توصل لقاء وزراء خارجية دول حلف شمال الاطلنطي (الناتو) الى ضرورة مواصلة الضرب للصرب حتى يقبل الرئيس سلوبدان ميلوسيفيتش بمعادلة الحكم في كوسوفا التي نظمتها الوثيقة الموقعة من الطرف الكوسوفي، ورفض الطرف الصربي التوقيع عليها، وكان الامتناع عن التوقيع سببا في اشتعال حرب الناتو لبلجراد حتى تقبل بالتوقيع على الوثيقة.
تقوم روسيا بدورين متزامنين التهديد والوساطة لوقف اطلاق نار الناتو على الصرب، فلما عجزت عن تنفيذ وعيدها، وفشلت في وساطتها دفعت بلجراد الى المطالبة بالهدنة مع الاشارة الى قبولها التوقيع على وثيقة الحكم الذاتي لإقليم كوسوفا حتى يستجيب الحلف للهدنة طالما انها تلغي مسببات القتال.
واضح ان موسكو وبلجراد يجهلان تاريخ الحروب بالخلط الواضح بين مسببات ونتائج الحرب فالأسباب للحرب عادة ما تكون تافهة تتصاعد بالعناد حتى يتم الصدام المسلح، بينما نتائج الحرب تفرضها مجريات القتال وحسابات الخسائرفي الارواح والاموال التي تؤصل العداء بين الطرفين او الاطراف المتقاتلة بصورة تفرض نتائج جذرية للحرب تفوق في حجمها الاسباب التي ادت الى اشتعال الحرب.
هذه الحقيقة تجعل من المستحيل ان تخرج بلجراد من الحرب بالتوقيع على وثيقة الحكم الذاتي لاقليم كوسوفا التي رفضت التوقيع عليها، وانما لابد ان تحدث تغييرات جذرية للحكم القائم في بلجراد تغيب الوجوه السياسية عن كراسي الحكم وتلغي الديكتاتورية في الممارسة السياسية واستبدالها بالديمقراطية حتى يتحقق التوازن في داخل الدولة بكل انعكاساته على الاقليم ونتائجه على الامن الدولي.
وزراء خارجية الناتو قرروا في اجتماعهم الاخير انهم يبحثون عن ايجاد وضع جديد لاقليم كوسوفا بعد ان اصبح الحكم الذاتي لا يضمن له كينونته المستقلة وتعايشه تحت مظلة دولة تناصبها اقاليمها المختلفة العداء، واقترح ان يخضع اقليم كوسوفا الى شكل من اشكال الحكم الدولي غير ان هذا التدويل لم يأخذ حتى الآن معالمه الواضحة بسبب انشغال اعضاء حلف الناتو في القتال الدائر الذي يفرض عليهم تطهير البلقان من الفكر العنصري العرقي والديني قبل الجلوس والبحث عن مظلة التدويل لاقليم كوسوفو.
من الطبيعي ان ترفض بلجراد هذه النتيجة للحرب فأعلنت تراجعها عن الهدنة لتواصل القتال ضد قوات حلف الناتو وأعدت العدة بحفر الخنادق حول اقليم كوسوفا استعدادا لمعركة المواجهة بين الجند على الارض، وهي حسابات خائطة لان قرار الناتو عدم استخدام سلاح المشاة مع الصرب واستعاضه بالطائرات المروحية اباتشي ذات القدرة المتميزة في الاداء القتالي الرفيع على الارض بملاحقة الدبابات ومطاردة الجيوش دون الحاجة الى المواجهة المباشرة بين الجنود فوق الارض التي تشكل ميدان المعركة النهائي.
قرار رئيس الصرب سلوبدان ميلوسيفيتش بمواصلة القتال ادى الى التمرد بين صفوف قيادات الجيش وجنودهم لان القتال لم يعد دفاعا عن ارض الوطن وانما اصبح دفاعا عن النظام القائم في بلجراد الذي لا يقتنع بشرعيته الناس الا بالقمع تحت ضغط الحديد والنار، الذي يجبرهم على مواصلة القتال باحتمالين، الحياة والموت معا، هربا من الموت المؤكد على يد السلطة الحاكمة في حالة اعلان العصيان لها.
غياب الحس الوطني بالدفاع عن الوطن بين صفوف الجند الصربيين يقلل من كفاءتهم القتالية بعد تحويلهم الى جنود (انكشارية) لفظ تركي يعني مرتزقة عن نظام الحكم القائم في بلجراد، والارتزاق بين جند اي دولة يعكس المعالم الواضحة للديكتاتورية القائمة بها.
قاد هذا التيار الارتزاقي في القتال الجنرال الصربي اركان في البوسنة والهرسك وأباح المدن لجنده كثمن لقتالهم مع النظام فقتلوا ونهبوا الرجال وقتلوا واغتصبوا النساء، وتدارى المجرم اركان عن الانظار الدولية بتغيير اسمه ومهنته بعد ان اصبح صاحب بقالة في بلجراد وظهر فجأة على شاشة التلفزيون الصربي ليعلن بانه سيكرر في كوسوفا ما فعله في البوسنة والهرسك دون ان يعبأ بالمطاردة الدولية له لمحاكمته عن جرائمه ضد الانسان الأعزل المدني في زمن الحرب.
ليس من الصدفة ان ينشط تيار القتل للرجال والاغتصاب للنساء في اقليم كوسوفا بعد ان كلف الرئيس سلوبدان ميلوسفيتش الجنرال اركان بقيادة جيوشه صوب كوسوفا، وانما جاء ذلك بتخطيط الجنود المرتزقة للقتال بالحصول على الغنائم بالنهب وعلى اللذة المحرمة بالاغتصاب.
النساء الفارات من اقليم كوسوفا اللاتي تتراوح اعمارهن ما بين 15 الى 40 سنة اعلنّ انهن تعرضن للاغتصاب من الجنود الصربيين وشاهدن بعيونهن قتل آبائهن وابنائهن وازواجهن ونهب ممتلكاتهن، وسارعت الحكومات الغربية الى ارسال حبوب لمنع الحمل من خصائصها اسقاط الأجنة من الأرحام حتى لا تتكرر مأساة ما حدث في البوسنة والهرسك من كره الامهات لابنائهن الذين جاءوا نتيجة للاغتصاب، وفي ذلك مخالفة واضحة لنواميس الحياة التي تنزل الحب والعطف والرحمة في قلوب الامهات لما يلدن من ابناء وبنات.
الحكام الذين يفرضون الموت على المواطنين بالقمع والذين يسوقون الشباب الى القتال لحماية انفسهم والاحتفاظ بسلطاتهم الديكتاتورية لابد ان ينزع الحكم منهم وتقديمهم الى محاكمة دولية كمجرمي حرب وسلام معا وأحد هذه النماذج للحكم الديكتاتوري المتسلط سلوبودان ميلوسيفتش الذي نطالب باسقاطه من السلطة والحكم كنتيجة طبيعية لحرب الناتو في الصرب والقاء القبض عليه وعلى اعوانه من امثال اركان وتقديمهم جميعا لمحكمة دولية تنزل عليهم العقاب الصارم اقتصاصا من الجرائم التي ارتكبوها والرادع لغيرهم حتى لا تتكرر جرائم الحكم الديكتاتوري على الناس في السلم والحرب في دول ومناطق اخرى.
من الخطأ الفادح ان نكرر ما فعلته قوات التحالف الدولي تحت مظلة الامم المتحدة مع الرئيس العراقي صدام حسين بابقائه في السلطة بعد حرب عاصفة الصحراء على الرغم من مطالبتنا مع غيرنا بضرورة الاطاحة به وانتزاع الحكم منه لان بقاءه بالسلطة في بغداد يمثل استمرارا لجريمة الحكم الديكتاتوري في الوطن العراقي الذي فرضت الموت عليهم بالقمع السياسي وارسال الشباب الى حروب لا دفاعا عن الوطن وانما حماية للنظام.
وقوبل اقتراحنا بعزله عن الحكم ان الجيوش التي جاءت تستهدف تحرير الكويت ولايدخل في اختصاصها اسقاط النظام في بغداد لانه من حق الشعب العراقي الذي له ان يبقي او يسقط صدام حسين من سدة السلطة والحكم، دون ادنى مراعاة ان الشعب في العراق اعزل وخاضع لسلطة قابعة تحرمه من قول كلمته الحرة مع أو ضد النظام.
وقعت الحكومات الى ارسلت بجيوشها لتحرير الكويت في حسابات سياسية خاطئة لانها استندت الى معطيات الفكر الديمقراطي التي تقرر حتمية سقوط الحاكم بهزيمته العسكرية بينما معطيات الفكر الديكتاتوري تقرر بان بقاء الحاكم في موقعه بالسلطة بعد الهزيمة العسكرية يمثل في ذاته انتصارا، وعبر عن هذه الحقيقة صدام حسين نفسه بعد خروج جورج بوش من البيت الابيض بانتخابات الرئاسة الامريكية بقوله العلني (لقد خرج عدونا جورج بوش من السلطة وبقينا نحن فيها رغم انفه وفي ذلك انتصار لنا عليه ومن حق جماهيرنا الشعبية ان تحتفل بهذا الانتصار المبين) صفقت له الجماهير وقامت الاعياد في كل ارجاء العراق.
بعد مضي ثماني سنوات تأكد للغرب ضرورة عزل صدام حسين من موقعه في السلطة واخذت واشنطون وغيرها من عواصم غربية تدعم المعارضة العراقية حتى تستطيع الاطاحة بصدام حسين ونظامه ولكن هذا الدعم يسير في طريق متعثر لان سبل الوصول الى الهدف صعب للغاية بعد ان كان سهلا ميسرا في ايام عاصفة الصحراء التي حررت الكويت من العدوان العراقي.
النظرة المجردة والموضوعية تفرض علينا بإلحاح المقارنة بين المجرمين في السلطة صدام حسين في بغداد، وسلوبودان ميلوسيفيتش في بلجراد، لنصل الى نتيجة صادقة ان كلاهما لا يصلح للحكم ومن الواجب الدولي الخلاص منهما رحمة بالشعبين العراقي والصربي لان وجودهما واستمرارهما في السلطة يرسخ بقوة معطيات التفكير الديكتاتوري وممارساته غير الانسانية ضد المواطنين في البلدين وضد الدول في الاقليمين.
ادعو قوات حلف الناتو اليوم الى التخلص من سلوبودان ميلوسيفيتش بالحرب التي يخوضها الحلف اليوم ضد النظام القائم في بلجراد للقضاء المبرم على احد معاقل الحكم الديكتاتوري من العالم لان مايفرضه علينا الفهم السياسي لأمن اوروبا يتطلب وضع القواعد الحقيقية للديمقراطية في اقليم البلقان حتى تتحقق العدالة بين دوله بالاستقرار في داخل كل واحدة منها وبالرفاهية الاقتصادية التي تحقق رغد العيش لكل الناس فيه وبدون ذلك تبقى اوروبا (على كف عفريت) يفرض عليها احتمالات الانزلاق في حرب كبرى دون ان تشعر وبدون ارادتها كما حدث في الحربين العالميتين الاولى والثانية.
اريد ان اقول ان الانتصار في الحرب لا يكون بتدمير المدن على رأس المواطنين بها وانما الانتصار في الحرب يتحقق برفع المعاناة عن الناس من الانظمة الديكتاتورية التي تنزل العذاب على كل الناس عند طلوع الشمس وغروبها.
اذا خرج حلف الناتو من هذه الحرب الدائرة في الصرب دون ان يحقق عزل سلوبودان ميلوسيفيتش ويلغي النظام الديكتاتوري في بلجراد، ويفرض الديمقراطية في كل الربوع البلقانية سيكون منهزما في هذه الحرب حتى لو حقق الانتصار العسكري فيها.
معالم هذا الانتصار تتضح من النتائج التي تتحقق فوق اقليم كوسوفا بعودة المواطنين اليها وباعطائها استقلالا كاملا عن الصرب لتكون نموذجا للديمقراطية والعدالة والرفاهية الاقتصادية التي نتطلع لسيادتها في كل اقليم البلقان.
|