Wednesday 14th April, 1999جريدة الجزيرة 1419 ,الاربعاء 28 ذو الحجة


يارا
العطر المشتق من جثث الفتيات الصغيرات الجميلات
عبدلله بن بخيت

كم جثة سيحتاج غرنوي حتى يحقق حلمه لانتاج اعظم عطر شمته الانسانية؟
أول جثة كانت لفتاة في الخامسة عشرة من عمرها وجدت ملقاة في مزرعة مقتولة بضربة هراوة على مؤخرة رأسها, وبعد فترة وجيزة حدثت جريمتان والضحيتان كانتا فتاتين في غاية الجمال (من النوع الناعس من ذوات الشعر الاسود) في وضع يشابه وضع الاولى محزوزتا الشعر وبجرح في مؤخرة الرأس ناتج عن ضربة هراوة.
انتشر الذعر بين الناس فاتخذت كل التدابير اللازمة للايقاع بالمجرم ورغم كل الاحتياطات وجدت جثة اخرى لفتاة في عمر الضحايا السابقة وفي نفس وضعهن ولطمأنة الناس منعت النساء من التجول وأعلن اغلاق ابواب المدينة في الليل إلا ان مسلسل القتل استمر بنفس الوتيرة كل اسبوع هناك جثة لفتاة صغيرة جميلة في مرحلة التحول من الطفولة إلى البلوغ حتى بدا القاتل وكأنه يأتي من الغيب وليس بشرا سويا, ولتحديد اسباب القتل عرضت كافة الجثث على التشريح والفحص وتأكد احتفاظهن بعذريتهن الكاملة فأصيب الناس بمزيد من الجنون والذعر ما الذي يريده القاتل من ضحاياه؟ ولماذا تختفي ملابسهن وشعورهن فقط؟
(لور) ابنة المستشار ريتشي لابد ان تكون ضحية قادمة فهي لا تنطوي فقط على كل الشروط التي يطلبها المجرم في ضحاياه بل تكاد تتخطى عتبة الجمال الانسانية فقرر والدها بعد تحليل منطقي للاحداث الرحيل بها إلى مكان آمن بعيداً عن غراس مسرح الجرائم المروعة حتى تهدأ عاصفة موت الفتيات الصغيرات الجميلات, وفي الوقت الذي يغادر فيه ريتشي مع ابنته كان غرنوي العبقري القذر يمتلك اربعا وعشرين قارورة تحتوي على شذا أربع وعشرين فتاة عذراء كان في مزاج حسن ومعنويات عالية لان الخامسة والعشرين والاخيرة التي هي شذا وردة فتيات العالم ستحضر اليوم.
بالصدفة سمع ان لور وردة فتيات الارض غادرت المدينة مع ابيها فحضر كل ادواته الضرورية لاستخلاص العطر وأسرج أنفه في اتجاه الجنوب مقتفيا اثر القافلة, لقد كان على قناعة تامة انه ليس قادرا على صناعة العطر الذي ينسبه للبشر بل ذلك العطر الذي يجعل الناس تهيم فيه حتى جنون.
كانت لور ووالدها قرر ان يمضيا الليل في فندق صغير في الطريق الى كابريس ولكن غروني تتبعهما وانتظرهما في زريبة الفندق, وبعد ان نام الجميع تسلل من النافذة الى غرفة لور ثم ألتفت إلى السرير (فكان عبق شعرها مهيمنا,, وقد ضغطت وجهها المحاط بذراعها في الوسادة بحيث كانت مؤخرة رأسها معرضة بوضعية مثالية لضربة الهراوة) وبعد ان فارقت الحياة وضع قطعة القماش المطلية بالدهن على جثة الفتاة وطواها فلم يعد يظهر من الجثة سوى الشعر فجزه من منابته ولفه في قميص نومها وبعد ان احكم لف الجثة لم يعد أمامه سوى الانتظار ست ساعات حتى يتسرب شذاها ويلتصق بالدهن, ومع انبلاج الفجر سحب قماشته من الجسد ومسح عن الجسد اي قطعة دهن ربما تخلفت, الآن اصبحت لور بالنسبة له مجرد ميتة لا قيمة لها فأخذ شعرها وقميص نومها ومخزون شذاها وغادر الفندق.
عندما سمع الناس في اليوم التالي بما حدث للور صعقت من جديد وعرفوا أنه لا نجاة أبدا من هذا القاتل, وبعد التحري اشارت كل الدلائل ان المجرم هو صبي الدباغ, ولم يطل الامر حتى القي عليه القبض واعترف بكل بساطة بكل جرائمه، ولكنه رفض رغم كل التعذيب ان يعترف لهم بالسبب كانت الناس في عجلة من امرها فحكم عليه بالموت, وفي اليوم المقرر لتنفيذ حكم الاعدام خرجت الحشود المهيبة في احتفالية لم تشهد مثلها مدينة غراس من قبل ظهروا في أحلى ملابسهم وقد اطلقوا على هذا اليوم يوم الحرية.
توقفت العربة التي تقل المجرم في وسط الساحة المكتظة وهبط منها الحرس اولا, وفجأة أطل غرنوي فحدث شيء اقرب الىمعجزة شيء ما أخجل الجميع عندما خرج جسده الضئيل انقلبت المشاعر وامتلأت نفوس الحشد بالحب الطاغي والهيام, وأخذوا ينظرون إليه كملاك هبط من السماء, انه البراءة المتجسدة في صورة انسان, حتى الجلاد ارتجفت يداه, وشعر بهلع في قلبه كطفل, كان هذا حال الحشد بأسره رجال، أطفال، شيوخ (كان مثلهم كمثل صبية صغيرة خاضعة لسحر حبيبها) وغمرهم شعور طاغ بالود والحنان, حتى ان السيدات عبرن بكل صراحة عن روعة هذا الشاب فصدحن بالغناء حتى سقطن مغشيا عليهن من الهيام (كان غرنوي مبتسما، بالاحرى هكذا رأوه وكأنه يبتسم ابتسامة هي الاكثر براءة وحبا وسحرا وغواية في الوقت نفسه في العالم اجمع, ولكنها لم تكن في حقيقة الامر كذلك بل كانت ابتسامة متكلفة بشعة متهكمة ارتسمت على شفتيه عاكسة نصره الكامل واحتقاره الكامل فهو جان باتيست غرنوي المولود دون رائحة في اكثر اماكن العالم تخمة بالروائح الكريمة الناشئة من القمامة والغائط العفن، الذي تربى دون حب وعاش دون روح انسانية دافئة وفي اللحظة ادرك غرنوي (أن الحب لن يشبعه أبدا وإنما الكره، ان يكره وأن يكون مكروها), وفي هذه الاثناء تقدم منه ريتشي والد لور الذي كان قبل قليل يتوق لشرب دمه، واحتضنه وأخذه لبيته بعد ان أغمي عليه وأنامه على سرير لور نفسه وأبلغه ان المجلس تراجع عن الحكم والشهود تراجعوا عن شهاداتهم، انت حر الآن، ثم قال له مرتجفا من شدة الحب: هل تقبل ان تكون ابنا لي؟ نام غرنوي هانئا لانه يعرف ان مفعول العطر مازال قائما حتى ذهب ريتشي إلى غرفته فتسلل من البيت وغادر غراس عائدا إلى باريس وفي كل مرة يمسك قارورة العطر ويتأملها لم يستهلك منها إلا قطرة صغيرة في حفل اعدامه، ففيها ما يكفي لغواية العالم أجمع.
وصل إلى باريس في السادسة صباحا، وفي يوم اشد ايام السنة قيظا وصل مقبرة الابرياء كان اليوم عفنا عطنا كيوم مولده، مكث حتى منتصف الليل بعد ان غادر حفارو القبور فدبت الحياة حيث ظهر السفلة واللصوص والقتلة وضاربو السكاكين والعاهرات والفارون من الجيش والشباب الجانحون فأوقدوا ناراً صغيرة وعندما ظهر عليهم غرنوي لم ينتبهوا له في البداية كانت زجاجة العطر في يده فرفع عنها الغطاء ثم أخذ يرش على نفسه منها كان هذا آخر مايتذكرونه (وفجأة انسكب عليه الجمال كنار متأججة) شعروا بأنهم منجذبون بقوة سحرية له جاذبية لا يمكن لمخلوق مقاومتها فشكلوا حوله حلقة ثم أخذوا يتدافعون كل يريد ان يكون هو الاقرب من غرنوي, وأخيراً انقضوا على الملاك الساحر, كل يريد ملامسة قطعة شرارة من ناره الرائعة، فأخذوا يتناهبون جسده وفي لحظة اختفى غرنوي من الوجود كأنه لم يوجد أبداً.
كانت تلك (ثيمة) رواية (العطر: قصة قاتل) لكاتبها الالماني باتريك زوسكيند ترجمة نبيل الحفار والناشر دار المدى.
رواية ترقى إلى واحدة من اعظم كلاسيكيات القرن العشرين مثل مائة عامة من العزلة للكاتب الكولمبي غارسيا ماركيز ومحبوبة للأمريكية توني مورسون وقلائل أخرى فالخيال الانساني لا حدود له.
لمراسلة الكاتب
Email, albakeet @ suhuf. net.sa

رجوعأعلى الصفحة
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير