماهياً مع أشياء الوجود وكينوناتها، وكذلك خروجها من اسر المنظومة المعرفية، عبر لحظة من لحظات المكاشفة الشعرية تجعل المقاربة النقدية اكثر حيطة وحذراً في تلامس ورصد شعرية النص ذات الحساسية العالية، حيث الذات وهي تخترق عالمها الداخلي والخارجي على حد سواء، تؤسس بذلك عالماً خاصاً بكلمات الفم حيث الشعر (يهبُّ الأسماء التي تخلق الكينونة، وجوهر الأشياء) كما يقول مارتن هيدجر، وحين تعتبر الكلمات افعالاً ايضاً حسب الشاعر إمرسون, وضمن هذا المنظور للقراءة، وما تشكله من اهمية في الكشف عن العلاقات الكامنة خلف النص (قوانين شعرية النص) لحظة ميلاده وتكوينه الانطولوجي سننفتح على المشهد الشعري الحداثي في ساحتنا الإبداعية والذي يسعى إلى تأسيس حدث الكتابة على نحو جديد ومغاير في ثقافتنا الراهنة، وهو فيما يتحيز ويتوسع ليتسم بالتماسك الكلي في بنيته الداخلية وان تباينت الاصوات, وسنقف على احد هذه الأصوات، وهو الشاعر احمد كتوعه في مجموعته الشعرية (كرة صوف لفت على عجل).
لعل المتأمل في المنجز الشعري لأحمد كتوعة، يشعر ان ثمة لغة تجادل الأشياء، الأكثر قرباً وحميمة من الذات الشاعرة في الخارج المتعين، الأكثر قرباً وحميمية من الذات الشاعرة في الخارج المتعين، وذلك في حركة موغلة في الشفافية حد التلاشي والذوبان، حيث تنبني هذه اللغة، على ما يمكن ان نسميه بشعرية المعاناة المتسربة في النص الكتوعي، وما الفضاء البصري الممتد بين الأشياء والكلمات وبينهما وبين الذات، سوى ايماء مكثف، لتغليب الشعري على النثري والجمالي على المألوف والعادي والتأويلي على التفسيري، حيث يستدعي التواصل والتعاضد بينهما مستوى تتنامي داخله الدلالات وتتفاعل لإنتاج المعنى من جهة، وتحقيق الشعرية بما يتعلق بها من تقنيات فنية مختلفة من جهة أخرى, وإذا ما اقتربنا اكثر من لغة كتوعة الشعرية، يتعمق أحساسنا بأن لغته لا ترتاد افقاً معرفياً يجسد الخبرة المتراكمة في مدار الذاكرة الجماعية الإنسانية، اي انها لا تتجه إلى الماضي في زمنه السحيق بالقدر الذي تتجه فيه الى الحاضر/الواقع وقت التحامها واشتباكها بانفعالات الذات واصطدامها بالدفق اللاشعوري الناتج عنها، وهذا ما يعطي مؤشراً، على أن اللغة تفصح عن تجربة ذاتية،تعيد فيها الذات صياغة نفسها من جديد وبشكل مغاير وكأنها تتوسل حياة فاعلة داخل النص حيث يتجلى الخلق الفني كبديل عن اللعب الطفولي حسب فرويد، ويكفي ان نشير هنا الى ان الصورة الشعرية المعنونة للديوان كرة صوف لفت على عجل تختزل معاناة الشاعر وواقع تجربته الحياتية بجميع مفرداتها، وتذهب بها الى اقصى حدودها الممكنة، مما يفضي بالتالي، إلى انتاج قيمة جمالية خصبة لها خاصية الاستقطاب والجذب بحيث يتكىء عليها الشاعر في تحرير نصه من حدوسات معرفية سابقة عليه، حتى يصل النص الى مستوى (من الملامسة الحسية لاشياء الوجود) كما يؤكد على ذلك محمود أمين العالم وثمة علاقة تراسلية تنطوي عليها الصورة الشعرية السابقة، تكون بمثابة البنية الابتسمولوجية التي تنجذب نصوص المجموعة اليها، وتصب عندها دلالاتها المتعددة، ولعلنا ندلل على ذلك بالنص التالي:
كأنك تنزع من روح هذه الحجارة
التي تقذفها على الماء
فتحاصرك الدوائر
لم يكن بلل الحزن
واللاجدوى
ولكنه وعد ميت
جرعته كثيراً
ان الواقع المحمول في الرؤية الشعرية للنص، يضيء جانباً أو يقوم بتعرية جزء من واقع المعاناة والغربة للشاعر المختبىء خلف تخوم الرمز في ثنايا الصورة الشعرية السابقة، وهذا هو جوهر العلاقة أو النية التي تتراسل نصوص المجموعة فيما بينها، عبر هذه العلاقة؛ ولكي تظل هذه العلاقة تمتلىء بالفاعلية المستمرة وتظل تضبط حركة النص ودراميته، تجنح الذات - كرؤية تقنية - في تخريج الطاقة الانفعالية المتخيلة في الذهن، على شكل موجات ذات عقد متساوية والتي تمثل الصورة الشعرية بؤرة انطلاقها إلى الخارج المتعين، حيث تقوم بتشعير الحياة كما لو ان الذات تعيش في الصور أو تحيا فيها على حد تعبير كارل يونغ، وسنعثر في النص السابق على الدلالة التي تؤكد ما نذهب اليه ففي (,, وكأنك تنزع,, فتحاصرك الدوائر,,) ترسم الذات عبر المشهد الدرامي الصامت، شكل المسار الذي تستدعيه الانا الفاعلة في اضفاء دلالات الخارج (الحجارة)على دلالات الداخل (الروح) بل يذهب النص إلى ابعد من ذلك,, إلى نوع من التوحد يشير إليه الفعل المضارع (تنزع) المثمون بتلاوين الدمج والتماسك، عند ذلك يحدث تشظي في المسافة الواقعة بين الداخل والخارج بين الملفوظات الشعرية ومدلولات الأشياء، ويتعالق عندها الزمنان، ليكونا زمناً واحداً، هو زمن النص، ويحقق بالتالي ما يدعوه النقد الحديث (ايحاء التزامن).
بيد ان النص من جهة اخرى، يستقطب في مداره قانون الطبيعة، ليعضد به شعريته لحظة الكتابة، وهو فيما يستعيد لا يحجب ولا يهتك بل يقولب هذه الاستعارة ويحولها من سياق منطقي إلى سياق اكثر ايحاء وشاعرية ومرونة، وهنا نشير إلى ان هناك نصين من نصوص المجموعة، يخلقان شاعريتهما كما النص السابق، وهما نص (تلاشي) ونص (زيارة):
ام تسكب العصير فوق التراب
لتخط على الرغوة
مقدمة في التلاشي
أو: لا تعتدل
دع جذعك يابساً هكذا
ربما زارك الليلة حطاب
وهنا يشاغلنا سؤال: هل التوظيف السابق يهدد شعرية النصوص أم يبقيها على عتبته؟!
وسنحاول - بعد تلك الوقفة - ومن خلال فاعلية القراءة ان نزيح الستار عن الإرهاصات والتحولات الكبرى للشعرية لكتوعة، إذ يمكننا,.
اولاً: ان نحدد الأشياء المتعينة في الخارج والتي تتوجه نحوها الذات أو الأنا الشاعرة كي تحاورها وتلتحم معها داخل فضاء النص حتى تتحقق شاعريته، وهي كماتتمظهر في نصوص المجموعة مثل: (الشرفة، الكتاب، الباب، السرير، الجدار، الشوارع، الطريق، الغرف، الأصدقاء، النافذة، الرصيف، الكرسي، السقف) وبالنظر إليها نجد أنها تحمل تجليات الذاكرة المكانية المتجذرة فيها، بحيث تشكل تلك التجليات، ابعاداً متداخلة ومتناغمة مع ذاكرة (الأنا) بما تنطوي عليه، من منظومة معرفية - ثقافية قارة، الأمر الذي يصنع جسوراً من العلاقات الحميمية المؤثرة والمتصاعدة باتجاه الوعي كما لو ان الذاكرة، تحيل إلى فضاءات ، تبدو متوضعة في هامش اللاوعي عند الذات، وهي في قبالة الأشياء وفي حالة من التجلي والتأمل لحظة تكوين النص.
ثانياً: يضعنا النص امام انقساماته ضمن اطار بنيته السردية حيث تنقسم الذات داخل النص إلى: انا فاعلة/أنا منفعلة، فالأولى: كامنة في خلفية المشهد النصي، تحركه (اي المشهد) عن بعد إما نازلة باتجاه اعماق الذات او صاعدة باتجاه الرؤيا التي تشوف المستقبل دون ان تحمل في نبرتها اكثر من صوت واحد، هو صوت النص والذات والاشياء مجتمعة.
اما الثانية (الأنا المنفعلة) تمنح نفسها العري الكامل، فيما هي تتجه صوب ما هية (الآخر/الأشياء) لتكتشف نفسها أو تعيد صياغة ذاتها عبر التوحد، كما لو ان الاشياء مرايا عاكسة لماهو في الداخل، بمعنى آخر: انها لا تبحث عن المعنى خارج النص بل تحرك المعنى وتنتجه من الداخل، وهي تتحرك وفق مستويين في النص:
1) مستوى تندفع فيه الأنا بشكل افقي، مطلقة عالمها الداخلي بمفرداته غير المحسوسة؛ كي تجادل اشياء العالم، بحيث تكون حدود المواجهة والتوحد عند حواف الجسد الانطولوجي للنص.
بمعنى: ان الذات هي التي تنسج شعرية النص دون ان يكون للجسد حضور فاعل في عملية الخلق أو النسج، ولنأخذ امثلة على ذلك:
حسنأ
هو الضياء حائط امامك
لم لا ترشه
بعتمتك؟
أو: لن تطال حلمه السقف
بعيد
كلما جلبت سلماً
تغابى
انها الذات,, في المقاطع السابقة - هي الأكثر ارتباطاً من الجسد في تماسها وتعايشها مع: الحلم - الضياء - العتمة,, وغيرها من المقاطع الاخرى.
اما المستوى الآخر فالأنا تنطلق فيه بشكل عمودي تجعل المسار الشعري للنص، مبعثاً لانتاج الصور الشعرية ذات التركيبة الاستعارية التي تلتحم طرفاها وتتماهي الموجودات والماهيات داخلها، حيث يتبين لنا انه ليس الذات فقط - كما اشرنا سابقا - تدخل في ترابط عضوي جدلي مع الاشياء بل نرى كذلك جسد النص وهو يدخل في المغامرة الكبرى مع الذات فكلاهما يغيبان عن الوجود العيني ليحضرا في الرؤيا/الحلم محققين بذلك ما يمكن ان نسميه بشعرية التجربة الذاتية او الخاصة بوصفها تجربة لا تحيل إلى رجعيات ثقافية خارج إطار حدودها، ونلمح الآن إلى بعض الجمل الشعرية على ذلك:
ولكنك مموه انت ايضاً
ومتخذ شكل مسمار
منحنٍ على جدار
أو:
لعلك ريشة متسكعة
عما قليل
تدوي على الارض
أو: وانت في تفاحة يقضمها
العابرون في قارورة مطفأة
الأصدقاء,.
أو: اخوك الكبير:
مستودع مزدحم بالنفايات
كرة من الصوف لفت على عجل؟
وثمة نص آخر، يتموضع في فضائه، المستويان الافقي والعمودي ولكنهما يظلان بمنأى عن التقاطع في فضاء النص كأن كل مستوى يمثل شكل دائرة تتوالد داخلها الصور الشعرية بنفس متلاحق دون ان يتعدى ذلك، حدود الدائرة التي تسير فيها الصورة ونجد ذلك في نص مساء).
مما سبق تبدو نصوص احمد كتوعة اكثر تجانساً وتناغماً بين مكوناتها التعبيرية والجمالية حيث تمنح نفسها طابعاً شديد التماسك وهي تتموج حركياً في السياق الشعري للتجربة، ولكن ينهض امامنا نص (مسرح) كنص استثنائي أو ناشز عن بقية النصوص الاخرى سواء في بنيته السردية أو انزياحاته الدلالية انه نص يوسع من حيزه الزماني وذلك عبر استحضار رمز تاريخي بحيث يتم استنطاقه داخل زمن النص في حركة سردية، تعتمد على التصعيد الدرامي للمشهد، وبالتالي يحدث انكسار للزمن الموضوعي المقابل للنص ثم لتنفيذ الزمن الميثولوجي ويسافر النص الى اقصى لحظاته الماضية والمستقبلة هذا من جانب ومن جانب آخر بترك الباب مفتوحاً للتواصل مع الذوات الأخرى من خلال تناصية تستدعي النص الاول (القرآن الكريم) وتتقاطع معه مما يؤسس لرؤية/رؤيا مغايرة لرؤية النصوص في المجموعة، هذا مع ملاحظة اننا نظرنا إلى النص من خلال السياق العام للنصوص دون ان ننزع النص من سياقه مع النصوص، ومن ثم نقرأه منعزلاً عن ذلك ويمكن ان نشير الى مقطع للنص.
وسيبقى ان نؤكد اولاً: اننا عندما اصغينا الى نص كتوعة وسافرنا معه، كنا معتمدين في القراءة على تقاطع المخيلة مع المناهج النقدية حسبما يقول رولان بارت مما يتيح لنا حرية اكثر في التأمل والاصغاء للنص.
ثانياً: لم تكن تسعى هذه القراءة للإطلالة على نص كتوعة لحظة تعالقه وتراسله مع تجارب شعرية أخرى من نفس السياق التجريبي للنص الحداثي، وإنما ظلت تترصد النص في الداخل، وإن كنا نجد إضاءة هذا الجانب، يشكل منحى مهماً في رصد ملامح عامة لشعرية المشهد عندنا.
رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
فنون تشكيلية
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved