(لم يبد غرنوي اي ادنى اهتمام بالجريمة المروعة التي ارتكبها في حق فتاة صغيرة للبدء بمسيرة تكوين العطر العظيم, لقد نسي حتى شكل الفتاة طالما ان شذاها ما زال عالقاً في أنفه).
أتاحت له الصدفة أن يتعرف على واحد من اهم العطارين في باريس الذين تجاوزهم الزمن, وقد اكتشف هذا العطار المقدرة الرهيبة التي يمتلكها غرنوي على تحسس جمال العطور فأفرد له معمله وأدواته ومواده ليعمل له عطوراً ينافس بها العطارين في انحاء باريس.
شعر العطار بالديني ان مجرد العمل مع هذا الشاب ملأه بالاحساس بالذنب, فرغم السنوات التي استفاد فيها منه حتى اصبح اعظم عطار في العالم كان لديه الاحساس ان العمل مع هذا الشاب فيه شيء من ارتكاب الذنوب فما ان اعطاه الشهادة المهنية وودعه وشاهده وهو يسير نحو الجنوب, شعر بارتياح عظيم لأنه لن يشاهد غرنوي مرة اخرى.
لم يسمع غرنوي بما حل ببالديني لحظة رحيله عنه, فهو لا يريد ان يلتفت الى الوراء ابداً, فقد ترك باريس الى الابد وذهب الى عالم العزلة الكاملة ليؤسس هناك مملكته الوحيدة التي لا يشاركه فيها احد: مملكة الروائح اللانهائية, فبعد اسابيع من الرحيل اكتشف ان مأساته هي روائح البشر المنتنة, فالتجأ الى جبال سنترال حيث لا يوجد كائن من ذوات الدم الحار سوى بعض الخفافيش والأفاعي والجعران.
تكشفت له حقيقة علاقته بالعالم عندما انزوى في اقاصيه الموحشة حيث تجنب امكانية ان تطال انفه رائحة البشر المزعجة,, فبقي سبع سنين لا يأكل سوى الجرذان والافاعي لم يذق فيها مما يأكله البشر, ولأنه لا علاقة له بالمتع الحسية لم يشعر بأي فقد او حسرة, دخل ملكوت الروائح التي اكتنزها طوال حياته بادئاً برائحة القس ومدام غيار ورائحة الجثث في مقبرة الابرياء, رتع في البداية في القرف ثم روائح البحر والفجر والمراكب والاخشاب وقبل لحظات الانهاك من تقليب مملكة الروائح بلغ رائحة الفتاة ذات الشعر الأحمر التي خنقها ليحتفظ برائحتها تتويجاً لمملكة الروائح المحتشدة في دماغه، كان سيبقى هنا الى الأبد لولا كارثة اكتشافه بأنه الوحيد في هذا العالم الذي يخلو من الرائحة تماماً تشمم كل عضو في جسده حاول ان يدخل الى جسده دون جدوى انه رجل بلا رائحة, لقد طردته هذه الحاثة من مملكته المعزولة وبصقته في هذا العالم مرة اخرى, دخل العالم مجدداً وفي ذهنه ان يصنع لنفسه رائحته الخاصة انه ملك الروائح الذي لا ينازع.
ان رائحة البشر ليست عطراً انها مجرد عبق خاص ولكل انسان عبقه الخاص المتميز لقد ركبه غرنوي ببساطة (ملعقة صغيرة من غائط القطط تمزج مع قطرات من الخل ورشة ملح واضاف اليها قطعة جبن قديمة ومتفسخة ثم قليل من الساردين تفوح منها رائحة السمك الزنخ خلطها مع بيضة فاسدة وشيء من الخروع والامونياك وجوز الطيب ومسحوق القرن وشحم مع كمية كبيرة من الزباد ومزج هذا الخليط مع الكحول وفوق هذه الروائح صب غرنوي بعض الزيوت المنعشة كزيت النعناع والتربنتين والليمون الحلو والاوكالبتوس، اضافة الى طبقة خفيفة من زيت الجيرانيوم والورد والبرتقال والياسمين فضاعت رائحة العطن المقرف, فأصبحت الرائحة غريبة ومثيرة انها رائحة الانسان, صب هذا العطر على جسده واكتشف لأول مرة ان الناس اصبحت توليه اهتمامها, لقد اصبح له رائحة انسان حقيقي, كان قراره ان ينتج العطر الذي يجعل الانسانية تهيم فيه, يريد لكل انسان يخطو داخلاً محيط رائحته ان يذوب من الرغبة والشهوة والحب.
وفي رحلته الملتوية وصل اخيراً الى بلد غراس مركز انتاج وتجارة مواد العطارة والعطور, طالما حدثه عنها بالديني بأنها روما العطور, شاهد المدينة وطاف بدكاكين العطارة فيها ولكنه توقف فجأة امام منزل لا يلفت النظر ولكن هناك شيء ما سمره في مكانه وجمده انه عبق الفتاة ذات الشعر الأحمر التي قتلها في باريس, ان يجد هذا العبق مرة اخرى في هذه الدنيا جعل الدموع تترقرق في عينيه من الفرح, شاهد الفتاة مصدر الشذا العظيم, انها مجرد طفلة صغيرة ولكن عندما تتفتح بكامل بهائها الأنثوي (فستغدق من ذاتها عطراً لم يعرفه العالم من قبل, بعد سنتين فقط سيكتسب هذا العبق قوة لن يتمكن اي انسان من التملص منه لا رجلاً ولا امرأة).
ان يريد هذا العطر لنفسه, يريد ان يسرقه من هذه الفتاة ويلبسه على جسده, ان انتزاع عبقها ليس مستحيلا, يشبه انتزاع عبق الوردة والزهرة وحفظه في الكحول, اذا على الفتاة ان تنتظر سنتين لتصبح امرأة ناضجة كاملة الشذا, وعليه هو ان يكتسب الخبرة في انتزاع العطور من اروع زهور خلقها الله (الفتيات الصغيرات الجميلات) كم فتاة صغيرة جميلة سيحتاج الى جثتها لينتزع منها العطر الذي سيسحر الانسانية؟.
البقية (الأخيرة) يوم الأربعاء القادم.
لمراسلة الكاتب:
E-Mail:albakeet@suhuf.net.sa
|